كيف قتلت إيران «الربيع».. وأحيت «داعش»؟

عنف التطرف والتوظيف الطائفي

جانب من خطاب للمرشد الإيراني علي خامنئي في العاصمة الإيرانية طهران (رويترز)
جانب من خطاب للمرشد الإيراني علي خامنئي في العاصمة الإيرانية طهران (رويترز)
TT

كيف قتلت إيران «الربيع».. وأحيت «داعش»؟

جانب من خطاب للمرشد الإيراني علي خامنئي في العاصمة الإيرانية طهران (رويترز)
جانب من خطاب للمرشد الإيراني علي خامنئي في العاصمة الإيرانية طهران (رويترز)

تاريخيا، يمكن القول إن المسألة الطائفية في العالمين العربي والإسلامي خفتت وسكنت منذ بدايات العصر العباسي الأول وطوال العصر العباسي الثاني، بعد استقرار كلاميات هذه الفرق وأدبياتها، وتشكل هوياتها بشكل شبه كامل منذ القرن الرابع الهجري. ومنذ ذلك التاريخ تبلورت مؤسساتها الدينية، مع اختلاف في الدرجة والتاريخ، وتحددت أطرها الجغرافية والسياسية والاجتماعية، وظل التعايش الاجتماعي والتسامح الطائفي هو القانون السائد في التاريخ العربي والإسلامي. وصعود خلافاته هو الاستثناء في مراحل معينة من الصراع السياسي لا غير، مع صعود أصوليات دينية تمارس الاستثمار السياسي، كما كان في العهد الصفوي وصراعه ضد الحكم العثماني في القرن العاشر الهجري، أو في بعض لحظات الصراع الأخرى.
ولكن مع تدهور الصورة الإيرانية في المنطقة، باستمرار تدخلات طهران، وبخاصة في الثورة السورية، وتدهور الأوضاع في العراق، تصاعدت الحاجة والطلب على هوية للتشيع العربي والعلوي الصافي، تعارض من ناحية غلو التشدد الصفوي وتسييس نظام الولي الفقيه للطائفة، ومن ناحية ثانية، تتسع وتتمدد رموزه وأصواته كل يوم ليؤكد رفض التسييس والتوظيف الديني والطائفي للصراعات السياسية.
رغم ما ادعته وروّجته ثورة الخميني من «تبشيرية» إسلامية عالمية عامة، فإنها أنتجت ميليشيات وأذرعا لها في مختلف أنحاء المنطقة العربية، واحتفظت بولاءات وعلاقات متينة مع سائر الميليشيات الطائفية والإسلام السياسي السني. ثم تحولت بعد الثورة السورية، خصوصا، للتهديد بصراع طائفي إقليمي، واحتكار الحديث باسم الإمامية فقط في العالم، محاولة زرع التوترات التي لم تمثل غير وقود طائفي تتطاير منه شظايا التطرّفين الشيعي والسني على السواء، وليس انقساما أو صراعا عاما بين أبناء الطائفتين.
* توظيف سياسي إيراني
من ثم، نرى أن الحديث الدعائي المصطنع عن صراع أو انقسام طائفي سني - شيعي في المنطقة، ليس أكثر من توظيف سياسي إيراني مخالف للواقع والتاريخ على السواء. والأصح أنه خلاف إيراني - عربي بالأساس، حول عدد من القضايا الرئيسية، في مقدمها التدخل والتمدد الإيراني والموقف من الثورة السورية والانقلاب الحوثي في اليمن، وغيرهما من الأحداث والتحولات في المنطقة ليس غير. وهو ما سنوضحه في الأجزاء التالية، عبر عرض الاختلافات الثقافية والتاريخية بين الشيعة العرب والنظام الإيراني، وكذلك انكشاف التوظيف الإيراني عبر تجاهله عددا من الفوارق الكبيرة والمهمة في تاريخ الطائفة وواقعها في العالم العربي، وكذلك ازدواجية معاييره التي يكشفها اضطهاده وقمعه أبناء الطائفة، مثل أبناء الأحواز العرب أيضا!
* الشيعة العرب
إن الوجود التاريخي للشيعة العرب أسبق من وجود إيران الصفوية في القرن السادس عشر الميلادي، كما أنه يتميز عرقيا بانتماء كثير من ممثليه للقبائل والعشائر العربية الأصيلة، حيث ينحدر أغلبهم من قبائل مثل ربيعة مثل بكر بن وائل، بينما يوجد آخرون ينحدرون من أصول إيرانية في بعض دول الخليج، هاجروا واستقروا واكتسبوا الهوية العربية الثقافية والاجتماعية في بلدانهم.
ثم إن تحوّل زعيم الأتراك القزلباش الشاه إسماعيل الصفوي، مؤسس هذه الدولة للمذهب الشيعي، وتحوّل إيران معه عن المذهب السني، لمنافسة الإمبراطورية العثمانية التركية، عام 1501 ميلادية كان على يد بعض علماء جبل عامل (بجنوب لبنان اليوم). وبعدها كان إعلانه التشيع مذهبا رسميا استقطب له علماء من تلك المنطقة، على رأسهم علي بن عبد العال الكَرَكي، المعروف بالمحقّق الكَرَكي (868 - 940 هجرية)، الذي هاجر مع ثلاثة وستين آخرين لتأييد هذه الدولة الذي امتنع عن تأييدها وشرعنتها شيعة العراق وإيران. ولقد عين الشاه طهماسب بن إسماعيل الصفوي الكَرَكي حاكما في الأمور الشرعية في الإمبراطورية الصفوية، وأعطاه مرسوما رسميا بذلك.
ورغم محاولات نظام الولي الفقيه ووكلائه في المشرق العربي، وفي ضمنه لبنان وسوريا، من توظيف مستمر للمسألة الطائفية، ورغم تداعياته في احتقان العلاقة خارجيا بين إيران وبين الدول العربية من جهة، وبين الأنظمة ومواطنيها الشيعة أحيانا من جهة آخر، فإن الغالبية من الشيعة العرب يختلفون مع توجهاته. ولا تمثل «ولاية الفقيه» أو الهوية الطائفية منطلقا لممارساتهم، بل يصطف كثيرون منهم في الصف المُعادي لهذه التوجهات الناقد لها ولأتباعها في المنطقة من أبناء الطائفة نفسها. وهذا ما تعبّر عنه في أحيان كثيرة مؤسسات تدعو للتشيّع العربي غير الصفوي وغير الإيراني، أو أصوات كـ«التيار الشيعي الحر» في لبنان، أو «شيعة السفارة الأميركية» بتعبيرات حسن نصر الله التهكمية ضده، أو في بيانات مختلفة لأحزاب وقوى وشخصيات كما شهدنا في بيان عدد من المثقفين السعوديين الشيعة الصادر في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2014. وفي هذا البيان، أكد الموقعون ضرورة اللحمة الوطنية في مواجهة الإرهاب، وتأكيد قيم التعايش السلمي، ورفض الاعتداء على سيادة الدولة، وعدوا أن التنوع في السعودية عامل قوة ومصدر إثراء للمجتمع. ولقد جاء البيان بعد أيام من قيام مسلحين داعشيين باستهداف حسينية في قرية الدالوة بالأحساء يوم 3 نوفمبر، وسقوط ثمانية قتلى وعشرات المصابين بها.
هذا هو المنطق الذي يتحرّك به أبناء الشيعة العرب وسنّتهم. ولا يمثل التطرف في الجانبين إلا هامشا على متن التعايش الاجتماعي والتاريخي بين الطرفين، يؤججه ويوظّفه فقط من يستفيد منه، ولكن يقع في الكثير من الأخطاء وهو يمارس مراوغاته ومغالطاته التي لا تثبت عند التحقيق والتفكيك المعرفي والموضوعي.
* دولة العرب ونهضتها عابرة للطوائف
كما تجاوزت شخصيات كجلال الدين الرومي وابن عربي ومحمد إقبال فوارق الطوائف المسلمة جميعها في القديم، وصهرت تجربة التحرر والاستقلال الوطني الحديث منذ بدايات القرن العشري، اللحمة الوطنية وتنوّعاتها، بشكل واضح بين هذه الطوائف، ونضرب هنا عدد من الأمثلة:
- صهرت الثورة المصرية عام 1919 بقيادة سعد زغلول وعبد العزيز فهمي المجتمع المصري، مسلميه ومسيحييه، كله في وجه الاحتلال مطالبة بالاستقلال والدستور، كما صهرت «ثورة العشرين» العراقية بقيادة الشاعر والمجاهد الكبير محمد سعيد الحبوبي عام 1915، أو «الثورة العربية الأولى» عام 1916 إلى سائر التاريخ السوري الذي فاض بالروح العربية والإصلاحية حتى حكم البعث في منتصف عام 1960.
- ظلت واستمرت حركة النهضة والآداب العربية الحديثة وأجيالها وآدابها، وما زالت، وطنية عابرة للطائفية والمذهبية بشكل كبير، وشارك فيها الجميع، من السيد جمال الدين الأسد آبادي الأفغاني من طهران حتى ظهر نجمه في القاهرة وإسطنبول، إلى تلامذته كالشيخ الأستاذ محمد عبده وأديب إسحق وشبلي الشميّل، إلى «أمير البيان» شكيب أرسلان، وصولا إلى أمثال علي الوردي وعلي شريعتي وشبلي ملاط وسلطان الأطرش، وغيرهم من مختلف الطوائف. كل هؤلاء من الأمثلة الكثيرة التي تؤكد أن النهضة العربية الحديثة كانت عابرة للطوائف، كما كان وجدانها وتراثها كذلك عابرا لها. وحتى تاريخه ما زال خلاف البعض قائما حول نسبة عدد من المراجع لهذه الطائفة أو تلك، مثل رسائل إخوان الصفا. وحدّث ولا حرج عن نجوم الأدب والفن الذين لا يسأل عربي عن طائفتهم في اندماج لا شعوري لم ينجح التوظيف الطائفي يوما في صدعه.
- نشطت نخب الطوائف على اختلافها وانتظمت في التيارات الفكرية والآيديولوجية العربية المختلفة، بدءا من اليسار الماركسي حتى اليسار القومي، ملتحمين بالقضايا والهوية العربية التي ينتمون إليهم دائما، قبل الصعود الأصولي الطائفي من الجانبين الذي جذب البعض هنا وهناك، بعد نجاح «ثورة الخميني» عام 1979.
- كان لكثير من أبناء الطوائف بما فيها الشيعة، دور مهم في دعم وتأسيس دولهم في الخليج، فقد استعان الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، بـ«أبي سامر» فؤاد بك حمزة (توفي سنة 1951) وهو ينتمي لعائلة درزية معروفة في لبنان. كذلك دعم شيوخ الشيعة دخول الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، إلى المنطقة الشرقية عام 1913. ولعبوا دورا مهما في مساعدته في السيطرة على المنطقة من دون مقاومة، أو بمقاومة ضعيفة جدا، مثل رجل الدين الشيعي الراحل الشيخ موسى بوخمسين في الأحساء، الذي أمر بعدم مقاومة قوات الملك عبد العزيز. وهذا ما ساعدها على الانتصار السريع على الحامية التركية هناك في أبريل (نيسان) 1913، وعلى إثر ذلك عقد الملك عبد العزيز اتفاقا مع زعماء الشيعة في الأحساء يقضي بـ«ضمان حرية الأهالي الدينية وإعادة الأمن ونشر العدل» مقابل الولاء وعدم الخروج على الحكم. وفي القطيف اتخذ رجل الدين الشيعي علي أبو عبد الكريم الخنيزي موقفا بعدم مقاومة قوات الملك المؤسس، وهذا ما أدى إلى تسليم القطيف من دون أي مقاومة في مايو (أيار) 1913، وقد قام الملك عبد العزيز بعقد اتفاقيات أمان مع سكان المنطقة الشرقية وعيّن الشيخ الخنيزي قاضيا أكبر في المنطقة يتقاضى أمامه السكان من الشيعة والسنة على السواء. ووقفت الدولة دائما ضد محاولات التشويه أو التشدد المذهبي، فلم يقبل الملك عبد العزيز، رحمه الله، فتوى تستهدف الشيعة عام 1927. وأثر عن الملك المؤسس قوله «لسنا عنصريين، لا نفرق بين الناس بسبب عقائدهم أو أنسابهم». كذلك عاهد شيوخ الطائفة الإسماعيلية في نجران على الأمان وعلى احترام عقائدهم وتجنب الفتنة، بعد دعوة منهم.
* مناقشة دعوى التوظيف
لحظتان تاريخيتان مفصليتان صعد معهما هذا الحديث عن مسألة طائفية في العالم العربي في العقدين الأخيرين، هما غزو العراق عام 2003 والانتفاضات العربية عام 2011. ولقد نجحت إيران في الحالتين، ومن تبعها من العرب، في إجهاض «الربيع» الموعود الذي كان كامنا وصريحا في كل منهما، بهندسة نموذج ديمقراطي وطني ومواطني يحقق الاندماج، ويمكن لحقوق المواطنة في هذه البلدان بعد رحيل النظام البعثي الأحادي السلطة عنها.
لكن لا يمكن إنكار أن ثمة مشكلة، تتعلق بمختلف الطوائف والاتجاهات المدنية والدينية على السواء، كامنة ومستمرة مع الدولة العربية المعاصرة، نتيجة تكوينها البنيوي أو الصراعات المحتدمة فيها منذ عصر ما بعد الاستقلال في خمسينات القرن الماضي، مثل الصراع العربي الإسرائيلي، إلى التحدي الأصولي والإرهابي المتصاعد في العقود الأربعة الأخيرة. وإن ثمة ضرورة مستمرة وملحة لتمكين المواطنة وحماية الوحدة الوطنية، سبيلا لتجاوز الانتماءات الأولية والبدائية القبلية للمجتمع، وصيانة مكوناته من التكاره والتمييز والصدام.
ينحصر حديث الدعوى لدى موظفيه عن مسألة طائفية سنية - شيعية في العالم العربي في بعض أجزائه دون كلها، في العراق ولبنان والخليج، وهي تلك الدول التي يمثل فيها الشيعة العرب حضورا سكانيا وازنا، ولكن القائلين بأنها مشكلة أو مسألة يتجاهلون ثلاثة أمور في آن واحد، هي:
1 - الفوارق المذهبية مع إيران في المرجعية والتاريخية الثقافية والاجتماعية بين الشيعة العرب وأنماط تدينهم من جهة، وبين التشيع الإيراني والصفوي من جهة أخرى.
2 - الانتماء الوطني والاختلاف السياسي لدى غالبيتهم مع توجهات نظام الولي الفقيه، في التدخل والتمدد ومعاداة بلدانهم، وبخاصة النخبة النشطة والفاعلة منهم.
3 - التنوعات البينية في إطار الظاهرة الشيعية ذاتها، كما هو موجود في إطار الحالة السنّية كذلك، بين اعتدال غالب وبين تشدد محتمل وطارئ، وبين انتماءات مدنية ووطنية علمانية كذلك، فالشيعة يتوزعون بين إمامية وزيدية ومكارمة إسماعيلية وغيرها، كما تحتوى كل وحدة منها على تنوعات داخلها. ولا يتبع الإمامية مثلا في المملكة العربية السعودية، بخصوص مراجع التقليد، مرجعية دينية واحدة. فمنهم من يتبع أو يقلد المرجع الشيعي العراقي آية الله علي السيستاني غير المؤمن بولاية الفقيه التي تقوم عليها مرجعية النظام الإيراني، وهم الغالبية التي تبلغ نحو 80 في المائة منهم، ومنهم من كان يقلد آية الله محمد حسين فضل الله في لبنان، كما أن منهم من يقلد آخرين.
* الفعل ورد الفعل
إن واحدة من أخطر نتائج التسييس الديني والتوظيف الطائفي الإيراني، واحتكار الحديث باسم الشيعة العرب والمسلمين عموما، أنه يعطي المبرر الأساس للحركات والميليشيات الطائفية المضادة شأن «القاعدة» و«داعش» للتحقق ورفع السلاح الديني والمذهبي نفسه في وجهها. إن «الأصوليات» العنفية تتقد من الاحتقان والعنف الطائفي المضاد لها، ويبرر لها. هكذا وجدت «الزرقاوية» تربتها الخصبة في «عراق ما بعد 2003» وهكذا جددت سياسات نوري المالكي التمييزية والطائفية حياة «القاعدة» في العراق التي رفضها عقلاء الشيعة أنفسهم، وانقسم بسببها التحالف الوطني الشيعي الحاكم حينئذ. وعبر هذه «القاعدة» كان الغزو الميليشياوي الإيراني نصرة لبشار الأسد منذ الشهور الأولى من اندلاع الثورة الشعبية ضده التي بدأت سلمية مدنية، مبررا لقدوم «جبهة النصرة» المضادة، ثم تمهيدا لقيام «داعش» ومأساة السوريين الإنسانية الأكبر في العالم منذ الحرب العالمية الأولى.
لقد كشف الموقف الإيراني الذي تحوّل من «التبشير» والترحيب بثورتي مصر وتونس سريعا في فبراير (شباط) 2011 وعدهما «أنبل ما شهد التاريخ الحديث»، إلى عدّ الثورة السورية ضد نظام الأسد «سايكس - بيكو جديدة» و«مؤامرة كونية على مقدرات الأمة المسلمة». كذلك تعدّ طهران وأتباعها اليوم حرب استرداد الشرعية في اليمن عدوانا واحتلالا، في مراوغة مكشوفة ومساندة فقط لحلفائهم وأتباعهم، دون الوطن أو المواطنة، أو ما يدّعونه من «مظلومية» طائفية لا تستقيم في منطقها ولا تثبت في حقيقتها.
قتلت إيران وعود «الربيع العربي»، لكنها أحيَت التطرف السنّي «الداعشي» حين أججت من التشيع السياسي، وصارت تتحدث باسم الزيدية عبر الحوثية، وعن الشيعة العرب عبر الصفوية، وتسعى لتسييس المشاعر والجرائم، كما كان في يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، مع إعدام 47 محرّضا ومتطرفا سنيا وشيعيا على السواء، يكفرون بنظام الدولة السعودية ويستهدفون استقرارها. ولقد كشف الواقع الجديد أنها الخاسر الأكبر رغم ذلك عربيا. فقد خسر ما يسمى «حزب الله» صورته وشعبيته عند الجماهير العربية، بعدما حول سلاحه لصدر لبنان وصدر السوريين دون الاحتلال الإسرائيلي، وحين تحول مسلحوه قتلى ومقاتلين يتقنعون بـ«الجهاد» ويتسمون بـ«الشهداء» نصرة طائفية استدعت نصرة طائفية مضادة.
ولكن تبقى المسألة الأحوازية، بصفة خاصة، كاشفة عن مكاييل التوظيف الإيراني. فبينما يعاني الشيعة الأحوازيون ذوو الأصول العربية القمع والاضطهاد منذ سقوط دولتهم ودخول جيش الشاه بهلوي المحمّرة عام 1925. وهؤلاء رغم أنهم شيعة، فلكونهم عربا يعانون الاضطهاد والويلات من نظام الولي الفقيه، الذي يتاجر بدعوى «المظلومية» لأبناء الطائفة في العالم العربي ويوظفها في تمدداته وتدخلاته العدوانية.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.


«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».


ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.