«آرل» الفرنسية تستعيد فان غوغ في معرض من 31 لوحة

تستقر 31 لوحة من أروع ما رسمت ريشة الفنان فان غوغ على جدران المؤسسة التي تحمل اسمه في مدينة آرل الصغيرة جنوب فرنسا. فالرسام المولود في هولندا أقام هنا لمدة سنتين فحسب (1888 و1889)، لكنهما كانتا كافيتين لأن تغمرا لوحاته بالنور وتتركا شمس البحر الأبيض المتوسط وديعة لديه. ومنذ 128 سنة وحتى اليوم، ما زال الآرليون والآرليات يشعرون بأنهم ينتسبون إليه. لذلك فإن هذا المعرض يعيد إليهم حصتهم من فان غوغ. وقالت إحدى الزائرات، في حفل الافتتاح، إن الأهالي يعيشون معه ومع ألوانه «كأنه ما زال هنا».
لا تفوّت آرل فرصة لاستعادة أحد كبار رسامي القرن التاسع عشر. لقد تفنن في رسم الطبيعة مبتدعًا أسلوبًا يمزج بين الانطباعية والتنقيط، وكان بارعًا بشكل خاص في اقتناص الضوء وإضفائه على رسومه، بحيث تبدو لوحاته ساطعة وباعثة على الحبور من فرط حفاوتها بالشجر والعشب والغلال وأزهار عباد الشمس. وفي عام 1989 جرى تنظيم معرض كبير لأعمال فان غوغ في آرل بمناسبة مرور 100 عام على إقامته فيها. أما المعرض الحالي فيجمع باقة من أشهر لوحاته، بينها «البورتريه» أو الصورة الذاتية الشهيرة التي صور فيها ملامحه.
وصل فان غوغ إلى المدينة الفرنسية الهادئة في 20 فبراير (شباط) 1888 وأقام في فندق كاريل الواقع في البلدة القديمة، وبالتحديد في المبنى رقم 30 من شارع «لا كافالري». وكان ذلك الحي يجمع آنذاك عددًا من بيوت الدعارة أو ما يسمى بـ«المنازل المغلقة». وكان رفيقه في السكن هو الرسام الدنماركي كريستيان مورييه بيترسون. كما استأجر جناحًا من «المنزل الأصفر» لكي يكون مرسمًا له. وبعد أيام قلائل انتقل للإقامة في مقهى المحطة. ومع حلول الصيف صار يبيت في مرسمه. وللأسف فإن طائرات الحلفاء دمرت ذلك المنزل الأصفر عند قصفها للمدينة أواخر الحرب العالمية الثانية، صيف 1944.
ورغم أن الفنان حين وصل إلى المدينة وجدها مغطاة بالثلوج، فإن شمسها سرعان ما أشرقت وغمرته ودفأت جسده الذي كان يعاني من أمراض كثيرة، وكذلك نفسيته المضطربة وعلامات الانفصام في الشخصية التي شخصها الأطباء لديه. ورغم علل الجسد والروح فإن فان غوغ رسم في آرل لوحته الرائعة «أزهار السوسن». وهي اليوم من مقتنيات متحف بول غيتي في لوس أنجليس. كما رسم «ليلك حديقة المستشفى» التي يتباهى بها متحف «الأرميتاج» في سان بيترسبرغ، دون أن ننسى لوحة «مزهرية عباد الشمس» التي اقتناها المتحف الوطني في لندن. وكان الفنان يقوم بجولات طويلة في حقول المدينة قاطعًا مسافات طويلة، حاملاً أوراقه وأصباغه تحت إبطه، متمتعًا بما تتيحه له الطبيعة من إلهام غير متناهٍ.
يحمل المعرض عنوان «فان غوغ في الريف - التقليدي متجددًا». ويكشف المدير الفني للصالة، بريس كوريجيه، أن فريق العمل كله كان في حالة من الهياج أثناء تعليق اللوحات على الجدران. وبعد الافتتاح، قبل أيام، صار ممكنًا تبادل المتعة مع الزوار الآتين من كل حدب وصوب. وتستقر اللوحات في الطابق الأول من المبنى الأبيض الجميل لمؤسسة فان غوغ في آرل، حيث يمكن المرور بها عبر 3 مراحل مقسمة حسب الألوان والموضوعات، يميز كل مرحلة لون الجدار الخلفي الذي يستقبل اللوحات. فهناك الطبيعة الميتة أو الجامدة، وهناك الوجوه، وأخيرًا لوحات تصوير الطبيعة التي شغف بها الفنان. وهو قد أقام في مدن فرنسية كثيرة، خلال حياته، منها العاصمة باريس التي فارق الحياة في ضاحيتها الشمالية، لكن هذه المدينة الجنوبية كانت الأكثر تأثيرًا في رسومه، بل ظهرت في بعضها تأثيرات يابانية تتفجر فيها الأصباغ، مثل «الكرم الأخضر». إن زائر المعرض لن يجد إيحاءات آرل فحسب هنا، بل لا يخلو المعرض من لوحات «غائمة» أنجزها الرسام في مدن الشمال.