حسابات «القرم»

بوتين أراد ترك بصمة تاريخية لشخصه بضمه شبه الجزيرة.. ومواجهته مع الغرب باتت مفتوحة على كل الاحتمالات

حسابات «القرم»
TT

حسابات «القرم»

حسابات «القرم»

غالبية القادة السياسيين يبذلون جهودا كبيرة ليذكرهم التاريخ إيجابا عندما يتنحون أو يرحلون، والقليل منهم يأتيه في مرحلة ما من حكمه، حدث تاريخي مفاجئ، يعرف كيف يوظفه ويكون من ثم أهم لبنة في إرثه السياسي. أحد هؤلاء القليلين، هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي دخل خلال الفترة القليلة الماضية، بقوة، على خط الثورة الأوكرانية المحلية، وحرك مسألة منطقة القرم، مما خلق أزمة دولية كبرى. وباسترداده القرم، صار بوتين ثالث زعيم روسي - سوفياتي، بعد ستالين وخروشوف، يتخذ خطوة تاريخية كبيرة تجاه شبه الجزيرة. وبات بوتين، من دون شك، اللاعب الرئيس في تطورات الأزمة، وشخصية مثيرة للجدل على المستوى الدولي.
يجمع محللون كثيرون على أن بوتين تحرك في البداية بدافع الرد على الثورة التي أطاحت حليفه الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الشهر الماضي وبسبب شعوره بأن الغرب لعب دورا خفيا كبيرا في تلك الانتفاضة التي دامت بضعة أشهر. لكن توابع التحرك الروسي والإيعاز إلى القرم بتنظيم استفتاء سريع من أجل الانضمام إلى روسيا، تقاطعت لاحقا مع مشروع قديم لدى القوميين الروس، يدعو لتصحيح ما يعدونه خطأ من الزعيم السوفياتي أوكراني الأصل، نيكيتا خروشوف بالتنازل عن القرم لأوكرانيا عام 1954. وهكذا، ضرب بوتين عصفورين بحجر: ثأر للإهانة التي لحقت بحليفه، وحقق حلما روسيا قديما أدخله التاريخ.

خلق حدث اقتطاع القرم من أوكرانيا وضمها إلى روسيا، واقعا سياسيا جديدا داخل أوروبا وشكل ما يمكن عده أول تغيير في الحدود الدولية داخل القارة العجوز منذ الحرب العالمية الثانية (إذا استثنينا طبعا تغير الحدود الذي نجم عن تفكك يوغوسلافيا في مطلع التسعينات من القرن الماضي)، وأصبح من ثم بمثابة تحد للدول الغربية التي كان ينظر إليها دوما على أنها الفاعل الرئيس في المسرح الدولي.
«الأسد الجريح»، ممثلا في الغرب بقيادة الولايات المتحدة ورئيسها باراك أوباما، يدرك الآن، أنه أصيب في كبريائه في غمرة أحداث لم يكن مستعدا لها، وأن استعادة كرامته تتطلب الرد، والأخطر من ذلك، تشكل إحساس جديد لدى الغرب بمؤسساته السياسية والعسكرية، بأن التسليم بالأمر الواقع الجديد يعني إطلاق يد بوتين لتكرار «سيناريو القرم» في مناطق أخرى، سواء في الشرق الأوكراني وربما حتى في باقي أوكرانيا ومولدوفا. طبعا، الدول الغربية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) باشرت على الفور، إطلاق عقوبات تمثلت في منع مسؤولين مقربين من بوتين من الحصول على تأشيرات دخول وتجميد أي أصول محتملة لهم، وواضح أن «عملية العقوبات»، التي جرت على دفعتين حتى الآن، ستتواصل وستكون لها تداعيات.
كما أن رهان البعض على أن الأزمة جرى احتواؤها، وأن الأسوأ ولى، قد لا يكون دقيقا، بحسب خبراء في السياسة الدولية. ويقول مدير البرنامج الروسي في معهد «تشاتام هاوس» بلندن، كيير غيلس، لـ«الشرق الأوسط»، إن «منطقة القرم ضاعت من أوكرانيا ولا تستطيع العودة إلى سيادتها»، لكن هناك «خطرا حقيقيا بحدوث اضطرابات في الشرق الأوكراني تتسبب فيها مجموعات روسية الأصل في المنطقة، تخطئ تقدير الحسابات وتدفع بالأمور نحو مواجهات عسكرية». ويشدد غيلس على أن «هذا النوع من المواجهة لا تريده روسيا الآن، وإذا اندلع فإنه سيكون طويلا ودمويا». ويذهب باحث آخر مقيم بلندن وملم بملف المنطقة، هو جوناثان إيل، في هذا الاتجاه التحليلي نفسه، ويقول لـ«الشرق الأوسط»، إنه «في حال امتنع الغرب عن اتخاذ إجراءات أقوى ضد روسيا وشجعها على اعتبار خيار القرم طريقا جيدا لتوسيع النفوذ، فستكون هناك ردود عسكرية أكثر في المستقبل، ومن هذا المنظور يمكن القول إن الأسوأ قد بدأ للتو» على عكس اعتقاد أننا تجاوزناه.
وللتدليل على أن تداعيات اقتطاع القرم من أوكرانيا ستطول، يربط محللون الأزمة الحالية بمحطات سابقة، بدأت مع ارتفاع عائدات النفط عام 2005، مما دفع القيادة السياسية الروسية إلى ضخ أموال كبيرة لتعزيز الترسانة العسكرية للبلاد ثم السعي لجس نبض نفوذها وسط جيرانها في محيطها الغربي، وكان من نتائج ذلك، تجربة الخيار العسكري في جورجيا عام 2008. ويقول إيل، الذي يشغل منصب مدير الدراسات في المعهد الملكي للدراسات الأمنية والدفاعية (مقره لندن ومعروف اختصارا بكلمة روسي)، إن «روسيا استخلصت من درس جورجيا أن الخيار العسكري مفيد على المستوى الدولي، وعليه كررت التجربة بالقرم في عام 2014». ويصف إيل، روسيا تحت قيادة بوتين بأنها «عائدة بحزم وثقة، وتريد اتخاذ خطوات لحماية مصالحها الأمنية». ويتابع أن «من المهم للمجتمع الدولي الآن إذا كان يريد حماية أمن أوروبا، أن يتصرف بطريقة مختلفة عن تحركه خلال أزمة جورجيا عام 2008، وألا يشجع روسيا على اعتقاد أن سياستها الحالية هي الأفيد لها مستقبلا».
ويبدو أن الرئيس بوتين كان مدركا عجز الغرب عن الرد عليه عسكريا خلال الأزمة الأخيرة، ولذا عرف كيف يستغل الفرصة السانحة ويعيد القرم إلى بلاده في غفلة من الحسابات السياسية الدولية. والجميع يعرف أن الغرب لا يمكنه الرد عسكريا على الأزمة الأخيرة، لسببين رئيسين: الأول هو عدم امتلاك حلف شمال الأطلسي الإطار القانوني لتحريك قوات ردا على اقتطاع أرض من دولة ليست عضوا فيه (أوكرانيا لديها برنامج شراكة مع الأطلسي فقط)، والثاني المناخ السياسي الحالي في الولايات المتحدة وأوروبا غير الميال لأي مواجهة عسكرية، خصوصا إذا كانت مع دولة كبرى مثل روسيا تملك حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي وسلاح الردع النووي. لكن هذا لا يعني أن الأميركيين والأوروبيين لم يطرحوا الخيار العسكري خلال الأزمة. ويقول غيلس بهذا الصدد: «بكل تأكيد، كان هناك نوع من النقاش داخل الحلف الأطلسي حول الخيارات العسكرية، مع تطور الأزمة، والأهم من ذلك، سيكون هناك نقاش أكثر الآن حول الخطوات المستقبلية إذا تطورت الأمور وحدث قتال أوسع في مناطق مثل الشرق الأوكراني ونتجت عن ذلك عمليات نزوح للاجئين». ويشدد على أن «الخيار العسكري لدى حلف الأطلسي لم يعد مطروحا الآن، لكنه لم يستبعد كليا من الطاولة».
وبدأ الرئيس الأميركي، أول من أمس، زيارة إلى أوروبا قادته إلى لاهاي، حيث شارك في قمة مجموعة السبع للأمن النووي، ومنها يتوجه إلى بروكسل للمشاركة في القمة الأميركية - الأوروبية. ويتوقع أن تأخذ الأزمة الأوكرانية وتعزيز أمن دول أوروبا الشرقية، حيزا كبيرا من محادثات الرئيس الأميركي. وذكرت معلومات مسبقة أن أوباما يريد تقديم ضمانات أمنية قوية إلى الدول الصغيرة التي انضمت إلى الحلف الأطلسي بعد انفصالها عن الاتحاد السوفياتي، في إشارة إلى موسكو بأن الغرب لن يتساهل إذا تكرر سيناريو القرم في مناطق أخرى.
ومع استبعاد الخيار العسكري، ركز الأميركيون والأوروبيون على أمرين: فرض عقوبات ضد مسؤولين روس وأوكرانيين كبار، والسعي لعزل روسيا في منظمات دولية مثل «مجموعة الثماني» و«منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية». ويجمع محللون على أن سلاح العقوبات يعد فعالا أكثر من سلاح العزلة، كما يلاحظون أن العقوبات الأميركية جاءت أقوى من الأوروبية، واستهدفت مباشرة الدائرة الضيقة المقربة من الرئيس بوتين، وخصوصا تلك التي تمارس ما يمكن تسميته السلطة المالية في روسيا. وقال جوناثان إيل: «إذا أخذت مثلا بعض رجال الأعمال المقربين من بوتين، فإن هؤلاء يحتاجون دوما إلى السفر من أجل ترتيب شؤونهم المالية في الخارج، وعليه (فإن الإجراءات المتخذة بحقهم) تسبب ضررا معتبرا لهم». ويذهب غيلس في نفس الاتجاه متوقعا تأثيرا قويا للعقوبات، ويقول: «في عالم اليوم المتداخل، سيكون هناك أثر على الاقتصاد الروسي من ناحية الأموال والقدرة على الاقتراض من السوق العالمية. فالسوق المالية العالمية، خصوصا سوقي لندن ونيويورك، ستسعى بموجب الإجراءات الجديدة، لفرض أسعار أعلى على الروس عند محاولاتهم الاقتراض في المستقبل».
ويشير محللون إلى أن الفرق بين العقوبات الأميركية ونظيرتها الأوروبية مرده إلى طبيعة اتخاذ القرار لدى الجانبين. فالولايات المتحدة مثلها مثل روسيا تستطيع أن تتحرك منفردة ومستقلة، ولذا كان سهلا عليها اتخاذ عقوبات قوية ضد الدائرة الضيقة المقربة من الرئيس بوتين، بينما يتطلب الأمر من الاتحاد الأوروبي، عندما يريد اتخاذ عقوبات جماعية، موافقة من كل الدول الأعضاء الـ28. ومعروف أن مصالح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتباين بشكل كبير في علاقتها مع روسيا. ويقول مصدر أوروبي، تحدثت إليه «الشرق الأوسط»، إن بريطانيا وبولندا هما الوحيدتان اللتان طالبتا بعقوبات فعالة ضد المقربين من بوتين وهو ما عارضته الدول الأخرى في الاتحاد.
ويلاحظ متخصصون أن سلاح العزلة الذي أشهره الغرب في وجه روسيا وتمثل خصوصا في إلغاء اجتماع «مجموعة الثماني» المقرر في منتجع سوتشي في وقت لاحق من العام الحالي ثم التهديد بطرد روسيا من المجموعة كليا، يعد عديم الفاعلية. ويقول جوناثان إيل: «إنه لا يوجد أي تأثير لهذا الأمر، فروسيا لا يعنيها على الإطلاق عدم دعوتها لحضور اجتماعات مجموعة الثماني، والروس يعرفون أن أي عزلة ستكون مؤقتة بناء على تجارب سابقة». ويشير إلى أن «مجموعة الثماني» لا تمثل أهمية كبيرة بالنسبة لروسيا، على عكس الأمم المتحدة التي تنظر إليها بأنها منظمة مهمة، وهي تعلم أنه لا يمكن عزلها منها بسبب امتلاكها العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي. ويرى محللون آخرون أن «مجموعة الثماني لا تعمل أصلا بشكل جيد، ولو كانت تؤدي دورا فعالا لتفادينا من الأصل نزاع أوكرانيا».
وإضافة إلى العقوبات والعزلة، سيتعين على روسيا الآن تحمل تكلفة مالية كبرى بعد ضمها القرم التي يسكنها نحو مليوني نسمة. وتفيد تقارير بأن شبه الجزيرة باتت الآن بحاجة إلى شبكات لوجيتسكية جديدة لتوفير الغاز والماء والطرق من البر الروسي، من دون الاعتماد على أوكرانيا. وتفيد تقارير بأن القرم تعتمد بنسبة 80 في المائة على أوكرانيا في التزود بالماء والكهرباء. ويقول فاليري شالي، مدير «مركز رازومكوف الأوكراني للدراسات السياسية والاقتصادية»، إنه سيتعين على روسيا تحمل تكلفة تصل إلى خمسة مليارات يورو سنويا بعد ضمها القرم. إلا أن جوناثان إيل يرى في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن أمر التكلفة المالية لا يشكل قلقا لروسيا، و«موسكو أظهرت في مناسبات كثيرة أنها تقبل تكبد معاناة اقتصادية من أجل توسيع نفوذها وتلبية مطالب أمنية».
كذلك، سيتعين على روسيا دفع ثمن سياسي باهظ تجاه التطورات الأخيرة. فموسكو بابتلاعها منطقة القرم، تكون قد خسرت أوكرانيا إلى الأبد، وكان من التداعيات الفورية لاستفتاء القرم، توقيع الاتحاد الأوروبي مع الحكومة الأوكرانية الجديدة على شق سياسي من اتفاق شراكة قد يمهد على المدى المتوسط لعملية انضمام، علما بأن امتناع يانوكوفيتش عن توقيع هذا الاتفاق في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي كان سبب الشرارة الأولى لكل ما حدث في المنطقة. كما يتوقع أن يسرع حلف شمال الأطلسي الآن، مساعيه لضم أوكرانيا دون وجود اعتراض كبير لدى السلطات الجديدة في كييف. وبكل تأكيد، سيفعل حلف الأطلسي الأمر ذاته مع جورجيا التي ترتبط مع الحلف بشراكة أيضا. ومن هذا المنظور، يكون بوتين قد تسبب في إحداث توجس أمني لدى عدوه اللدود (حلف الأطلسي) وساعده على الاقتراب أكثر تجاه الحدود الروسية.
وحول دور بوتين في الأزمة الأوكرانية إجمالا، يقول محلل غربي إن جذور النزاع تتعلق أساسا بمن يملك التأثير في الفضاء السوفياتي السابق، والقضية لم تكن أبدا مرتبطة بوضع الروس في القرم ولم تكن هناك أي مؤشرات على أن روس القرم يعانون التمييز. ويصر على أن جذور الأزمة بدأت بالثورة التي أطاحت يانوكوفيتش من قبل الشعب الأوكراني والرئيس بوتين تدخل لاحقا و«كان مصرا على إظهار من السيد في المنطقة».



جان نويل بارو: اقتصادي من عائلة سياسية مرموقة... على رأس الدبلوماسية الفرنسية

بارو
بارو
TT

جان نويل بارو: اقتصادي من عائلة سياسية مرموقة... على رأس الدبلوماسية الفرنسية

بارو
بارو

فور تولي بارو مهام منصبه، باشر وزير الخارجية الفرنسي تنظيم زيارة للشرق الأوسط تهدف إلى بحث النزاع مع مختلف الأطراف، ومحاولة حلحلة الوضع المتأزم، معلناً: «لقد حان وقت الدبلوماسية».

وُلد جان نويل بارو يوم 13 مايو (أيار) 1983 في العاصمة الفرنسية باريس، وهو يتحدّر من عائلة سياسية معروفة، إذ كان والده جاك بارو، الذي تُوفي عام 2014 سياسياً بارزاً من كتلة الوسط المسيحي، وكان قد شغل عدة حقائب وزارية، إضافة لمنصب نائب رئيس اللجنة الأوروبية وعضو «المجلس الدستوري»، وهو منصب مرموق لا يشغله سوى الساسة المحنَّكين في فرنسا.

ثم إن جدّه نويل بارو كان مناضلاً في الجيش السّري، ومقاوماً لـ«نظام فيشي» المتعاون مع النازية إبّان الحرب العالمية الثانية، وكان مكلفاً بتهريب الأدوية إلى أفراد المقاومة الشعبية بحكم عمله صيدلياً. وبعد انتهاء الحرب شغل منصب نائب في البرلمان، وعمدة لمدينة إيسنجو الصغيرة (بجنوب شرقي فرنسا).

جذور عائلية سياسية

الجذور السياسية لعائلة بارو ضاربة إذن بقوة في منطقة الأوت لوار، بجنوب شرقي فرنسا. والواقع أن التمثيل النيابي للمنطقة - القريبة من مدينة ليون - ظل داخل هذه العائلة من عام 1945 حتى عام 2004 دون انقطاع، منتقلاً من الجَد إلى الأب، قبل أن يلحق بهما الحفيد جان نويل (41 سنة). وهذا الحفيد، الذي بات، اليوم، وزيرخارجية فرنسا، فاز بأول مقعد نيابي له عام 2017. ثم إن جان نويل لم يرِث من والده وجَدّه المنصب فحسب، بل ورث منهما أيضاً القناعات السياسية والالتزام بتيار يمين الوسط. فعائلته محسوبة على خط يمين الوسط المعتدل أباً عن جَدّ، فالجدّ نويل كان رئيساً لحزب الوسط الديمقراطي لسنوات، والوالد جاك كان السكرتير العام لكتلة الوسط (أو دي إف)، أما ابنه جان نويل بارو فعضو في «الحركة الديمقراطية (مودام)»، التي تمثل، اليوم، تيار الوسط في فرنسا، وكان ناطقاً وطنياً باسمها (في 2018)، ثم أميناً عاماً (بين 2018 و2022)، قبل أن يغدو نائباً لرئيس هذه الكتلة السياسي البارز فرنسوا بايرو، وأحد أقرب المقرّبين منه (منذ يوليو/ تموز 2022).

خبير في الاقتصاد وإدارة الأعمال

تلقّى جان نويل بارو تعليمه العالي في مجال الاقتصاد وإدارة الأعمال، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه من المعهد العالي للتجارة «آش أو سيه»، وعلى شهادة الماجستير من معهد باريس للعلوم السياسية «سيانس بو» المرموق. ولقد عمل زميلاً بحثياً في مدرسة سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «إم آي تي»، إحدى أرقى جامعات العالم والولايات المتحدة، بين 2013 و2017.

وفي 2018 عُيّن وزير الخارجية الجديد، في فرنسا، أستاذاً محاضراً بالمعهد العالي للتجارة «آش أو سيه». وتناولت أبحاثه مجال الشؤون المالية، وشبكات الإنتاج، وتقييم السياسات العامّة لدعم المنشآت وتمويل الشركات، وسياسات دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة. ونُشرت أعماله في مجلات دولية رائدة مثل المجلة الفصلية للاقتصاد، ومجلة الاقتصاد المالي، وعلوم الإدارة.

إنجازاته في الحكومة

أما سياسياً، فقد شغل بارو منصب الوزير المنتدب للشؤون الأوروبية بحكومة غبريال أتال بين فبراير (شباط) وسبتمبر (أيلول) 2024. وقبلها كان الوزير المنتدب للشؤون الرقمية في حكومة إليزابيث بورن من 2022 إلى 2024، وكانت له عدة إنجازات في هذا المجال أشادت بها وسائل الإعلام، إذ كتبت صحيفة «شالنج» الفرنسية، في موضوع تحت عنوان «الصعود الخارق لجان نويل بارو»، ما يلي: «في مجال الرقمنة، كانت حماية الطفولة في الشبكة العنكبوتية من أهم اهتمامات السيد بارو، حيث اقترح حجب المواقع الإباحية ومكافحة ظاهرة التنمّر الإلكتروني. كذلك بذل مجهوداً كبيراً للتنبيه إلى خطر التدخل الأجنبي بغرض التأثير، وبالأخص التدخل الروسي في مواقع التواصل إبّان الانتخابات الأوروبية الأخيرة».

وشرحت الصحيفة الفرنسية كيف أن الوزير كان في غاية الجرأة والشجاعة، واستطاع الوقوف في وجه عمالقة التواصل الاجتماعي حين هدّد بحظر منصّة «إكس (تويتر سابقاً)»، ما لم تحترم قواعد الاعتدال المعتمَدة في دول المجموعة الأوروبية. وعقب الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها فرنسا عام 2023 ضد غلاء المعيشة، أقدم بارو على إجراء استثنائي تمثَّل بحظر كل المحتويات التي تُحرّض على العنف في منصّتي «تيك توك» و«إكس».

المشاركة السياسية

على صعيد آخر، بدأت المشاركة الفعلية لجان نويل بارو في المجال السياسي عام 2015، حين انتُخب مستشاراً جهوياً (عضو المجلس المحلي) عن محافظة إيسنجو، وهو المنصب الذي شغله جدّه، ثم والده لسنوات قبل وفاته بسكتة قلبية عام 2014. وعلى الأثر، قرّر الانخراط في «الحركة الديمقراطية» إلى جانب إيمانويل ماكرون، وبالفعل انتُخب نائباً برلمانياً عن الدائرة الثانية في محافظة الإيفلين الباريسية (عاصمتها فرساي) من 2017 إلى 2022، حيث شغل فيها منصب نائب رئيس اللجنة المالية، وكان مسؤولاً عن تقديم تقارير الهجرة والميزانية واللجوء. وفي 4 يناير (كانون الثاني) 2021، كلّفه رئيس الوزراء السابق، جان كاستيكس، بمهمة لمدة 6 أشهر للعمل مع برونو لومير، وزير الاقتصاد والمالية حينذاك، لمساعدة المناطق على الخروج من الأزمة والتعافي الاقتصادي. وبعدها أعيد انتخاب بارو نائباً بنسبة 72.69 في المائة من الأصوات يوم 9 يوليو 2024، بعدما حلّ رئيس الجمهورية البرلمان، حيث ترأّس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، ابتداءً من 20 يوليو 2024، قبل أن يُعيَّن أخيراً وزيراً للشؤون الخارجية.

حديث العهد بالدبلوماسية

يتولى بارو منصبه «رئيساً» للدبلوماسية الفرنسية، اليوم، في مناخ سياسي دولي متوتر... من أخطر ملامحه الحرب الأوكرانية الروسية، وانفجار الأوضاع في الشرق الأوسط. واللافت أنه فور الإعلان عن تعيين الوزير الشاب، قدّمته الصحافة الفرنسية على أنه «حديث العهد بالدبلوماسية»، بل، على الرغم من أن نشاطه وزيراً للشؤون الأوروبية وخبرته في مجال إدارة الاعمال والاقتصاد شكّلا «نقاط قوة» كبيرة له في منصبه الجديد، فإن قلّة التجربة الدبلوماسية لفتت الانتباه، وفتحت باب النقاش في مصير الدبلوماسية الفرنسية التي تراجعت فاعليتها خلال السنوات الأخيرة، بعدما قادتها شخصيات لم تترك بصمات قوية.

وفي حوار مع يومية «لوباريزيان»، شرح برتران بادي، الأستاذ في معهد «سيانس بو»، أنه «ما كان غريباً اتجاه الرئيس ماكرون إلى تعيين شخصية لا تتمتع بتجربة سياسية، فهو يريد أن يفرض رأيه ويسيطر على زمام السياسة الداخلية والخارجية، كما فعل مع كاترين كولونا، وستيفان سيجورنيه، اللذين لم يتركا أي بصّمة على الدبلوماسية الفرنسية».

وفي مقال بعنوان «أوروبي في الخارجية»، نقلت «لوباريزيان» شهادة أورليان تاشي، نائب كتلة «فرنسا الأبيّة» (اليسار)، الذي صرَّح بأن «وزير الخارجية الجديد شخصية سياسية معتدلة، فهو مستعد للحوار مع أي طرف»، وهو - كما يقول نائب اليسار - من أحسن الخصوم السياسيين احتراماً للمعارضة، «لكنني أشكّ بأن يكون لديه هامش من الحرية، بحيث يَسلم من تدخُّل ماكرون وسيطرته...».

وفي مقال آخر بعنوان «جان نويل بارو: مبتدئ على رأس الخارجية»، شرحت صحيفة «اللوموند» بأن وزير الخارجية الجديد «يفتقر إلى الخبرة لكنه مجتهد، أثبت كفاءته فيما يخّص الملفات الأوروبية التي يعرفها عن ظهر قلب». وتابعت أنه «أولاً، قبل كل شيء أوروبي عن اقتناع، ويؤمن بجوهرية العلاقات الفرنسية الألمانية لبناء أوروبا قوية، إذ كانت آخِر مباحثاته في باريس مع وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك. ولقد لقي خبر تعيين جان نويل بارو ترحيباً في إيطاليا، حيث تربطه علاقات جيدة مع رافاييلي فيتو وزير الشؤون الأوروبية في حكومة جورجيا ميلوني، وسبق لهما التعاون في ملفات الهجرة بنجاح (الذي عُيّن منذ فترة نائباً لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين)».

وتابعت «اللوموند» بأنه سيتوجب على الوزير الجديد العمل على كثير من الملفات في وقت قياسي، وعليه أيضاً أن يفرض نفسه لأنه «خفيف الوزن في غابة العلاقات الدولية».

قضايا ساخنة... ومناخ دولي متوتر

وحقاً، تنتظر وزير الخارجية الجديد قضايا دولية ساخنة جداً، فالحرب في أوكرانيا مستمرة منذ أكثر من سنتين ونصف السنة، دون الوصول إلى حلّ. ثم هناك بين القضايا الدولية الحسّاسة الأخرى الحرب في السودان، والقضية النووية الإيرانية، وقبل كل شيء انفجار الأوضاع في الشرق الأوسط، مع استعار الحرب في قطاع غزة والعدوان الإسرائيلي على لبنان.

وهنا نشير إلى أنه فور تولي بارو مهام منصبه، باشر وزير الخارجية الفرنسي تنظيم زيارة للشرق الأوسط تهدف إلى بحث النزاع مع مختلف الأطراف، ومحاولة حلحلة الوضع المتأزم، معلناً: «لقد حان وقت الدبلوماسية». وبالفعل، ندّد بارو بموجة التفجيرات القاتلة التي وقعت في لبنان، خلال الفترة القصيرة الماضية، عبر أجهزة اللاسلكي، قائلاً، لإحدى وسائل الإعلام: «حتى وإن كنا نعترف بحق إسرائيل في ضمان أمنها، فهناك هجمات أصابت المدنيين بشكل عشوائي، وتسببت في إصابة الآلاف من الجرحى وقتل الأطفال». وفي المقابل، أدلى بتصريحات داعمة لإسرائيل، بعد اجتماع مع نظيره يسرائيل كاتس، قال فيها إن «حزب الله» اللبناني «يتحمل مسؤولية كبيرة على صعيد اتساع نطاق الحرب في لبنان، بعدما جرَّ لبنان إلى حربٍ لم يخترها». وأردف أن فرنسا «ملتزمة التزاماً لا يتزعزع بأمن إسرائيل...»، علماً بأن التصريحات الأخيرة للرئيس ماكرون جاءت متعارضة مع كلام وزير خارجيته حين قال إن «الأولوية، اليوم، هي العودة إلى حلّ سياسي، والكفّ عن تسليم الأسلحة لخوض المعارك في غزة». وذكر أن فرنسا «لا تُسلّم أسلحة»، ما أغضب الأطراف الإسرائيلية، وأكد التوقعات بأن ماكرون سيفسد مساعي بارو بتدخلاته وتصريحاته المتعارضة.