مثقفون عراقيون: نحن أمام مكتبة عالمية مفتوحة

القارئ أصبح مثل متبضع في سوق كبيرة

كريم السيد  -  حمدان السالم  -  بان فرات الجواهري  -  حسن قاسم
كريم السيد - حمدان السالم - بان فرات الجواهري - حسن قاسم
TT

مثقفون عراقيون: نحن أمام مكتبة عالمية مفتوحة

كريم السيد  -  حمدان السالم  -  بان فرات الجواهري  -  حسن قاسم
كريم السيد - حمدان السالم - بان فرات الجواهري - حسن قاسم

أجمع مثقفون وأكاديميون عراقيون على حتمية التغيير الكبير الذي طرأ على مفهوم القراءة والتزود بالمعارف في السنوات الأخيرة بعد ثورة الإنترنت التي انتشرت في كل البلدان العربية بالشكل الذي أفرز نوعا جديدًا من القراءة التي تتسم بالسطحية والميسرة والسريعة للفوز بأكبر قدر من المعلومات، الأمر الذي أفرز تراجعًا في القراءة الورقية.
يقول الكاتب والأكاديمي في كلية الإعلام جامعة بغداد الدكتور حمدان السالم: «القراءة كانت وما زالت عند الكثيرين تحقق متعة خاصة لا سيما الكتاب الورقي. فقد يشعر القارئ بنكهة خاصة وهو يتلمس أوراقه ويقلبها وأحيانا يؤشر عليها أو يضع خطا تحت كلماتها فيتولد نوع من الألفة بين القارئ والكتاب. أما اليوم وفي ظل التطور التقني الذي وضعنا أمام مكتبة عالمية مفتوحة اسمها الإنترنت، فإن القارئ وجد نفسه أمام كم هائل مجاني من الكتب وبمختلف التخصصات في حين ما زالت ساعات اليوم باقية على حالها، بل إن الوقت لم يعد كما في السابق بفعل تعدد وتنوع وسائل الإعلام التي راحت تستحوذ على الوقت أيضا».
ويضيف السالم: «اليوم القارئ يعيش إشكالية الوقت والقراءة فلم يعد القارئ لديه متسع من الوقت ليجلس ساعات طوالا ليقرأ كتابا واحدا بل راح يتصفح ربما عشرات الكتب أو المطبوعات على شاشة الكومبيوتر ليطلع عليها بشكل سريع عله يقع على مبتغاه. التعدد والتنوع ترك القارئ مثل متبضع في سوق كبيرة تحوي كل شيء. أما الشباب اليوم فقليل منهم تنمطوا على قراءة الكتب الورقية وأغلبهم وجدوا في الإنترنت ضالتهم وحاصرتهم مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام من خلفهم ومن أمامهم، فأضاعوا الفرصة للقراءة الجادة الرصينة التي تحتاج الوقت والتفرغ فنتج عن ذلك قراءة سطحية وثقافة بسيطة ووعي محدود. اهتموا بالتقنيات ولم يهتموا بالمضمون. ونرى ذلك عند طلبة الجامعة، فإن أغلبهم لا يمتلك الحد الأدنى من المعلومات وأن القراءة آخر اهتماماتهم».
وتشاركه الرأي الكاتبة بان فرات الجواهري حفيدة الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري بالقول: «بوجود الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي انحسرت القراءة بشكل ملموس وكادت تصل نسبة قراءة الكتب والصحف ولمجلات إلى 10 في المائة في حين أن هذه النسبة كانت معكوسة بغياب المواقع المذكورة.
ومع زيادة التوتر والسرعة في كافة مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أصبحت الصورة والعبارة المختصرة هي الأسرع انتقالا إلى القارئ والأكثر استيعابا من القصص الطويلة والمقالات المسهبة».
وأضافت: «في مواقع التواصل الاجتماعي مثلا نرى أن القراء لم يعودوا متواصلين مع بعضهم فهم لا يقرأون لغيرهم أكثر من سطرين أو أربعة، وربما لا يتابعون أصلا ما لم يكن الموضوع يخص مشاكلهم أو توجهاتهم».
ويعزو الكاتب والإعلامي حسن قاسم، تراجع مفهوم القراءة إلى تحكم آليات القراءة الإلكترونية، وشيوع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في عمليات التعبير، وامتدت تلك الظاهرة لتشمل قراءة الكتب المصفوفة على نظام pdf، وهو صيغة ملفات طورت من قبل شركة أدوبي (Adobe)؛ حيث تستخدم لإنشاء مستندات تحافظ على محتواها (من نصوص وخطوط وصور وألوان) بشكل كامل دون أي تغيير. وقد توفرت المئات من العناوين المهمة التي تمثل إصدارات مختلفة التاريخ حيث صار بالإمكان الحصول على أمهات الكتب والمصادر القديمة جنبًا إلى جنب مع الإصدارات الحديثة.
أما ما يخص المحتوى أو مضمون القراءة الإلكترونية فهو خاضع لنوعية الخطاب المرسل وطبيعة مرسله ومستقبله، وهذه العناصر الثلاثة هي من يتحكم بشكل الخطاب المقروء، فعلى سبيل المثال تعج منشورات «فيسبوك» بالأخطاء الإملائية واللغوية والأخطاء في المعنى. ولو توفرت خدمة التصحيح في «فيسبوك» لتغيرت الكثير من المنشورات نحو الأفضل، لأن القراءة ذاتها قد تأثرت كثيرًا بتلك الأخطاء التي شاعت فغيرت نظرتنا للغة العربية، فبسبب الكتابة الخاطئة، صارت القراءة خاطئة هي الأخرى، وترسخت تلك الأخطاء لتكون مظهرًا واضحًا من مظاهر القراءة الإلكترونية، وهذا ما يؤكد مقولة أن الكتابة في السابق كانت للنخبة المنتجة للثقافة، وأن فعل القراءة يقع على العامة من الناس، أما الآن فقد أطاحت وسائل التواصل الاجتماعي بتلك المقولة، وصارت الكتابة فعلاً شعبيًا لا قوانين تحكمه، وصار الجميع يكتب وينشر ما يشاء، وبالتالي أصيبت القراءة بالمرض.
تغير طقوس الحياة هو السبب
بدوره يستعين الكاتب والإعلامي كريم السيد بتعريف مفهوم القراءة بأنها طريقة حياة، بحسب ما يقوله الأديب توينبي، وهذا معناه أنها كطريقة خاضعة للمؤثرات وتنوع الأدوات، ويلفت بالقول: «من المؤكد وفي حدود الحديث عن القراءة، فإن تغير الحياة يغير معها الطقوس والأدوات الخاصة بالقراءة. والعراق بلد معروف أنه بلد يقرأ، وبلد يشهد حراكا معرفيا وتغييرات اجتماعية وسياسية وأحداثا وظروفا خاصة يعيشها الإنسان، ثورة التكنولوجيا والسرعة وفرت بدائل معرفية للكتاب، كمواقع الإنترنت والصحف وتوفر المكتبات الصورية والسينمائية والوثائقية، وهذا بدوره سيشكل مساحة تؤثر على المساحة القديمة التي كان الكتاب الورقي يشكل جزءا كبيرا منها علاوة على الصحف والمجلات».
أما بخصوص جدية القراءة فإن السرعة وسهولة الوصول إلى المعلومة قد تكون نافعة بتوفير الجهد إلا أن توفرها بهذا الكم يجعل منها قراءة سريعة تعتمد الوصول إلى النتائج والمعطيات بدلا من الإسهاب والتعمق وتعدد المصادر.. إن الإقبال على الكتاب بشكل خاص وعلى وسائل المعرفة ينبع من حاجة أساسية لفك إشكالات الحياة والتعمق أكثر في معارفها أو استذواق أجناسها الأدبية والفنية، والفارق بين الشباب والجيل القديم هو فارق الاستعانة بالأدوات، فالبعض لا يزال يفضل الكتاب الورقي وطقوس العيش في عوالمه على الكتاب الإلكتروني الذي يختلف عن الورقي من جوانب صحية واقتصادية.. في العراق هناك وعي جيد بالإقبال على الكتاب متمثلا بحملات مدنية تدعو لعدم نسيان العلاقة مع الكتاب وطقوس أسبوعية يوقرها شارع الكتب والمكتبات «شارع المتنبي» مع نشاط حركة الترجمة وازدهار عصر المكتبات الإلكترونية.
وتختتم الدكتورة سحر خليفة تدريسية في الجامعة العراقية، نظرتها لمفهوم القراءة بالقول «بالتأكيد أن مفهوم القراءة قد تغير في عالمنا العربي وربما في العالم أجمع لأن الوسائل قد تغيرت وتغير معها طريقة عرض المضمون فأهم ما يميز هذا العصر من سمات هي السرعة، فأمام هذا الكم الهائل من المعلومات المتاحة عبر وسائل الاتصال الحديثة لا يمكن للفرد أن يكتفي بمضامين قليلة.
فلكي تستطيع مواكبة ما يستجد في أي مجال من المجالات سواء السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية وحتى الاقتصادية يجب عليك أخذ شيء من كل شيء وبالتالي فإن القراءة السريعة لا يمكن أن ترسخ المعلومة لذلك يتجه معظم القراء إلى قراءة السطور القصيرة وربما يكتفون بالعناوين لأن الوقت المتاح للقراءة لا يمكن أن يستوعب هذا الحجم الهائل من المعلومات».



شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
TT

شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

كتابان صدرا حديثاً – أحدهما في هذا العام - عن وليم شكسبير (1616 - 1564) ومتى كان الحديث ينقطع عن شاعر الإنجليزية – بل شاعر الإنسانية - الأكبر؟ كلا الكتابين من تأليف امرأة، وكلاهما عن شكسبير والنساء. ولكن الطرق تنشعب بهما بعد ذلك. فأحد الكتابين – على إسهابه - لا يكاد يقول شيئاً مقنعاً. والكتاب الآخر - على إيجازه - يضيف جديداً إلى موضوعه. الأول أقرب إلى الإثارة الصحافية والآخر بحث أكاديمي رصين.

أمّا الكتاب الصادر في هذا العام 2024 فهو «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

Shakespeare was a woman and other Heresies

من تأليف إليزابيث وينكلر

Elizabeth Winkler

وهي ناقدة وصحافية أميركية. والكتاب صادر عن دار نشر «سيمون شوستر» في نيويورك في أكثر من 400 صفحة.

ترمي المؤلفة - بحسب قولها - إلى «إماطة اللثام عن بعض الأساطير المتعلقة باسم شكسبير وإدانة مَن يقبلون نسبة أعمال شكسبير إليه دون فحص ولا تدقيق ورفض لعبادة الشاعر في الأوساط الأكاديمية وكأنه وثن مقدس لا يمس».

ودعوى المؤلفة - كما هو واضح من عنوان الكتاب - أن شكسبير ليس مؤلف المسرحيات والقصائد القصصية والسوناتات (154 سوناتة) التي تنسب إليه وإنما مؤلفها امرأة جرت التغطية على هويتها الأنثوية لأسباب مختلفة. قديماً أنكر البعض أن يكون لشكسبير ذاته وجود تاريخي، والآن تنكر وينكلر عليه أن يكون مؤلف المآسي والملاهي والمسرحيات التاريخية التي ارتبطت باسمه منذ القرن السادس عشر.

ما البراهين التي تستند إليها إليزابيث وينكلر تأييداً لدعواها؟ يمكن تلخيص حججها فيما يلي: (أولاً) لم تصل إلينا أي مسرحية بخط شكسبير (ثانياً) كان العصر بقيمه الأبوية لا يسيغ أن تكون المرأة كاتبة أو أن تخرج إلى الفضاء العام ومن ثم كان كثير من النساء الموهوبات ينشرن أعمالهن بلا توقيع أو تحت اسم ذكري مستعار (ثالثاً) نحن نعرف أن شكسبير لم يغادر حدود بلده إنجلترا قط فمن أين تسنى له أن يدير أحداث مسرحياته في بلدان ومدن أجنبية مثل أثينا وروما والبندقية وفيرونا والدنمارك وصور والإسكندرية (رابعاً) لم تثر وفاة شكسبير في 1616 اهتماماً يذكر بين معاصريه مما يبعث على الشك في أنه كان مؤلفاً مرموقاً.

غلاف «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

والواقع أن وينكلر ليست أول مَن يشكك في نسبة مسرحيات شكسبير إليه فقد عبّر عن هذه الشكوك قبلها آخرون. ويتذكر المرء في هذا المقام أن الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف في كتابها المسمى «غرفة خاصة» (1929) – وهو مثل كتاب سيمون دي بوفوار «الجنس الثاني» (1949) من الأعمال المؤسسة للنقد النسوي في القرن الماضي - راحت تتخيل أنه ربما كانت لوليم شكسبير شقيقة تعادله نبوغاً وعبقرية. ولكن ظروف عصرها واستبداد الرجال بالنساء لم تتح لموهبتها النمو والازدهار وتركتها ملقاة في منطقة الظل على حين حظي أخوها وليم – لأنه ذكر - بالنجاح المادي وذيوع الصيت عبر الأجيال.

على أن وينكلر تكتفي بإثارة الشكوك حول تأليف شكسبير لأعماله دون أن تقدم أي بديل واضح معزز بالأسانيد الموثقة لمؤلفها الحقيقي. وتذكر على سبيل التخمين لا الجزم أن أعمال شكسبير ربما كانت من تأليف إميليا باسانو وهي معاصرة لشكسبير ومؤلفة ديوان شعري واحد ظهر أثناء حياتها.

وخلاصة ما تقوله وينكلر أن مسرحيات شكسبير «ثقب أسود» مجهول وأن اعتبارات شتى - قومية وإمبراطورية ودينية وأسطورية وجنوسية وطبقية - تكمن وراء نسبة هذه المسرحيات إليه.

وقد قوبلت آراء وينكلر هذه بالرفض من كبار دارسي شكسبير في عصرنا مثل ستانلي ويلز وجوناثان بيت وجيمس شابيرو.

وعلى النقيض من كتاب وينكلر يقف كتاب «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

Shakespeare's Visionary Women

من تأليف لورا جين رايت

Laura Jayne Wright

وهو كتيب صغير الحجم (86 صفحة) صدر عن مطبعة جامعة كمبردج يستوفي جميع شرائط البحث العلمي المتزن الرصين.

موضوع الكتاب شخصيات شكسبير النسائية التي تملك بصيرة نافذة وتستطيع أن تتنبأ بالمستقبل وما هو آتٍ (مثل زرقاء اليمامة في تراثنا). من هذه الشخصيات كاسندرا في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» وهي امرأة إغريقية (ابنة بريام ملك طروادة) منحها الرب أبولو ملكة القدرة على التنبؤ. وحين رفضت أن تستجيب لمحاولات أبولو الغرامية عاقبها بأن جعل كل الناس لا يصدقون نبوءاتها. وقد لقيت مصرعها بعد سقوط طروادة في أيدي الإغريق.

وهناك كالبورنيا في مسرحية «يوليوس قيصر» وقد رأت فيما يرى النائم حلماً منذراً بالشؤم وحاولت ثني قيصر عن التوجه إلى مجلس الشيوخ في منتصف مارس (آذار) 44 ق. م. ولكنه استخف بكلامها «إفراطاً في الثقة بنفسه» ومن ثم كان مصرعه على سلالم الكابيتول في روما بخناجر كاسيوس وبروتس وسائر المتآمرين.

وهناك الليدي مكبث التي تولاها شعور غامر بالذنب بعد أن حرضت زوجها القائد مكبث على قتل الملك دنكان واغتصاب عرشه فاضطربت قواها العقلية وصارت تسير في نومها وتهذي. ولكن مكبث لا يعير هذه المخاوف اهتماماً ويمضي في طريقه الدموي حتى النهاية المحتومة فيلقى مصرعه في مبارزة مع ماكدوف.

وهناك جان دارك «عذراء أورليان» في الجزء الأول من مسرحية «هنري السادس». وكانت في نظر الفرنسيين بطلة أشبه بـ«نبية من أنبياء الكتاب المقدس» وفي نظر الإنجليز أشبه بـ«الشياطين والساحرات» مستوجبات الحرق وقد كان.

وتبقى حقيقة مؤداها أن كتاب رايت إبراز للدور المهم الذي تلعبه المرأة في مسرحيات شكسبير (لرجاء النقاش كتاب سطحي متواضع القيمة عن بطلات شكسبير). إن كتاب وينكلر – مهما يكن من مآخذنا عليه - دعوة إلى إعادة النظر في المسلمات. والكتابان - من هذه الزاوية – عملان مفيدان يحثان القارئ على فحص أفكاره المسبقة وعلى رؤية الأمور من منظور جديد.