أزمة الرئاسة في البرازيل تهز «يسار» أميركا الجنوبية

إبعاد ديلما روسيف جعل التيار اليساري يخسر أنبوبًا للأكسجين كان يمتد إلى مختلف أنحاء القارة

الرئيس الأرجنتيني ماكري أمام مناصريه
الرئيس الأرجنتيني ماكري أمام مناصريه
TT

أزمة الرئاسة في البرازيل تهز «يسار» أميركا الجنوبية

الرئيس الأرجنتيني ماكري أمام مناصريه
الرئيس الأرجنتيني ماكري أمام مناصريه

أوقف تصويت في مجلس الشيوخ البرازيلي الرئيسة اليسارية ديلما روسيف عن ممارسة مهامها، وأسند بالتالي منصب الرئاسة بالوكالة إلى نائبها السياسي الوسطي ميشال تامر، الذي تتهمه روسيف (68 سنة) بـ«الضلوع في مؤامرة» ضدها. وكان المجلس قد اتخذ القرار بحق روسيف عن ممارسة مهامها تمهيدًا لمحاكمتها بشأن مزاعم بارتكاب مخالفات في الميزانية. لكن الرئيسة، المُبعَدة عن منصبها، التي تعهدت بمحاربة ما وصفته بـ«الظلم» بكل السبل القانونية، تنفي هذه التهم.
إزاحة روسيف، ابنة المهاجر البلغاري، عن رئاسة أكبر دولة لاتينية في العالم، جاءت مؤشرًا على تراجع نسبي ملحوظ للموجة اليسارية التي اشتدت على مستوى معظم دول أميركا اللاتينية عبر صناديق الاقتراع في أعقاب انتهاء «الحرب الباردة»، وهو ما أسقط فعليًا ذرائع الانقلابات العسكرية. ومنذ ذلك الحين ثبّت اليسار أقدامه ورسّخ حضوره على حساب اليمين على امتداد القارة باستثناء دولتين فقط، هما كولومبيا وباراغواي. في حين نجح حتى الماركسيون، وليس فقط الاشتراكيون المعتدلون، في بلوغ قصور الحكم في بعض الدول، ومنها فنزويلا وبوليفيا وغيانا وأوروغواي.
يبدو أن أزمة الرئاسة في البرازيل تلقّن اليسار في دول أميركا الجنوبية درسًا مؤلمًا بعد سنوات من ازدهار اليسار اللاتيني على حساب قوى اليمين والوسط، وها هي القوى الوسطية واليمينية – ولو بوجهها الديمقراطي غير العسكري – يعود من جديد إلى المشهد السياسي في القارة، تعود من جديد لتغير المشهد السياسي في المنطقة ومعه خريطتها الجيو - سياسية.
بعد «إقالة» الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف من منصبها الرئاسي مؤقتًا، لا شك أن اليسار في أميركا الجنوبية خسر أنبوبًا للأكسجين كان يمتد إلى مختلف أنحاء القارة من شمالها إلى جنوبها. وكانت البرازيل – وهي الدولة الأكبر، كما أنها الوحيدة الناطقة باللغة البرتغالية، في القارة – قد جسّدت إنجاز اليسار في أعقاب عقود من حكم اليمين والديكتاتوريات العسكرية، إثر وصول الرئيس السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الشهير بـ«لولا» إلى سدة الحكم ونجاح برنامجه الرئاسي في اجتثاث الفقر من البلاد، وقدرته على انتشال أكثر من ثلاثين مليون مواطن من تحت خط الفقر وتصعيدهم إلى الطبقة المتوسطة. منجزات لولا الشخصية النقابية اليسارية ومؤسس حزب العمال صاحب «الكاريزما» الشعبية الكبيرة، كانت دليلاً قاطعًا على قدرة اليسار أولاً على الوصول إلى السلطة بوسائل ديمقراطية، وثانيًا تمكنه من بناء تحالفات عريضة تتيح له الوقت الكافي لتنفيذ سياساته ومحاسبته عليها.
ومن ثم بعد إكمال لولا (70 سنة) ولايته الرئاسية الثانية، رشح حليفته الوزيرة الاشتراكية لخلافته، ونجحت عبر التحالف مع قوى يسارية ووسطية من الفوز بمنصب الرئاسة عام 2011. والمؤكد أن دعم لولا وتزكيته لها كانا عنصرًا حاسمًا في فوزها.
اليوم يشكل تصويت مجلس الشيوخ البرازيلي بوقف الرئيسة عن ممارسة مهامها، واتهامها نائبها ميشال تامر (الرئيس الحالي بالوكالة) بـ«التآمر» عليها تغيرين مهمين في المشهد السياسي البرازيلي: الأول، هزيمة رئيسة تعد وريثة لتركة اليسار، والثاني انهيار التوافق التحالفي العريض بين اليسار والوسط الذي سهّل انتخابها، مما يقلب الأمور بشكل دراماتيكي.

ظاهرة قارية

أهمية ظاهرة «لولا»، في واقع الأمر تنبع من كونها أكثر من مجرد «ظاهرة برازيلية»، بل ظاهرة قارية تتجسد بتعميم نموذج اليسار الآتي إلى قصور الحكم عن طريق صناديق الاقتراع على امتداد أميركا الجنوبية. فبعدما انتخب «لولا» ونجح في تطبيق برنامجه، أدرك الرئيس اليساري أهمية التأسيس لمرحلة من سيأتي بعده، وبالتالي، مواصلة المسيرة داخل البرازيل، وتحصينها عبر تعميمها في الدول المجاورة في أميركا الجنوبية، ثم عموم أميركا اللاتينية بما فيها أميركا الوسطى وجزر الكاريبي.
وحقًا، انطلق ونشط التعميم، وخطت قيادات في القارة على خطى التأسيس لتركة اليسار. فقام الرئيس الفنزويلي السابق الراحل هوغو شافيز باعتماد سياسات اشتراكية صريحة تقوم على بناء شبكة أمان للطبقات الفقيرة عندما كانت أسعار النفط في قمتها، مما ساعد على إنجاح برامجه في وجه معارضة الطبقات الغنية المنخرطة في أحزاب اليمين التقليدية. وبعدما اطمأن إلى التركة اختار «تلميذه» ومساعده نيكولاس مادورو ليخلفه في منصب الرئاسة.
وبنسبة أقل راديكالية، تكرر النموذج كذلك في الأرجنتين، حيث خلفت السياسية اليسارية المعتدلة كريستينا فيرنانديز دي كيرشنر زوجها الرئيس اليساري المعتدل نيستور كيرشنر، واستمر حكم الزوجين 12 سنة بين 2003 و2015. وفي هذه الأثناء انتزع سياسيان يساريان شابان هما رافاييل كورييا الأكاديمي المتخرج في جامعات الولايات المتحدة الرئاسة في الإكوادر، وإيفو موراليس النقابي العمالي المتحدر من شعب الآيمارا (من الأميركيين الأصليين) الرئاسة في بوليفيا. كذلك انتزع أولانتا هومالا، وهو ضابط سابق - متحدر أيضًا من شعب الكيتشوا من الأميركيين الأصليين - الرئاسة في بيرو. وعزّزت كل من أوروغواي وتشيلي توجهها يسارًا مع انتخاب الرئيسين تاباري فاسكيز وميشال باشليت، ومع أن رجل الأعمال الثري سباستيان بينييرا استفاد من انقسام اليسار التشيلي ليفوز بانتخابات 2010 قبل استعادة الرئيسة (والطبيبة) الاشتراكية باشليت الرئاسة لليسار، فإن اليسار احتفظ بالحكم في أوروغواي عبر فاسكيز والرئيس اليساري السابق خوسيه موخيكا بلا انقطاع منذ 2005.

ماذا حدث الآن؟

نكسة اليسار التي أخذت تتبلور في أميركا الجنوبية، وتشهد نكسات متلاحقة، تعود في الحقيقة إلى بضعة عوامل، لعل أبرزها:
- الفساد، الذي لحق بأداء بعض الزعامات اليسارية التي غفلت عن قدرة الناخبين على محاسبتها، كما حاسبوا القادة اليمينيين من قبل. وفي مقدمة من دفع ثمن الفساد اليسار الأرجنتيني وأسرة كيرشنر، وكانت النتيجة الفوز الذي حققه عمدة بوينس آيرس المليونير موريسيو ماكري - الرئيس السابق لنادي بوكا جونيورز الشهير في عالم كرة القدم - في انتخابات الرئاسة الأخيرة في الأرجنتين.
- انخفاض أسعار النفط، الذي أثر على مداخيل بعض دول القارة المنتجة للنفط مثل فنزويلا والإكوادور. ومن ثم، أثر سلبًا على برامج التنمية والرعاية الاجتماعية.
- الممارسات السياسية الخاطئة على الصعيد الداخلي.
- سوء اختيار القيادات البديلة، التي حلت محل القيادات البارزة المؤسسة.
- الانفتاح الأميركي على أميركا اللاتينية، الذي خفف من حدة العداء لواشنطن، في بعض الدول، ولا سيما بالنسبة للطبقة الوسطى.

حالة فنزويلا

إن دولة مثل فنزويلا، التي كانت في يوم الأيام ثاني أكبر مصدّر للنفط في العالم، تعاني حاليًا من أزمة معيشية وسياسية من ملامحها نقص حاد في المواد الغذائية ومصاعب اقتصادية طاحنة، وصفها الرئيس مادورو بأنها «مؤامرة تحاك ضد بلاده». وانعكست هذه الأزمة في الهزيمة الانتخابية المؤلمة لليسار في الانتخابات البرلمانية، ولا يبدو في الأفق أن الوضع سيتحسن مع فقدان مادورو حليفًا مهمًا في مواجهته ضد اليمين الفنزويلي – المدعوم من واشنطن - في أعقاب إزاحة روسيف في البرازيل، إذ ما عاد بإمكانه التفاؤل بالحصول على دعم البرازيل لسد حاجة فنزويلا من السلع الأساسية وسط الشح الناجم عن انخفاض أسعار النفط ناتج البلاد الأساسي. وبالتالي، فإن الوضع الراهن سيفرض مزيدًا من الضغوط على الداخل الفنزويلي، مما سيدفع الحكومة اليسارية لمحاولة السيطرة على الوضع وضبط الأسواق بإجراءات تقشفية موجعة.
محللون اقتصاديون رصدوا أخيرًا ارتفاع أسعار السلع الغذائية في فنزويلا بنسبة 180 في المائة، ويتوقعون ارتفاعها بنسبة 700 في المائة بنهاية العام الحالي، مع بقاء أسعار النفط المنخفضة على حالها، وغياب أي تصور لرفع الأسعار قد يدفع إلى تغير المشهد السياسي هناك. وهنا نشير إلى أن مصادر في الاستخبارات الأميركية أعربت عن قلق واشنطن المتزايد من احتمال حدوث انهيار اقتصادي وسياسي في فنزويلا، ويدفع لذلك مخاوف من التخلف عن سداد الديون وتزايد الاحتجاجات في الشوارع والتدهور في قطاع النفط الحيوي في البلاد.
وفي الاتجاه ذاته، في تقييم متشائم للأزمة المتفاقمة في فنزويلا تبدي أوساط أميركية مطلعة شكها في أن يسمح الرئيس مادورو بإجراء استفتاء هذا العام على الرغم من الاحتجاجات التي قادتها المعارضة للمطالبة باستفتاء لتحديد ما إذا كان سيبقى في السلطة. لكن واشنطن، مع ذلك، ترى أنه من غير المحتمل تمكن مادورو من إكمال مدة رئاسته التي من المقرّر أن تنتهي بعد الانتخابات في أواخر 2018.
وفي حين يقول مسؤولون أميركيون إن أحد «السيناريوهات» الواردة سيكون إجبار حزب مادورو أو شخصيات سياسية على الاستقالة، من دون استبعاد احتمال وقوع انقلاب عسكري، فإن الأوساط الأميركية تحرص على القول إنه لا توجد دلائل على نسج أي مؤامرة فعلية أو إن الرئيس اليساري فقد دعم كبار ضباط الجيش له.
وكان أسوأ مثال على الاضطراب الذي تتسبب به الأزمة المعيشية الراهنة ما حدث في وقت سابق من الشهر الحالي عندما أقدمت حشود في فنزويلا على سرقة دقيق ودجاج، بل وملابس، في موجة من أعمال النهب. وللعلم، سبق لمادورو أن تعهد بأنه لن يقدم استقالته قبل انتهاء فترة رئاسته عام 2019، وكرّر اتهام المعارضة بالسعي إلى تدبير انقلاب ضده لتدمير «الميراث الاشتراكي» لسلفه الراحل شافيز.

و.. الأرجنتينية

أما في الأرجنتين، فإن ابتعاد الرئيسة كريستينا فيرنانديز دي كريشنر عن سدة الحكم، ووصول غريمها اليميني ماوريسيو ماكري غيّرا بشكل كبير المعادلة السياسية، مع العلم بأن ماكري اضطر للانتظار حتى الجولة الانتخابية الثانية الحاسمة في انتخابات الرئاسة بعدما تخلف في الجولة عن منافسه اليساري المحسوب على الرئيسة دانيال سيولي. وهذا يعني أن هذه الانعطافة نحو اليمين قد تكون أو لا تكون نهائية. جدير بالذكر أن دي كريشنر رفضت المثول أمام القضاء في قضايا فساد بعد اتهامها بالإضرار بالمال العام بسبب عملية مضاربة بأسعار صرف العملات أجراها المصرف المركزي في الأشهر الأخيرة من ولايتها. وحسب الحكومة اليمينية الحالية – التي كانت حينذاك في المعارضة – فإن هذه العملية كلفت ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية خسائر بمئات ملايين الدولارات.

صفحة جديدة في كوبا

على مستوى مختلف تمامًا، هناك كوبا..
كوبا التي كانت تمثل رأس حربة اليسار – بل واليسار الثوري – في الأميركتين، منشغلة الآن بمسار السلام مع الولايات المتحدة، العدو اللدود السابق، وباتت الآن منفتحة على الغرب بعد سنوات من القطيعة، مما يفتح صفحة جديدة لهذه الدولة - الجزيرة بالنسبة للاستثمارات الغربية والأميركية.. المتعطشة للحضور فيها.
وبعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى كوبا ولقائه بالرئيس راوول كاسترو، تعقد الحكومة الكوبية جولات من المباحثات مع الولايات المتحدة بهدف تحسين العلاقات بين البلدين وتقييم التقدم الذي حققه خصما «الحرب الباردة» السابقان نحو تجاوز صراعهما الذي استمر عقودا وتحديد مجالات جديدة للتعاون. وبعد قطيعة دبلوماسية وتجارية طالت لأكثر من 50 سنة وقع الجانبان اتفاقات بشأن مسائل ذات اهتمام مشترك، مثل البيئة والخدمات البريدية والرحلات الجوية المباشرة.
ويبقى الآن من معاقل اليسار الإكوادور وبوليفيا. والحقيقة أن لكلا البلدين مشكلات قد تؤدي إلى إضعاف قبضة اليسار على السلطة فيه. ففي بوليفيا أخفق الرئيس إيفو موراليس عبر استفتاء أن يجدد فترة حكمة من جديد، وهو ما يعني اختفاءه عن السياسة بعد انقضاء فترته الرئاسية الحالية. أما الإكوادور - وهي دولة عضو في «أوبك»، مثل فنزويلا - فلديها ما يكفيها من أزمات اقتصادية في طليعة أسبابها انخفاض أسعار النفط. ومن ناحية أخرى، بات من الواضح إلى أن «الحلف البوليفاري» اليساري الذي قام في أميركا الجنوبية وكانت البرازيل والأرجنتين وفنزويلا أبرز أركانه فقد الآن فاعليته وتأثيره الإقليمي. أيضًا يشكو من الشلل الآن تجمع آخر هو «اتحاد أميركا الجنوبية» (أوناسور)، وبدا عجزه السياسي واضحًا في الآونة الأخيرة؛ عجزه عن دعم موقف روسيف في وجه معارضيها وعلى رأسهم نائبها، الرئيس الحالي المؤقت، تامر.
مما لا شك فيه، أن ما حدث في البرازيل هزّ الخريطة الجيو - سياسية في أميركا الجنوبية، وهو ما يتوقع أن يؤسس لحقبة جديدة من التحالفات والتكتلات يتجسد فيها انحسار نفوذ اليسار لأول مرة في القارة منذ نهاية «الحرب الباردة»، ومعها مسلسل الانقلابات العسكرية.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.