الدورة الـ19 من مهرجان الصويرة المغربي تكرم «أساطير» فن «كناوة»

بينما تناقش فعاليات «المنتدى» جذور وحركية «الدياسبورا» الأفريقية

مهرجان «كناوة» يحول الصويرة إلى ملتقى ضخم للموسيقى («الشرق الأوسط»)
مهرجان «كناوة» يحول الصويرة إلى ملتقى ضخم للموسيقى («الشرق الأوسط»)
TT

الدورة الـ19 من مهرجان الصويرة المغربي تكرم «أساطير» فن «كناوة»

مهرجان «كناوة» يحول الصويرة إلى ملتقى ضخم للموسيقى («الشرق الأوسط»)
مهرجان «كناوة» يحول الصويرة إلى ملتقى ضخم للموسيقى («الشرق الأوسط»)

تتواصل بمدينة الصويرة المغربية فعاليات الدورة الـ19 من «مهرجان كناوة وموسيقى العالم»، التي انطلقت عشية أول من أمس، في أجواء «صاخبة»، على إيقاع نغمات التي «الكنبري» و«القراقب»، تحولت، من خلالها، المدينة الصغيرة إلى ملتقى ضخم للموسيقى، حيث جاب الموكب الاستعراضي مختلف الأزقة قبل الوصول إلى ساحة مولاي الحسن، التي احتضنت منصتها حفل الافتتاح الذي خصص لتكريم فنانين راحلين، ساهموا في إشعاع المهرجان من خلال مشاركاتهم السابقة في فعالياته.
وفضلا عن إبراز مواهب شابة من الجيل الصاعد، برمج المنظمون تكريم عدد من رواد فن «كناوة»، وأبناء المدينة الموهوبين، على غرار الراحلين محمود غينيا والطيب الصديقي. كما سيتم تكريم الراحل دودو ندياي روز، «ساحر الطبل السنغالي»، والفنان الذي ما زال صدى طبله يتردد في سماء الصويرة، منذ أول مشاركة له في مهرجان الصويرة منذ خمس عشرة سنة خلت، حينما أقام أول حفل له بالمغرب.
ومع دورة هذه السنة من المهرجان، التي تتواصل على مدى أربعة أيام، تستمر «قصة مشروع ثقافي وتراثي رائد وفاعل في التحول، فتح السبيل أمام عدة مهرجانات، تدفعه في ذلك رياح إيجابية»، حسب نائلة التازي، منتجة المهرجان.
وعلى غرار الدورات السابقة، يعرف برنامج المهرجان تنظيم وصلات للمزج الموسيقي (فيزيون) وإقامات فنية علاوة على برمجة متميزة. لذلك، ترى نائلة التازي في التظاهرة «مختبرا حقيقيا للمزج بين مختلف الأجناس الموسيقية، كسمة وعلامة بارزة للمهرجان».
من جهتها، أكدت أشغال «منتدى حقوق الإنسان»، التي انطلقت يوم أمس، صواب فكرة تعزيز فعاليات المهرجان بـ«فضاء للنقاش بين متدخلين وطنيين ودوليين بخصوص القضايا الراهنة في مجتمعاتنا». وخصص المنظمون الدورة الخامسة من المنتدى، الذي أطلق في 2012. بشراكة مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان، للتنقلات والحركية الأفريقية، حول موضوع «الدياسبورا الأفريقية: الجذور، الحركية والإرساء»، ينتظر منها أن تشكل «فضاء للحوار والتفاعل وفرصة لمناقشة مساهمات تدفقات الشتات في أفريقيا، والتدبر في الطفرات الجديدة التي تنتج عنها».
ويرى إدريس اليازمي، رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أن «اختيار التطرق، بشكل مستمر ومنهجي لأفريقيا، مهرجانا تلو الآخر، فرض ذاته تلقائيا، بسبب طبيعة المهرجان ذاته (موسيقى كناوة)، الرحم التاريخي لهذه الموسيقى ولمدينة الصويرة، كمنفذ، طوال قرون، للقوافل العابرة للصحراء».
وكان المنتدى، بعد تخصيصه لدورتي 2012 و2013. للشباب والثقافة، قد جعل من أفريقيا تيمة مركزية لأشغاله. وركز نقاش دورة هذه السنة على أن القارة الأفريقية، باعتبارها ذات تقليد قديم وقوي فيما يخص الهجرة، تواجه اليوم ديناميات حركية جديدة تعيد تشكيل أنماطها القديمة في الهجرة، إذ في الوقت الذي تتواصل فيه أنماط الهجرة من الجنوب نحو الشمال، تظهر أنواع جديدة من التنقلات. وبفعل تميزها بتعدد القوميات وتنقلات دائرية، فإنها تسمح بظهور نوع من «الكونية» تنبني أساسًا على أساس التدفق، والاعتراف بالآخر، لكن دون أن تكون خالية من التوترات، مع أشكال الرفض التي يواجهها أحيانا المهاجرون.
وتبرز استمرارية استقرار جاليات خارج التراب الأفريقي، والهجرة الدائمة والمتواصلة داخل أفريقيا وخارجها، وظهور أجيال جديدة ذات جنسيات مزدوجة، وتنوع مجالات الاستقرار، واستقلالية جاليات الشتات وتجديد طبيعة الروابط العائلية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية مع أفريقيا، ملامح نموذج جديد قيد التشكل، حيث يستقر المهاجرون في بلد أول، ثم يغادرونه في اتجاه بلد آخر، والبعض يختارون العودة بشكل مؤقت أو دائم إلى بلدهم الأصلي، بينما آخرون يتنقلون بين بلدين، حيث يمضون فترات طويلة نوعا ما في هذا البلد أو ذاك، دون أن يستقروا في أي منهما. وأخيرا هناك مهاجرون اختاروا التنقل كنمط للعيش، وذلك عن طريق التنقل شبه الدائم، والربط بين أمكنة مختلفة، وعبور الحدود الوطنية بشكل جد منتظم. ومن شأن التنوع الذي يميز الشتات الأفريقي، خصوصا فيما يتعلق بالكفاءات المعترف بها عالميا في مجالات مختلفة: علمية، وثقافية وفنية، وغيرها، أن يكون ميزة تساهم في التطور الأفريقي.
ويعول المنظمون على أن يشكل المنتدى فرصة لبحث «الإسهامات التي يقدمها الشتات لأفريقيا والتفكير في الواقع الجديد لهذه التنقلات والحركيات التي يقوم بها الشتات». لذلك، تتوزع النقاش أربعة محاور، على جلستين رئيسيتين، إذ فيما تناولت الجلسة الأولى موضوع «الكونية الأفريقية»، والثانية «الدياسبورا ومجتمع المعارف الشاملة»، تتناول الثالثة، في ثاني أيام المنتدى: «نساء أفريقيات: إسهامات وتحولات»، و«تنقلات فنية وثقافية»، فضلا عن مائدة مستديرة، في موضوع «الشتات وسوق المعارف الشمولية». ويعرف المنتدى مشاركة عدد من الباحثين والمختصين والمهتمين بالشأن الأفريقي، من المغرب وفرنسا والسنغال والجزائر وبلجيكا والكاميرون والولايات المتحدة وتونس.
وقالت نائلة التازي، عن الأبعاد التي تهدف إليها فعاليات مهرجان الصويرة من جمع دفء انفتاح موسيقى «كناوة» على العالم إلى فضيلة الحوار في المنتدى: «إننا لطالما دافعنا عن العمق الأفريقي للمغرب من خلال هذه الثقافة، إذ لم يكن يُنظر إلى هذه المبادرة بجدية قبل عشرين سنة»، مضيفة أن «ثالوث كناوة-الصويرة-أفريقيا لم يكن يحقق الصدى أو التناغم المرجو، أما اليوم، فكل المؤشرات تبرهن أن لهذا الاختيار مغزى، وأنه الدافع الذي دفعنا بمعية المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى تكريس منتدى المهرجان إلى أفريقيا للسنة الثالثة على التوالي». وتبقى موسيقى «كناوة» من أبرز عناوين الانتماء الأفريقي للمغرب، لذلك تحضر في أكثر من منطقة بالبلد، غير أن «مهرجان كناوة وموسيقى العالم»، الذي تحتضنه مدينة الصويرة، منذ 1998، جعل هذه الموسيقى ترتبط أكثر، على مستوى الاحتفاء بها وتسويقها عالميا، بـ«مدينة الرياح» (لقب تعرف به مدينة الصويرة): المدينة، التي يرى أندري أزولاي، مستشار العاهل المغربي، الملك محمد السادس، والرئيس المؤسس لـ«جمعية الصويرة موغادور»، أنها، اليوم: «عنوانٌ للمغرب المنفتح الذي يتقدم من دون عُـقد. المغرب المتجذر في هويته وقيمه، مع وفاء كبير للذاكرة»: الصويرة، هذه المدينة الأطلسية والأفريقية، حيث «تتجاور الأجناس وتتشابك اللغات وتتداخل الألحان في تضامٍّ فريد، عرب وأمازيغ وأجانب من كُلِّ جنس، يهود ومسلمون ونصارى. بيضٌ وسود»، يكتب الشاعر المغربي محمد الصالحي.
ويوصف مهرجان «كناوة» بأنه «مهرجان في قلب أفريقيا بقلب أفريقي»، برهنت من خلاله مدينة الصويرة على أن الثقافة، في المدن الصغيرة، قادرة على أن تكون رافعة للسياسات الحضرية بفعل العمل العمومي، وبإمكانها أن تساهم بفعالية في الدينامية الجهوية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)