أزمة الرئاسة في البرازيل تهز «يسار» أميركا الجنوبية

إبعاد ديلما روسيف جعل التيار اليساري يخسر أنبوبًا للأكسجين كان يمتد إلى مختلف أنحاء القارة

الرئيس الأرجنتيني ماكري أمام مناصريه
الرئيس الأرجنتيني ماكري أمام مناصريه
TT

أزمة الرئاسة في البرازيل تهز «يسار» أميركا الجنوبية

الرئيس الأرجنتيني ماكري أمام مناصريه
الرئيس الأرجنتيني ماكري أمام مناصريه

أوقف تصويت في مجلس الشيوخ البرازيلي الرئيسة اليسارية ديلما روسيف عن ممارسة مهامها، وأسند بالتالي منصب الرئاسة بالوكالة إلى نائبها السياسي الوسطي ميشال تامر، الذي تتهمه روسيف (68 سنة) بـ«الضلوع في مؤامرة» ضدها. وكان المجلس قد اتخذ القرار بحق روسيف عن ممارسة مهامها تمهيدًا لمحاكمتها بشأن مزاعم بارتكاب مخالفات في الميزانية. لكن الرئيسة، المُبعَدة عن منصبها، التي تعهدت بمحاربة ما وصفته بـ«الظلم» بكل السبل القانونية، تنفي هذه التهم.
إزاحة روسيف، ابنة المهاجر البلغاري، عن رئاسة أكبر دولة لاتينية في العالم، جاءت مؤشرًا على تراجع نسبي ملحوظ للموجة اليسارية التي اشتدت على مستوى معظم دول أميركا اللاتينية عبر صناديق الاقتراع في أعقاب انتهاء «الحرب الباردة»، وهو ما أسقط فعليًا ذرائع الانقلابات العسكرية. ومنذ ذلك الحين ثبّت اليسار أقدامه ورسّخ حضوره على حساب اليمين على امتداد القارة باستثناء دولتين فقط، هما كولومبيا وباراغواي. في حين نجح حتى الماركسيون، وليس فقط الاشتراكيون المعتدلون، في بلوغ قصور الحكم في بعض الدول، ومنها فنزويلا وبوليفيا وغيانا وأوروغواي.
يبدو أن أزمة الرئاسة في البرازيل تلقّن اليسار في دول أميركا الجنوبية درسًا مؤلمًا بعد سنوات من ازدهار اليسار اللاتيني على حساب قوى اليمين والوسط، وها هي القوى الوسطية واليمينية – ولو بوجهها الديمقراطي غير العسكري – يعود من جديد إلى المشهد السياسي في القارة، تعود من جديد لتغير المشهد السياسي في المنطقة ومعه خريطتها الجيو - سياسية.
بعد «إقالة» الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف من منصبها الرئاسي مؤقتًا، لا شك أن اليسار في أميركا الجنوبية خسر أنبوبًا للأكسجين كان يمتد إلى مختلف أنحاء القارة من شمالها إلى جنوبها. وكانت البرازيل – وهي الدولة الأكبر، كما أنها الوحيدة الناطقة باللغة البرتغالية، في القارة – قد جسّدت إنجاز اليسار في أعقاب عقود من حكم اليمين والديكتاتوريات العسكرية، إثر وصول الرئيس السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الشهير بـ«لولا» إلى سدة الحكم ونجاح برنامجه الرئاسي في اجتثاث الفقر من البلاد، وقدرته على انتشال أكثر من ثلاثين مليون مواطن من تحت خط الفقر وتصعيدهم إلى الطبقة المتوسطة. منجزات لولا الشخصية النقابية اليسارية ومؤسس حزب العمال صاحب «الكاريزما» الشعبية الكبيرة، كانت دليلاً قاطعًا على قدرة اليسار أولاً على الوصول إلى السلطة بوسائل ديمقراطية، وثانيًا تمكنه من بناء تحالفات عريضة تتيح له الوقت الكافي لتنفيذ سياساته ومحاسبته عليها.
ومن ثم بعد إكمال لولا (70 سنة) ولايته الرئاسية الثانية، رشح حليفته الوزيرة الاشتراكية لخلافته، ونجحت عبر التحالف مع قوى يسارية ووسطية من الفوز بمنصب الرئاسة عام 2011. والمؤكد أن دعم لولا وتزكيته لها كانا عنصرًا حاسمًا في فوزها.
اليوم يشكل تصويت مجلس الشيوخ البرازيلي بوقف الرئيسة عن ممارسة مهامها، واتهامها نائبها ميشال تامر (الرئيس الحالي بالوكالة) بـ«التآمر» عليها تغيرين مهمين في المشهد السياسي البرازيلي: الأول، هزيمة رئيسة تعد وريثة لتركة اليسار، والثاني انهيار التوافق التحالفي العريض بين اليسار والوسط الذي سهّل انتخابها، مما يقلب الأمور بشكل دراماتيكي.

ظاهرة قارية

أهمية ظاهرة «لولا»، في واقع الأمر تنبع من كونها أكثر من مجرد «ظاهرة برازيلية»، بل ظاهرة قارية تتجسد بتعميم نموذج اليسار الآتي إلى قصور الحكم عن طريق صناديق الاقتراع على امتداد أميركا الجنوبية. فبعدما انتخب «لولا» ونجح في تطبيق برنامجه، أدرك الرئيس اليساري أهمية التأسيس لمرحلة من سيأتي بعده، وبالتالي، مواصلة المسيرة داخل البرازيل، وتحصينها عبر تعميمها في الدول المجاورة في أميركا الجنوبية، ثم عموم أميركا اللاتينية بما فيها أميركا الوسطى وجزر الكاريبي.
وحقًا، انطلق ونشط التعميم، وخطت قيادات في القارة على خطى التأسيس لتركة اليسار. فقام الرئيس الفنزويلي السابق الراحل هوغو شافيز باعتماد سياسات اشتراكية صريحة تقوم على بناء شبكة أمان للطبقات الفقيرة عندما كانت أسعار النفط في قمتها، مما ساعد على إنجاح برامجه في وجه معارضة الطبقات الغنية المنخرطة في أحزاب اليمين التقليدية. وبعدما اطمأن إلى التركة اختار «تلميذه» ومساعده نيكولاس مادورو ليخلفه في منصب الرئاسة.
وبنسبة أقل راديكالية، تكرر النموذج كذلك في الأرجنتين، حيث خلفت السياسية اليسارية المعتدلة كريستينا فيرنانديز دي كيرشنر زوجها الرئيس اليساري المعتدل نيستور كيرشنر، واستمر حكم الزوجين 12 سنة بين 2003 و2015. وفي هذه الأثناء انتزع سياسيان يساريان شابان هما رافاييل كورييا الأكاديمي المتخرج في جامعات الولايات المتحدة الرئاسة في الإكوادر، وإيفو موراليس النقابي العمالي المتحدر من شعب الآيمارا (من الأميركيين الأصليين) الرئاسة في بوليفيا. كذلك انتزع أولانتا هومالا، وهو ضابط سابق - متحدر أيضًا من شعب الكيتشوا من الأميركيين الأصليين - الرئاسة في بيرو. وعزّزت كل من أوروغواي وتشيلي توجهها يسارًا مع انتخاب الرئيسين تاباري فاسكيز وميشال باشليت، ومع أن رجل الأعمال الثري سباستيان بينييرا استفاد من انقسام اليسار التشيلي ليفوز بانتخابات 2010 قبل استعادة الرئيسة (والطبيبة) الاشتراكية باشليت الرئاسة لليسار، فإن اليسار احتفظ بالحكم في أوروغواي عبر فاسكيز والرئيس اليساري السابق خوسيه موخيكا بلا انقطاع منذ 2005.

ماذا حدث الآن؟

نكسة اليسار التي أخذت تتبلور في أميركا الجنوبية، وتشهد نكسات متلاحقة، تعود في الحقيقة إلى بضعة عوامل، لعل أبرزها:
- الفساد، الذي لحق بأداء بعض الزعامات اليسارية التي غفلت عن قدرة الناخبين على محاسبتها، كما حاسبوا القادة اليمينيين من قبل. وفي مقدمة من دفع ثمن الفساد اليسار الأرجنتيني وأسرة كيرشنر، وكانت النتيجة الفوز الذي حققه عمدة بوينس آيرس المليونير موريسيو ماكري - الرئيس السابق لنادي بوكا جونيورز الشهير في عالم كرة القدم - في انتخابات الرئاسة الأخيرة في الأرجنتين.
- انخفاض أسعار النفط، الذي أثر على مداخيل بعض دول القارة المنتجة للنفط مثل فنزويلا والإكوادور. ومن ثم، أثر سلبًا على برامج التنمية والرعاية الاجتماعية.
- الممارسات السياسية الخاطئة على الصعيد الداخلي.
- سوء اختيار القيادات البديلة، التي حلت محل القيادات البارزة المؤسسة.
- الانفتاح الأميركي على أميركا اللاتينية، الذي خفف من حدة العداء لواشنطن، في بعض الدول، ولا سيما بالنسبة للطبقة الوسطى.

حالة فنزويلا

إن دولة مثل فنزويلا، التي كانت في يوم الأيام ثاني أكبر مصدّر للنفط في العالم، تعاني حاليًا من أزمة معيشية وسياسية من ملامحها نقص حاد في المواد الغذائية ومصاعب اقتصادية طاحنة، وصفها الرئيس مادورو بأنها «مؤامرة تحاك ضد بلاده». وانعكست هذه الأزمة في الهزيمة الانتخابية المؤلمة لليسار في الانتخابات البرلمانية، ولا يبدو في الأفق أن الوضع سيتحسن مع فقدان مادورو حليفًا مهمًا في مواجهته ضد اليمين الفنزويلي – المدعوم من واشنطن - في أعقاب إزاحة روسيف في البرازيل، إذ ما عاد بإمكانه التفاؤل بالحصول على دعم البرازيل لسد حاجة فنزويلا من السلع الأساسية وسط الشح الناجم عن انخفاض أسعار النفط ناتج البلاد الأساسي. وبالتالي، فإن الوضع الراهن سيفرض مزيدًا من الضغوط على الداخل الفنزويلي، مما سيدفع الحكومة اليسارية لمحاولة السيطرة على الوضع وضبط الأسواق بإجراءات تقشفية موجعة.
محللون اقتصاديون رصدوا أخيرًا ارتفاع أسعار السلع الغذائية في فنزويلا بنسبة 180 في المائة، ويتوقعون ارتفاعها بنسبة 700 في المائة بنهاية العام الحالي، مع بقاء أسعار النفط المنخفضة على حالها، وغياب أي تصور لرفع الأسعار قد يدفع إلى تغير المشهد السياسي هناك. وهنا نشير إلى أن مصادر في الاستخبارات الأميركية أعربت عن قلق واشنطن المتزايد من احتمال حدوث انهيار اقتصادي وسياسي في فنزويلا، ويدفع لذلك مخاوف من التخلف عن سداد الديون وتزايد الاحتجاجات في الشوارع والتدهور في قطاع النفط الحيوي في البلاد.
وفي الاتجاه ذاته، في تقييم متشائم للأزمة المتفاقمة في فنزويلا تبدي أوساط أميركية مطلعة شكها في أن يسمح الرئيس مادورو بإجراء استفتاء هذا العام على الرغم من الاحتجاجات التي قادتها المعارضة للمطالبة باستفتاء لتحديد ما إذا كان سيبقى في السلطة. لكن واشنطن، مع ذلك، ترى أنه من غير المحتمل تمكن مادورو من إكمال مدة رئاسته التي من المقرّر أن تنتهي بعد الانتخابات في أواخر 2018.
وفي حين يقول مسؤولون أميركيون إن أحد «السيناريوهات» الواردة سيكون إجبار حزب مادورو أو شخصيات سياسية على الاستقالة، من دون استبعاد احتمال وقوع انقلاب عسكري، فإن الأوساط الأميركية تحرص على القول إنه لا توجد دلائل على نسج أي مؤامرة فعلية أو إن الرئيس اليساري فقد دعم كبار ضباط الجيش له.
وكان أسوأ مثال على الاضطراب الذي تتسبب به الأزمة المعيشية الراهنة ما حدث في وقت سابق من الشهر الحالي عندما أقدمت حشود في فنزويلا على سرقة دقيق ودجاج، بل وملابس، في موجة من أعمال النهب. وللعلم، سبق لمادورو أن تعهد بأنه لن يقدم استقالته قبل انتهاء فترة رئاسته عام 2019، وكرّر اتهام المعارضة بالسعي إلى تدبير انقلاب ضده لتدمير «الميراث الاشتراكي» لسلفه الراحل شافيز.

و.. الأرجنتينية

أما في الأرجنتين، فإن ابتعاد الرئيسة كريستينا فيرنانديز دي كريشنر عن سدة الحكم، ووصول غريمها اليميني ماوريسيو ماكري غيّرا بشكل كبير المعادلة السياسية، مع العلم بأن ماكري اضطر للانتظار حتى الجولة الانتخابية الثانية الحاسمة في انتخابات الرئاسة بعدما تخلف في الجولة عن منافسه اليساري المحسوب على الرئيسة دانيال سيولي. وهذا يعني أن هذه الانعطافة نحو اليمين قد تكون أو لا تكون نهائية. جدير بالذكر أن دي كريشنر رفضت المثول أمام القضاء في قضايا فساد بعد اتهامها بالإضرار بالمال العام بسبب عملية مضاربة بأسعار صرف العملات أجراها المصرف المركزي في الأشهر الأخيرة من ولايتها. وحسب الحكومة اليمينية الحالية – التي كانت حينذاك في المعارضة – فإن هذه العملية كلفت ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية خسائر بمئات ملايين الدولارات.

صفحة جديدة في كوبا

على مستوى مختلف تمامًا، هناك كوبا..
كوبا التي كانت تمثل رأس حربة اليسار – بل واليسار الثوري – في الأميركتين، منشغلة الآن بمسار السلام مع الولايات المتحدة، العدو اللدود السابق، وباتت الآن منفتحة على الغرب بعد سنوات من القطيعة، مما يفتح صفحة جديدة لهذه الدولة - الجزيرة بالنسبة للاستثمارات الغربية والأميركية.. المتعطشة للحضور فيها.
وبعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى كوبا ولقائه بالرئيس راوول كاسترو، تعقد الحكومة الكوبية جولات من المباحثات مع الولايات المتحدة بهدف تحسين العلاقات بين البلدين وتقييم التقدم الذي حققه خصما «الحرب الباردة» السابقان نحو تجاوز صراعهما الذي استمر عقودا وتحديد مجالات جديدة للتعاون. وبعد قطيعة دبلوماسية وتجارية طالت لأكثر من 50 سنة وقع الجانبان اتفاقات بشأن مسائل ذات اهتمام مشترك، مثل البيئة والخدمات البريدية والرحلات الجوية المباشرة.
ويبقى الآن من معاقل اليسار الإكوادور وبوليفيا. والحقيقة أن لكلا البلدين مشكلات قد تؤدي إلى إضعاف قبضة اليسار على السلطة فيه. ففي بوليفيا أخفق الرئيس إيفو موراليس عبر استفتاء أن يجدد فترة حكمة من جديد، وهو ما يعني اختفاءه عن السياسة بعد انقضاء فترته الرئاسية الحالية. أما الإكوادور - وهي دولة عضو في «أوبك»، مثل فنزويلا - فلديها ما يكفيها من أزمات اقتصادية في طليعة أسبابها انخفاض أسعار النفط. ومن ناحية أخرى، بات من الواضح إلى أن «الحلف البوليفاري» اليساري الذي قام في أميركا الجنوبية وكانت البرازيل والأرجنتين وفنزويلا أبرز أركانه فقد الآن فاعليته وتأثيره الإقليمي. أيضًا يشكو من الشلل الآن تجمع آخر هو «اتحاد أميركا الجنوبية» (أوناسور)، وبدا عجزه السياسي واضحًا في الآونة الأخيرة؛ عجزه عن دعم موقف روسيف في وجه معارضيها وعلى رأسهم نائبها، الرئيس الحالي المؤقت، تامر.
مما لا شك فيه، أن ما حدث في البرازيل هزّ الخريطة الجيو - سياسية في أميركا الجنوبية، وهو ما يتوقع أن يؤسس لحقبة جديدة من التحالفات والتكتلات يتجسد فيها انحسار نفوذ اليسار لأول مرة في القارة منذ نهاية «الحرب الباردة»، ومعها مسلسل الانقلابات العسكرية.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.