باولو كويلهو والسؤال الوجودي

الرواية حين تصبح حقلاً فلسفيًا بامتياز

باولو كويلهو والسؤال الوجودي
TT
20

باولو كويلهو والسؤال الوجودي

باولو كويلهو والسؤال الوجودي

تعتبر الرواية خزانا للخبرة البشرية بكل عمقها، وتعبيرا عن تداخل الواقعي بالتخييلي، واختبارا لعمل المفهوم الذي لا ينفصل عن شخوص الرواية في صيرورة تفاعلاتها مع ممكنات الوجود. إذ لا عجب أن تصبح الرواية حقلا فلسفيا بامتياز؛ حقلا للتجارب الفلسفية المنفلتة من جبروت اليومي وضغوطاته. وتصبح كذلك، شبكة مقاومة لكل أشكال التنميط والتخشب. فالرواية هي المجال الوحيد الذي يمكن أن توظف فيها كل المعارف. حينئذ، تكون للروائي نظرة موسوعية، ليس فقط عن المجتمع الذي ينتمي إليه، بل ربما عن التاريخ والإنسانية جمعاء. لذلك، فالروائي الكبير يؤثر في مجتمعه وغير مجتمعه، رغما عنه، لما تتضمنه رواياته من قضايا. وهذا ما ينطبق على لقائي الأول بباولو كويلهو، ولو كان في فترة متأخرة ربما. لكن المشكل هو أن هذا التأخر تحول، فيما بعد، إلى شغف لامتناهٍ لقراءة جل مؤلفاته التي تحمل في عمقها أبعادا فلسفية عميقة جدا، لكينونة الإنسان ووجوده المؤرق، والقلق بالطبع لمن يفكر في ذل. إن لكتابات باولو كويلهو عمقا في حضور الإنسان في أبعاده السيكولوجية، والصوفية، والتاريخية، والاجتماعية، والجمالية كافة. إنها أزمة وجود، وأزمة حضور، وأزمة كائن، وأزمة معتقد. إن من يقرأ لكويلهو، سينغمس في أول الأمر، في عوالم، وسيتوه في تجريدات ومتاهات كثيرة للعقل الإنساني. وسيحاول قدر الإمكان، التمسك بقارب نجاة وسط الأمواج العاتية التي تتقاذفك من كل صوب وحين. إنك ستغوص في ذاتك بقوارب وحبال، ليست من القوة بمكان حتى تحقق بفضلها النجاة الفعلية. لكن الأمر الممتع، هو تلك اللذة العقلية التي تجدها وأنت تنتقل بين تلك المتاهات الفكرية، تبحث بلا هوادة، ولا تعرف إلى أين سيصل بك مسارك، وأنت تسبر معه الأغوار البعيدة والعميقة، لتصل إلى متعة ستدفعك إلى إدمان القراءة والبحث عن المزيد، إن أمكن.
فالمتصفح لكتابات كويلهو، سيتعارف، ويتواصل، ويسافر، ويقيم علاقات مع أناس ستجمعه بهم الكثير من المميزات، والكثير من نقط التقارب. ستنبعث في قارئ كويلهو روح جديدة، بعدما أصبح رميما. ستصادفه إسقاطات دلالية كثيرة، وتأويلات، ومجازات، وألغاز، والقائمة طويلة. وسيعبر الزمن تارة على حمار جحا، وتارة أخرى على حصان نيتشه، وأحيانا ثالثة في مسار ضوئي أينشتايني.
هذا السفر بين العوالم متعب أيضا، لما يطرحه ويتناوله من أسئلة ستثير لعابك كقارئ، وتوقظ أسئلتك، وتستفزك في الكثير من الأحيان. ففي روايته «الخيميائي» التي امتدت شهرتها إلى أبعد أفق، سنسبح في كل هذه العوالم من خلال الراعي سنتياغو، الذي آنسه الكتاب طيلة لحظات وحدته وخلوته مع قطيعه. فيه استطاع أن يترك العنان لعقله وخياله ليأخذه إلى البعيد. واستطاع من خلاله، التجرد من ضيق المكان ومحدوديته، ومن تحقيق أسطورته الشخصية، لأنه، كما قال كويلهو: «فكل الكون سيتآمر من أجل أن يحقق أسطورتك الشخصية». وبالتالي، تحقيق وجودك بالقوة وبالفعل. فلا شيء مستحيلا مع كويلهو تقريبا، في جل كتاباته. فما يلزم فقط هو الاقتناع بالذات، وبقدرتها اللامحدودة على اختراق الممكن والبعيد أيضا. إنه مسار شاق أحيانا، لكنه ممتع في مجمله، لما يستطيع أن يكتسبه الباحث عن الذات وعن المعرفة من عمق في المعنى لوجوده. فوراء كل صورة حكاية لشخوص الرواية. ففي مسار أسطورتك الشخصية، ستقابل شخوصا كثيرة. هناك من سيثبطك، وهناك من سيدفع بك، وهناك من يحفزك، وهناك من سيلعب دورا في مسارك. لكن المهم في خضم كل هذا، هو أنت، الذات المفكرة المصرة المفعمة بالأمل، في الوصول، وفي تحقيق الهدف، على الرغم من كل المعوقات. فأنت كفارس النور، على حد تعبير كويلهو، في سياق رواية أخرى لكويلهو، سيهزك ما ستصل إليه في الأخير من معنى ومغزى لما كنت تبحث عنه. وستكشف أبعادا جديدة لتلك الذات اللغز التي حفزتك في البداية. بمعنى أن ما سيحصل هو انفراج للغيوم التي تحجب عنك الرؤيا الصحيحة للذات وللآخر وللكون. فالكنز الذي كان يبحث عنه سنتياغو في البداية، كان في أول الأمر يتخذ طابعا ماديا صرفا، لكن المسار الذي سلكه بطل الرواية، وخاصة برفقة الخيميائي، ستتدخل في تشكيله أبعاد كثيرة، منها ما هو مادي، اجتماعي، اقتصادي، ثقافي، بل حتى ميتافيزيقي. ستتغير زاوية الرؤية عند سنتياغو، وزاوية الهدف، وحتى قناعاته ستتخذ مسارا آخر. فالراعي الذي عرفناه في بداية الرواية، ليس هو نفسه الذي سنجده في آخرها. لقد بات سنتياغو يجسد الحلم، الإيمان، الدافع، الأمل، الوعي، الهدف، الطموح وغير ذلك؛ لأن الكنز الذي كان يبحث عنه في البداية، ليس هو الكنز الذي سيكتشفه في آخر المطاف. إن مغزى الرواية قوي جدا؛ لأن الكنز الذي نجده في رواية الخيميائي، ليس كبقية الكنوز. إنه إدراك لمعنى ومغزى الوجود. ففي الكثير من الأحيان، لا ندرك قيمة ما يحيط بنا. ويرجع ذلك بالأساس، إلى الزاوية السلبية التي نتحصن وراءها، والتي بطبيعة الحال، تشوش الرؤيا وتجعلها غير واضحة. فكل ما يحيط بنا هو الكنز الذي نبتغيه، كل ما يمكن أن نحبه، كل ما يمكن أن يكون مصدر السعادة، كل ما يمكن أن يمدنا بالقوة والعبرة.
إن هذه العلاقة بين الذات والمحيط، هي علاقة قوية جدا في كل أبعادها، ويمكن أن تصبح العلاقة الأكثر متانة داخل هذه المنظومة، إن نحن فهمناها وأقمنا علاقة معها واستوعبناها وأدركناها، سنوقع بذلك خريطة طريق أو وثيقة سلام، لن أقول أبدية؛ لأن هذه الوثيقة مفتوحة على المستجدات كافة، مع الذات نفسها أولا، ومع محيطها ثانيا. فالوصول إلى قيمة الأشياء وإدراك معناها العميق من الوجود، وبطبيعة الحال لن يتأتى ذلك إلا للذات القلقة من وجودها، الذات المتصدعة والمنخورة بالزمن والتاريخ. الذات التي لا تقف عند حدود قبول البسيط والسطحي من الأشياء. إنه الغوص في العمق مع كويلهو، والبحث عن إمكانية للنجاة في ظل زمن اللبس والالتباس الذي يقبض علينا. إنها محاولة فهم السبل كافة. إنها محاولة لارتواء لا ينبض وعطش لا يعرف الامتلاء أبدا. إنها استجابة لعالم لا يفتأ يتبدل. وعلى الرغم من ذلك، فلا يمنعنا هذا من تأكيد ألا رواية من دون غموض أو إشكال. وإنها رحلة استكشافية بالنسبة إلى الكاتب والقارئ على حد سواء. ولا تكون ذات معنى إلا إذا كانت حاملة لمعاني وجودية كثيفة، تغني التنوع في كل أبعاده، فسواء كان سنتياغو أو غيره، فالخطر يكمن في الاستبعاد والإقصاء دون السؤال وأي سؤال، السؤال الوجودي طبعا.



«قلعة الملح»... صراع الإنسان مع ذاته والزمن

غلاف ثائر
غلاف ثائر
TT
20

«قلعة الملح»... صراع الإنسان مع ذاته والزمن

غلاف ثائر
غلاف ثائر

«قلعة الملح» رواية جديدة للروائي ثائر الناشف، صاحب «ثلاثية المسغبة»، التي تتناول الثورة السورية 2011 بأبعادها الإنسانية العميقة. وفي هذا العمل، يفاجئنا الناشف بنقلة نوعية في تقنيات السرد، مقدّماً عوالم جديدة، وأمكنة مغايرة، وأدوات فنية تعكس تطوره الأدبي.

الرواية تسرد حكاية «سامي»، اللاجئ السوري في فيينا الذي يعمل مساعداً اجتماعياً، متنقلاً بين منازل المسنين والمحتاجين، ويعيش تمزقاً بين حنينه إلى وطنه الذي أنهكته الحرب، ومحاولاته للاندماج في مجتمع غريب لا يمنحه أكثر من دور ثانوي.

تتداخل حياته مع شخصيات تحمل أوجاعها الخاصة، مثل «الدكتور غولد شتاينر»، الطبيب النفسي الألماني المسنّ الذي يعاني مرضه وعزلته، وزوجته «جيرترود» التي تكافح للحفاظ على توازن هشٍّ، و«السيّدة كورتس»، العجوز الثرية التي تقضي أيامها في وحدة قاتلة بين أطلال ماضٍ مترف.

«قلعة الملح» ليست فقط قصة شخصيات تواجه الوحدة والغربة، بل هي عمل أدبي يتعمق في قضايا إنسانية كبرى: الهوية، والحنين، والحب المفقود، وصراع الإنسان مع ذاته والزمن. يجمع الناشف بين الحوارات الفلسفية والصور الأدبية، ليقدم عملاً يمزج بين الحكاية الفردية والتوثيق الإنساني الشامل، موظِّفاً خلال ذلك: المذكرة، والسيرة، والتاريخ، عبر تقنيات متعددة.

في هذا العمل الروائي الجديد، يبرع الناشف في تحويل التفاصيل اليومية إلى لوحة فنية تعكس تناقضات البشر وهشاشتهم، متيحاً للقارئ رحلة فكرية تحيله إلى دلالات ومعاني الحياة والانتماء، كما أن الرواية شهادة ووثيقة إبداعية على أدب يُكتَب بعمق ورؤى مستجدة، ليثبت مجدداً قدرة الروائي على إنتاج سرد روائي يجمع بين المأساة والجمال، في آن واحد.

تقدّم رواية «قلعة الملح» شخصية «سامي» على أنها رمز للإنسان المغترب، عالقاً بين ماضٍ مؤلم وحاضر يفرض عليه دوراً هامشياً، من خلال عمله مساعداً اجتماعياً، إذ يلتقي شخصيات تمثل حالات إنسانية متنوعة منها: «الدكتور غولد شتاينر» الذي يعكس صراع الإنسان مع الزمن وذكريات الحرب، بينما تسعى «جيرترود» للحفاظ على استقرار هش في ظل معاناة زوجها، في حين تعيش «السيدة كورتس» عزلة عميقة تفضح عبثية الحياة حين تفقد معناها... هذه الشخصيات ليست فقط مكونات للسرد، بل هي رموز تسلّط الضوء على قضايا الغربة، والهشاشة الإنسانية، والتناقضات النفسية والاجتماعية، إذ تمثل الرموز في الرواية عناصر أساسية لفهم عمق النص.

فالمصعد المتوقف، على سبيل المثال، يرمز إلى محطات الحياة ومفاصلها الحرجة. ثم إن النظرة إلى الصور تستدعي الحنين إلى الماضي ومحاولات استعادة الذات، بينما تعكس الأمراض صراع الإنسان مع هشاشته الطبيعية وحتمية الزمن، كما أن فيينا نفسها ليست مجرد مسرح للأحداث، بل رمز للغربة؛ مدينة تضج بالحياة لكنها تضع شخصياتها في عزلة قاتلة.

من الناحية الأسلوبية، الرواية تشكل نقلة نوعية في مسيرة الناشف الأدبية، وإذا كانت «ثلاثية المسغبة» توثق الثورة السورية بواقعية مباشرة، فإن «قلعة الملح» تتجه نحو الغوص في أعماق النفس البشرية عبر سرد نفسي متقن باعتبار أن الحوارات ليست مجرد أداة للتواصل بين الشخصيات، بل وسيلة لفهم القضايا الكبرى كالهوية والوجود. كذلك نرى أن التداخل بين الماضي والحاضر يضيف بعداً ديناميكياً للنص، مما يجعل الزمن عنصراً محورياً في بنية السرد.

وبهذا المعنى فإن الرواية تعكس توجهاً وجودياً واضحاً، حيث تعيش كل شخصية صراعها الخاص مع الأسئلة الكبرى؛ إذ يبحث «سامي» عن معنى لحياته في ظل الغربة عن الوطن والذات، بينما يتأمل «الدكتور شتاينر» هشاشة الإنسان أمام الزمن، وتعكس «السيدة كورتس» عبثية الحياة حين تصبح بلا غاية.

الرواية تدعو القارئ إلى إعادة التفكير في معاني الهوية والغربة والانتماء، وتثير تساؤلات وجودية عن مكان الإنسان في العالم.

ورغم التركيز المكثف على الحوارات الفلسفية، فإن معادلة التوازن بين السرد والتأمل الفكري تحاول أن تتموضع، أو تتماهى على امتداد صفحات الرواية، لكنَّ هذا لا ينتقص من قيمة العمل بوصفه وثيقة أدبية عميقة تقدّم رؤية إنسانية شاملة لصراعات الإنسان الداخلية.