النزعة الإنسانية ومفهوم النقد في دائرة الأخلاق والسياسة

أسست للحظة نقدية الكبرى دشنت {انقلابًا كوبرنيكيًا} في القرن الثامن عشر

النزعة الإنسانية ومفهوم النقد في دائرة الأخلاق والسياسة
TT

النزعة الإنسانية ومفهوم النقد في دائرة الأخلاق والسياسة

النزعة الإنسانية ومفهوم النقد في دائرة الأخلاق والسياسة

صدر عن دار أفريقيا الشرق، أخيرًا، كتاب «النزعة الإنسانية وإرث الأنوار»، للمفكر المغربي وأستاذ الفلسفة والحداثة السياسية في جامعة عبد المالك السعدي، مصطفى حنفي. في هذا الكتاب، حفر جينيالوجي، تتبع فيه الباحث مفهوم النزعة الإنسانية، ومفهوم النقد، اللذين تأسست عليهما الأنوار. كما يرمي الكتاب في بعده الاستراتيجي، إلى مسألة الأنوار وعصر النهضة الممهد له، ليبني موقفا من التنوير، وذلك استنادًا إلى أقوى آلياته، وهي النقد في عالم معاصر ما أحوجنا فيه إلى التنوير. من الناحية المنهجية، قسم مصطفى حنفي الكتاب، إلى مجموعة من الأقسام والفصول، جاءت معنونة على الشكل التالي:
1 - في الحاجة إلى النقد في الحاجة إلى التنوير:
يحدد مصطفى حنفي في بداية هذا الكتاب، مساراته ويقول: «تتجه الفصول الكبرى التي يتخذها الحضور الفلسفي للنزعة الإنسانية، في دائرة الأخلاق والسياسة. وهي تنطلق من تحديد أولي لطبيعة هذا الحضور وحقل تأملاته، باعتباره حاجة مطلوبة في تاريخ محاصر، وفي أزمنة تعاني دوغمائية الأفكار القطعية، المتجاهلة لقيم هذه النزعة في بناء نموذج الحقيقة». فالأنوار التي أسست للعصر الحديث وجعلت إسهامها فيه جزءا من التاريخ الكوني للبشرية، بلغتها وإشكالياتها ومفاهيمها الكبرى، هي ما أسس للحظة النقدية الكبرى التي دشنت انقلابا كوبرنيكيا في القرن الثامن عشر، تجسد بشكل أوثق مع إمانويل كانط. ويضيف الدكتور مصطفى حنفي، إن العقلانية «التنويرية مع جماعة الموسوعيين الفرنسيين وكتاب نظريات العقد الاجتماعي والنزعة النقدية الكانطية، جعلت من النقد الكاشف عنوانا لعصر بأكمله. وتجلت بالتالي، المهمة المطروحة على هذا العصر، في تخليص الإنسان من أشكال الوصاية كافة، والتبعية التي تكاتف التقليد الفكري والديني والسياسي بفرضه على العقل البشري ردحا من الزمن، سواء تلك التي فرضتها عليه المؤسسة الدينية، أو تلك التي عملت على تكريسها السلطة البشرية. وبالفعل فلقد كان هذا العصر، عصر التنوير، هو «قرن النقد بأتم معنى الكلمة، النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء بعبارة كانط نفسه».
لم تكن فلسفة الأنوار، من حيث مقاربة حنفي، رهانا ثقافيا وفلسفيا براغماتيا بالمعنى الاقتصادي للكلمة. بل كانت رهانا كونيا على بناء فلسفة تستطيع تأطير إشكالات الوجود البشري في بعدها الكوني، وتأسيسها على دعائم «عقلانية جديدة، يحضر فيها مبدأ الحق وتحضر بجوارها وبوحي منها قيم وأخلاقيات العقل العملي من وجه آخر». وهو ما يفرض بالضرورة، فلسفة تشريع للجنس البشري، وتحديد قواعد الانتماء إلى هذا الجنس، والتي تفرض «الفصل بين الروحي والزمني، بين الثيولوجي والسياسي. وهو ما حول نسيج الكتابة الفلسفية في معناها الواسع في النص الأنواري، إلى «بيان نقدي»، إن صح التعبير، في وجه تاريخ محاصر تغذيه الأوهام ونير التعصب واللاتسامح».
يريد حنفي من خلال هذه البداية، المعنونة بشعار «في الحاجة إلى النقد في الحاجة إلى الأنوار»، أن يطرح في الفكر الفلسفي في العالم العربي، تصورا سياسيا / فلسفيا - ولو عن طريق التلميح والرمز - يستند إلى فلسفة الأنوار وإرث الأنوار، الذي تأسس على رؤية نقدية للتراث الثقافي والأدبي والسياسي واللاهوتي، الذي ساد منذ أرسطو. وفي طرح الحنفي لهذا التصور، نجده يوجه رسالة ضمنية، لصانعي القرار السياسي والمنشغلين بالفكر السياسي، وكذلك الفاعلين في الميدان، أو مناضلين باللغة الحقوقية في العالم العربي، يقول فيها: إنه لا تنمية ولا تقدم من دون الاستناد إلى مشروع تنويري مبني على النقد وطرح السؤال / سؤال الراهن السياسي في بعده الكوني / العملي.
2 - في معاني النزعة الإنسانية:
ووفقا لمصطفى حنفي، فمفهوم «النزعة الإنسانية Humanisme، هو من بين المصطلحات الأكثر تعقيدا والتباسا في الثقافة الغربية الحديثة. فهو يغطي من باحث إلى آخر ومن فلسفة إلى أخرى، إجراءات وموضوعات ترتبط بنوع من القرابة في المعنى، باصطلاحات تميل إلى حدوده. مثل الإنسانية والإنسانوية». وحسب معجم لالاند، فمادة الإنسانية تشير إلى أربعة مستويات من الدلالة عرضها حنفي كما يلي:
أ‌ - معنى تاريخي: دال على الحركة الفكرية المتمثلة في إنساني النهضة بتراك، إرازم، غيوم، بودي. وقد اتصفت هذه الحركة، بجهودها القوية لرفع قيمة الفكر الإنساني، ولوضعه في المقام المناسب. فربطت بين الثقافة الحديثة والثقافة القديمة، خلال العصور الوسطى والعصور المدرسية التابعة لها. ويستشهد لالاند على هذا المعنى، بتعريف لأحد المؤرخين، «لا تعني النزعة الإنسانية مجرد تذوق للعصر فحسب، بل تعني أيضا عبادة وتقديسا لا يقف عند حدود الافتتان بذلك الموروث القديم، وإنما إلى إعادة إنتاجه. والإنساني هو ذلك الشخص الذي لا يكتفي بالاطلاع على المعارف القديمة واستيحائها. بل هو الذي تسحره شهرتها، فيقوم بنسخها ومحاكاتها، فيتبنى نماذجها وأنماطها، أفكارها ولغتها».
ب‌ - معنى براغماتي: وهو الذي أطلقه ف.ج. شيلر من أكسفورد، على المذهب الإنساني الذي عرض له في مؤلفاته الإنسانية خاصة، والفلسفية عامة، الصادرة في لندن 1903 - 1907. وقد قدم لها بحكمة برثاغوراس، القائلة «إن قضية ما تعتبر صحيحة أو خاطئة تبعا لنتائجها، التي تتضمن قيمة عملية أو تكون مجردة منها. فالحقيقة أو الخطأ، يرتبطان بما ترمي إليه. فإذا كانت الحياة العقلية تفترض غايتها، فإن تلك الغايات لا يمكنها أن تكون إلا على النحو الذي تكون عليه. وبالتالي ينتج عن هذا، أن كل معرفة هي على وجه التحديد، مرتبطة بالطبيعة الإنسانية وبحاجاتها الأساسية». ثم يضيف شلر، أنه لا يمكن استعمال مصطلح النزعة الإنسانية على وجه مفيد، إلا بمراعاة شعور الموجودات البشرية بالمشكلة الفلسفية، وسعيهم لفهم عالم التجربة الإنسانية اعتمادا على ملكات الفكر الإنساني».
والنزعة الإنسانية حسب شيلر، ليست براغماتية في معناها الضيق، وإنما هي تكثيف لدلالات تاريخية / جمالية / فلسفية / أدبية، ترفض الميتافزيقا، وتعري اختلافها عبر العصور، وكيف تم تبريرها وفق الحاجات الفردية، أو تبعا لمصالح جماعية. والنزعة الإنسانية في عمقها الفلسفي، كما يوضح الدكتور حنفي، استنادا إلى لالاند، هي تمسك الإنسان بفضيلة الانتماء إلى كل ما تقوم به ماهيته. ويضيف: «يشير معنى الإنسانية إلى تصور عام للحياة (السياسية والاقتصادية والأخلاقية)، والمبدأ الذي يؤسسها، هو الاعتقاد في خلاص الإنسان بواسطة القوى الإنسانية. ويتعارض هذا الاعتقاد بكيفية صارمة مع المسيحية. إذ كان يدل على أن خلاص الإنسان إنما يتوقف فقط على حقوق الله وقوة الإيمان». أما المعنى اللاهوتي، فـ«يؤكد على أهمية طبيعة الإنسان المركبة من الغايات الإنسانية (الفن / العلوم / الأخلاق والدين)، والغايات الطبيعية الماثلة في صميم طبيعته، أي طرفي التعارض في الإنسان، بين الإرادة العليا والإرادة الدنيا». ويستدرجنا الحنفي من خلال استحضاره لتعدد الدلالات والمعاني التي طبعت مفهوم «الإنسانية» في لحظته التاريخية، أي القرن الخامس عشر والسادس عشر، وصولا إلى الأنوار، ليكشف عن الخلفية الآيديولوجية التي أصبح يوظف بها المفهوم، وكذلك القيم الحامل لها في عصرنا الحالي، تحت تبرير حقوق الإنسان، حيث يقول: «فإذا نحن أضفنا إلى هذا - أي تعدد الدلالات والمعاني - عنف الواقع الذي عاناه الإنسان المعاصر، خلال حربين عالميتين، وما أعقبهما من اضطرابات ونزاعات من أجل السيطرة وبسط الأطماع، واستعباد الشعوب المطالبة بحريتها واستقلالها، أدركنا العوامل التي جعلت فكرة الإنسانية تتحول، في الأدبيات السياسية المعاصرة، إلى شعار دفاعي يغطي تناقضات الواقع وينشر فوقه وجدانية فضفاضة، يحركها روح الإخاء، لتشمل التعبير عن إنسانية تعلو عن الفوارق والاختلافات». وحسب حنفي، فذلك هو ما يجسده (تضخم الشعارات) الإنسانية التي رفعها أنصار (الإنسانية) من أجل بلورة الفلسفة الإنسانية التي تضمنتها المواثيق الدولية والوطنية، بصدد ما يطلق عليه في لغة الحقوقيين (حقوق الإنسان)، أي حقوق جميع البشر في كل زمان ومكان».
3 - إنسانية النهضة:
لم يكن من الممكن للنهضة أن تؤثر في التاريخ البشري والفكري، من دون صياغتها لمفاهيم جديدة قادرة، بقوتها الإجرائية، على التأثير في الواقع والعمل على تغييره. بل إن طبيعة المفاهيم التي جاءت بها النهضة، كانت قادرة على الاستجابة لطموحات القوى الصاعدة التي ملت السكون الذي فرضته الكنيسة على المجتمع، والطامحة إلى وجود تصور جديد يمنح للواقع تصورا أكثر ديناميكية. وهو ما جعل حنفي في هذا الكتاب، يرى إنسانية النهضة ونزعتها الإنسانية، ليست إلا إعطاء القيمة للحركة la valeur du mouvement، ومفهوم التقدم كمحرك للتاريخ. وقد انصب مفهوم التقدم عند إنسانيي النهضة، على فرض غاية ينحو إليها التاريخ تمجد من الإنسان، وترسم له أمثل صوره، وكذلك القيم التي يمكن أن يكون عليها وفي هذا الصدد حسب حنفي، ركز خطاب النهضة في استراتيجيته على:
- الكتاب المقدس في نصه الأصلي
- العالم القديم (الإغريقي - الروماني)
من هنا يتبين كيف أن عملية التقدم كانت تقتضي لحظة وعي تاريخي بأهمية التراث وضرورة بعثه. لا للإقامة فيه، بل من أجل غربلته والوقوف على عناصر التقدم في داخله، وعناصر الجمود والارتكاس من أجل لفضها وتعرية آيديولوجيتها. وهو ما قام رواد النزعة الإنسانية مسلحين بنظرة جمالية / فنية / أدبية / موسيقية / علمية... جديدة للواقع والعالم والذات، مؤسسينها على دينامية الحركة، حركية الواقع والفكر في شكل متأن، وهو ما شكل نسفا جذريا للنص اللاهوتي في صيغته البابوية، التي كانت توظفه من أجل الحفاظ على تصور للكون، والواقع يضمن استمرارية مصالحها ورهاناتها، ولعل صرخة «جوردانو برونو» تعبر بشكل دقيق على هذه الدينامية الجديدة حين يقول كما أورده حنفي في هذا الكتاب الذي نقوم بقراءته «إن العالم هو كل لا متناه ليست له أطراف أو حدود، أو سطوح وأقول إن الكون لا يعني بكيفية جامعة أنه لا متناه، ما دام كل جزء من أجزائه متناهيا، ومادامت العوالم الكثيرة التي يشملها بدورها متناهية، ثم أقول إن الله هو بكيفية جامعة لا متناه، لأنه حاضر في العالم وفي كل جزء من أجزائه». وهنا يبدو واضحا تأثير الثورة الكوبرنيكية، فلم يعد هناك عالم الكون والفساد التي تصوره أرسطو ودافعت عنه الكنسية، بل أصبح الله جزءا من هذا العالم. ليس مطابقا لتركيبه، ولكن محايثا من حيث المكان والزمان وملازما له. إذ تقضي الحكمة الإلهية أن لا يظل الله خارج العالم يتفرج. وهذا ما عبر عنه برونو. وبعبارة أخرى، يقول حنفي: يمكن «أن ننظر إلى مساهمات الإنسانيين على أنها رسمت قارة الإنسانية بلغة تقريظية ملتهبة، تسعى إلى إبراز أشكال التداخل بين الطبيعة والإنسان، فاتحة بذلك تيار العقلانية في حركة النهضة بكل أبعادها المعرفية والسياسية والتربوية. إن هذا يعني أن فكرة إعادة الاعتبار إلى الإنسان، عبر التراث القديم ونقد التصورات والأشكال العتيقة للنظم الفكرية واللاهوتية السائدة، والميل نحو إعادة توجيه التفكير النقدي إلى الحاضر» الذي أعاد مركز السلطة إلى تجربة الفرد وعقله، كل هذه إذن عناصر رئيسية في الإطار المرجعي الذي استندت إليه إنسانية النهضة علوما وفلسفة وأدبا وفنا، في صراعها مع وثوقية الأفكار الدينية واللاهوت الكنسي.
4 - إنسانية الأنوار: رهانات الأخلاق والسياسة
تتجلى راهنية الأنوار، حسب حنفي، من خلال تأسيسها النظري للكثير من الأفكار السياسية التي تشكل جوهر الصراع السياسي المعاصر ويمثل لذلك بالكثير من الخطابات التي ترفع اليوم في الإعلام والمنظمات الحقوقية وينادي بها الزعماء السياسيون بأمثلة من الكتابات المؤسسة للأنواريين. فمثلا خطاب التسامح يمكن العودة به إلى فولتير، الذي أكد على الابتعاد عن الاختلافات العقدية، لضيق أفقها وعدم تسامحها. بل سعى حنفي، إلى أن يوضح قيمة هذا التراث الأنواري، من خلال عودة مجموعة من الفلاسفة المعاصرين إليه، كجون راولز مثلا في تصوره للعدالة وفي تأسيسه إلى قيمها.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.