الداعية الإسلامي التركي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «قلة الإيمان قد تسود... ولكن الظلم لا يدوم»

في الجزء الثاني من المقابلة التي أجرتها «الشرق الأوسط» مع الداعية الإسلامي التركي محمد فتح الله غولن يتطرق إلى مواضيع الانتفاضات العربية والتوترات الطائفية بين السنة والشيعة في المنطقة والتطرف والإسلام المتشدد.
فاجأت الانتفاضات العربية التي دخلت عامها الرابع كثيرين رغم أنها كانت متوقعة منذ زمن طويل. وما زال من الصعب، أو قل من المبكر، محاولة الوصول إلى استنتاجات بشأن التطورات التي حملت الأمل واليأس معا إلى منطقة عاشت وتعيش في «حالة تأزم» طيلة عقود. وبالنسبة للأكثر قلقا وتوجسا، فإن الثورات ما زالت عرضة لاستيلاء القوى الإسلامية المحافظة عليها.
ومع أن ثمّة مبرّرات للتفاؤل، كما هي الحال مثلا في تونس، حيث انطلقت شرارة الثورات، فإن الحرب التي انزلقت إليها سوريا غدت مأساة إنسانية فظيعة جدا. ثم إن امتداد ألسنة لهب الصراع الدّامي المتصل بها إلى لبنان والعراق، وموجات المهاجرين، وتورّط عدة لاعبين إقليميين في الصراع تهدّد اليوم بجرّ المنطقة بأسرها إلى الفوضى. لقد حوّل إصرار الرئيس السوري بشار الأسد على التشبث بالسلطة سوريا إلى مسرح رئيس للتوترات الطائفية بين السنة والشيعة، وإلى فرصة ذهبية يستغلها الجهاديون والتواقون إلى الجهاد من مختلف أنحاء العالم. ومع ازدياد التطرف، باتت التعدّدية على مستوى المنطقة في خطر وازداد قلق الأقليات والنساء إزاء المستقبل بصورة غير مسبوقة.
الداعية الإسلامي التركي محمد فتح الله غولن، الذي أمضى معظم حياته مفكّرا ومعلما وكاتبا عن دور الإسلام في العالم الحديث، شاركنا أفكاره في كل هذه الأمور خلال لقائه مع «الشرق الأوسط»:

* هل فاجأتكم الانتفاضات التي حدثت في العالم العربي؟
- إلى حدّ ما.. وحسب معرفتي فإن كثيرين من الخبراء المتخصصّين في شؤون المنطقة ممن يكتبون في السياسة والاستراتيجية الدولية ما توقّعوا اضطرابات من هذا القبيل على نطاق واسع. شعوب المنطقة يسعون لحقوقهم الديمقراطية وحكم القانون، وبالتالي بخلاف اللجوء إلى العنف، أعتقد أنه يجب اعتبار ما يحدث ثورات. إن الوضع الراهن في هذه البلدان والمعاناة المستمرة للناس والمظالم التي يتعرّضون لها لواقع يدمِي القلب، ولا يبدو على المدى القريب حل لهذه المعضلات، ولكن كما يقال في الأمثال «قد تسود قلة الإيمان، ولكن الظلم لا يدوم»؛ وللأسف، أقصى ما يمكننا فعله الآن كأفراد حيال ذلك هو الدعاء.
عندما اندلعت الأحداث في بادئ الأمر، تساءلت غريزيا «ترى هل ما يحدث ربيع عربي أم خريف عربي؟»، هذا للأسف هو الواقع الإنساني عندنا. التدمير سهل، أما البناء فصَعْب؛ لأن الطاقة التي تحتاجها لبناء نظامٍ جديد يتوافق عليه المجتمع كله، هي عشرة أضعاف الطاقة التي تحتاجها للإطاحة بنظام قائم. للأسف لم نصل بعد إلى هذا المستوى من النضج الاجتماعي. ثم إن التاريخ علّمنا أن الخفقات الاجتماعية قد تنحو نحو التطرف وتغير مسارها في اتجاهات مفاجئة غير محسوبة. لذا أقول: إن العبرة في الديناميكيات الداخلية التي تدفع وتحرّك تلك الخفقات التغييرية. ما الذي يحرّك أو يقود تلك الخفقات؟! وما الذي يسري في الشّعَيرات الدموية؟ ينبغي النظر إلى ذلك.. وما لم يوضع في الحسبان فإن الخفقات قد تنفلت وتنساق في أي اتجاه. إن الاعتماد على الحماسة الجماهيرية والحراك الجماهيري فحسب، لن يولّد نتيجة سليمة ودقيقة. في تلك الفترة كنتُ أقول دائما علينا أن ننظر إلى «التنامي الحاصل» وإلا فإن الضرر الناتج قد يخيّب آمالنا وتوقعاتنا. عندما كنتُ أنظر إلى ما يحدث مراقبا من الخارج، لم أتوقّع قط أن تفضي هذه الأحداث إلى تغييرات كبيرة خلال فترة قصيرة. كنا نشاهد خفقات وتقلبات كبيرة، وتحولات ضخمة في الشارع العربي، ولكن بدا بديهيا أنها ستكون عديمة الجدوى على المدى القصير. الماضي مليء بالمعاناة والاضطرابات التي ألمت بالمجتمعات العربية، لكنني واثق من أنها ستجرب بصبر وأناة عملية تقييم هادئة سيكون لها نتائج بعيدة المدى، ولكن لا يجوز تقويض هذا المسار بتدخلات لا ديمقراطية سواء من الداخل أو الخارج.
إن حراك البحث عن الحرية بكل ألوانه سيبقى في الذاكرة كأعظم إنجازات هذا العصر. إلا أن التاريخ أثبت لنا أن التغييرات الراديكالية أو محاولات التغيير الراديكالي دائما ما تؤدي إلى أضرار ودمار أكبر من المتوقع، وأن عودة الاستقرار والهدوء إلى المجتمع في أعقابها تستغرق زمنا طويلا. وكما يقول العالم السنّي بديع الزمان سعيد النورسي، علينا مواجهة الأعداء الثلاثة الكبار للأمة: الجهل والفقر والفرقة، وذلك من خلال مشاريع متوسطة الأمد وطويلة الأمد تدعم التعليم والعلوم والفنون والتجارة والديمقراطية والتسامح والحوار. أي سعي إلى الديمقراطية سيفشل ما لم يكن مبنيا على أسس راسخة. وحركة «الخدمة» كانت وما زالت منذ عقود تسعى إلى تحقيق ذلك من خلال تأسيس المدارس والجامعات وإنشاء جمعيات واتحادات رجال الأعمال وفتح المؤسسات الإغاثية وتفعيل دور مراكز الحوار ووسائل الإعلام في استخدام لغة بنّاءة تُسهم في دعم التواصل والتحاور وتحقيق العيش المشترك. كذلك نأمل أن تعمل هذه المشاريع، التي تدعمها شرائح واسعة من المجتمع، على مساعدة الجميع لتأسيس مجتمعات أكثر رفاهية وأوفر سلاما واستقرارا. وإننا في سبيل تحقيق هذه الغاية، نضرع إلى الله بالدعاء قولا وفعلا عبر هذه المشاريع. ولن يتوجب على المجتمعات العربية والإسلامية انتظار تأسيس أنظمة حكم ديمقراطية متكاملة قبل التركيز على مشاريع كهذه في بلدانها.
* ما هو تقييمكم للنزاع الدائر في سوريا؟ وهل هناك ما يمكن فعله لوقف هذه المأساة؟
- للأسف، سوريا كلها تجد نفسها في طريق مسدود. وأظهرت التطوّرات أن الشهيد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي كان محقّا في تقييمه للوضع، إذ كان يمثل نموذج الاعتدال السنّي والذي يمكن تلخيصه في مبدأ «أن أسوأ حكومة أفضل من الفوضى واللاحكومة» وأن هناك خطر الانزلاق نحو حرب أهلية لدى محاولة إسقاط حكومة فاسدة عندما تكون الظروف غير مواتية وعند انعدام التوازن في القوى. وعلى ما يبدو، كان البوطي يعلم بوجود حالة من انعدام التكافؤ بين الجانبين، وأن الجيش كان كلّيا تحت سيطرة النخب الحاكمة على مدى السنوات الأربعين الماضية، وأنه لن يقف مع الغالبية. لقد نبّه البوطي رحمه الله في ضوء كل هذه الأمور إلى المخاطر الجدية المستقبلية.
لو لم تندلع هذه الأزمة لكان بإمكان سوريا أن تتطوّر ببطء وسلام نحو دولة أكثر رفاهية وديمقراطية على المديين المتوسط والبعيد، وذلك بمساعدة علاقاتها الجادة مع تركيا على الصعيد التجاري والسياسي والاجتماعي. ربما كان الجزء الأكثر مأساوية في الأزمة هو زوال هذا الاحتمال. في هذه المرحلة ما ينبغي القيام به في المدى القريب هو إيجاد حلول سياسية عاجلة لإيقاف نزيف الدم الأمر الذي سيكون بمثابة إغاثة ولو جزئية لملايين الأبرياء الذين يتضرّرون مما يحدث. ومن ثم، على المجتمع الدولي بذل جهود دبلوماسية مكثفة لتحقيق هذا الغرض.
* ما تعليقكم على التوترات السنية الشيعية الحاصلة في الشرق الأوسط؟
- لا يجوز التمييز بين الناس على أنهم سنة أو شيعة، بل يجب أن يُعامل الأفراد بناء على كونهم بشرا بالدرجة الأولى، أيا كانت دياناتهم أو معتقداتهم أو مذاهبهم. الإنسان - بما أنه إنسان – لديه حقوق أساسية، وبما أنه مواطن يمتلك حقوقا ديمقراطية. كذلك هناك بون شاسع بين الدين أو المذهب والآيديولوجيات السياسية الحديثة.
لا ينبغي أن يكون هناك إشكالية عند السنة إزاء الجماعات الشيعية التي تكن حبّا خاصّا لآل البيت. بل مبادئ ديننا لا تسمح لأي دولة بممارسة القمع والإساءة على أساس الفوارق الطائفية في محاولة للظهور كقوة إقليمية. ولقد بذلت عبر التاريخ جهود للتقريب بين المذاهب لعب فيها زعماء الشيعة، غالبا، دور المحرك. ولكن للأسف، كان قادة الشيعة يميلون إلى توظيف هذه الجهود لأغراض توسّعية خاصة بهم؛ حتى إن فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي الذي كان متعاطفا مع الفكرة في البداية اشتكى من مواقف علماء الشيعة خلال السنوات القليلة الماضية وعاتبهم على ذلك.
والواقع، أنه ولو بدت المشكلة في الظاهر على شكل توتر سني - شيعي، فحقيقة الأمر أنها مرتبطة بأهداف سياسية، مثل الهيمنة على المنطقة وتوسيع دائرة النفوذ والتحوّل إلى قوة إقليمية. اليوم تُستَخدم الانتماءات الدينية والمذهبية والطائفية كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف؛ إذ يقوم بعض الساسة بتحويل الدين إلى آيديولوجية سياسية وتضييق مساحته لتوافق ذهنياتهم السياسية القمعية المحدودة. هذا بالإضافة إلى وجود محاولات حثيثة لتحويل الهوية السنية أو الهوية الشيعية إلى منطلقات تفضي إلى آيديولوجيات. لا أحد يستطيع أن ينكر أن إيران اليوم تسعى إلى تحقيق غايات قومية فارسية تحت ستار التشيّع. بالطبع، يحق لأي دولة أن تعزز مصالحها الوطنية وتحاول حمايتها عبر وسائل مشروعة في الساحة الدولية، لكن لا يصح أن تكون الوسيلة إثارة التوتّرات الدينية والطائفية والعرقية. على جميع المنظمات الدولية أن تكافح هذا الخطأ.
من ناحية ثانية، إذا كانت هناك قضايا نراها خطأ، وفق معتقدنا، بمقدورنا أن نشرح هذا للناس بطريقة حضارية، من منطلق أن لا إكراه في الدين. ولكن، للأسف، أقدم بعض الأفراد والجماعات على تقديم تفاسير مضللة عن المدرسة السنّية، وذلك عبر الترويج للعنف والإرهاب باسم أهل السنة والجماعة. مثل هذه الجماعات تلعب دورا مدمّرا وتتسبب بأكبر الضرر للإسلام نفسه. إن العالم الإسلامي بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الوئام والوفاق والتسوية السلمية للقضايا السياسية. هذا أمر ضروري بالنسبة للأمة من أجل أن تتخلص من مثل هذه المواقف والأحداث المدمرة.
* لماذا، في رأيك، نجد كثيرين من شباب السنة العرب أكثر عرضة لتبني التفاسير المتطرفة للإسلام؟
- في كل دين تجد جماعات تنحرف عن الخط العام وتتبنى تفاسير راديكالية. ولعله من الصعب القول: إن أتباع مذهب معين، سواء كانوا من السنة أو الشيعة، أكثر عرضة لمثل هذه الانحرافات. أعتقد أن هذه المشكلة نابعة إلى حد كبير من تقصيرنا في فهم مضمون الدين الحقيقي وهويته وتبنيهما. إن التعامل مع الدين على أنه آيديولوجية سياسية لهو أكبر خيانة تمارس بحق الدين، لأنه في هذه الحالة، يختزل الإسلام في مجموعة من المبادئ البسيطة ويضيق مساحته الرحبة. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن هذا أثر من آثار الاستعمار الذي امتدّ على مدى عقود في المنطقة. وحقا، فإن الميل إلى اختزال الدين بآيديولوجية سياسية واللجوء إلى العنف تجد أكثر انتشارا في البلدان التي عانت من الاستعمار في ماضيها. وما يثير الفزع هو أن عنف هذه الجماعات المتطرّفة يحظى بتغطية إعلامية واسعة تحجب أصوات الغالبية العظمى من المسلمين التي ترفض ممارسة هذا العنف مطلقا. وأحيانا تتعمد بعض الأطراف إبراز هذه الجماعات المتطرفة ودفعها إلى الواجهة بنيات أو غايات سيئة ترمي إلى تشويه صورة الإسلام الناصعة.
الإسلام دين منفتح على الاجتهاد وصالح لكل زمان ومكان. وهذه الميزة تحفظ الإسلام من محاولات ربطه بجغرافية أو عقلية معيّنة، بشرط أن لا تتعارض التفاسير والتأويلات مع جوهره وأصوله الثابتة. وفي هذا الإطار، عبر فترات مختلفة من التاريخ سوّقت نماذج أبوية وقومية ودولية للإسلام وروجت على أنها الإسلام الصحيح. وإذا كان التفسير الراديكالي للإسلام يعني العنف، فإن ظاهرة وجود مسلمين من السنة والشيعة يستخدمون العنف والإكراه وسيلة لتبليغ الإسلام ليست بجديدة. لقد وجد من نحا هذا النحو بين المسلمين طوال التاريخ، ولئن برز بعض هؤلاء في عالم السنة خلال الفترة الأخيرة فإن هذا لا يغيّر هذه الحقيقة التاريخية. أضف إلى ذلك أن الإعلام يميل إلى التركيز على مثل هؤلاء الناس والجماعات مقابل تهميش 99.5 في المائة من المسلمين الذين يرفضون هذه الجماعات المتطرّفة، الأمر الذي يشوه الصورة العامة للإسلام.
وبما أن الجماعات التي تتبنّى التفاسير الراديكالية، المتعاملة مع الإسلام كآيديولوجية، تتحمّس لفكرة الاستيلاء على الدولة وإعادة تشكيل المجتمع من أعلى إلى أسفل بأسلوب استبدادي... وبما أن الدولة الإيرانية الشيعية كانت ولا تزال رسميا وبفعالية، توظّف مثل هذا النموذج في الحكم منذ 1979... فإن أنصار هذا النهج الشيعي، وإن كانوا من السنة، يتصرّفون كملكيين أكثر من الملك. بمعنى أنهم يجدون في الثورة الإيرانية الشيعية تجسيدا لمثلهم العليا. مثل هذه المظاهر المتطرفة قد تتطوّر وتشغل حيزا كبيرا في الظهور في أي مكان، ولا سيما إبان مواجهة الاستعمار والاحتلال.
أنا أعتقد أنه ما لم تقطع هذه الجماعات كليا مع الخط العام فإن هذه الجماعات المتطرفة ستتلاشى وتندثر بمرور الوقت. إن قدرة الدين على تحقيق تحوّلات فردية وأخلاقية دائما أكثر تأثيرا واتساعا واستمرارية من التطبيقات السياسية والسلطوية. ولكن عندما لا يستفاد كليا من قدرة الإسلام على إفراز ديناميات التغيير الاجتماعي قد تنحرف مثل هذه الجماعات نحو تبنّي مواقف أكثر تسييسا وتطرفا. إن حركة «حزمت» - أو «الخدمة» - لا تهدف إلى تغيير المجتمع من أعلى إلى أسفل، بل تسعى إلى بناء الأفراد. التغيير يجب يبدأ من الفرد، فإذا استطعنا أن ننشئ أفرادا ومواطنين صالحين مجبولين على الإيثار والفضيلة فإنهم سينقلون المجتمع إلى مستقبل أكثر سلما واستقرارا وازدهارا. ومع هذا، فإننا لا نعلّق قلوبنا بالنتيجة ولا نتعجل قطف الثمرة بالدرجة الأولى.. فـ«الخدمة» تعمل على إنشاء حدائق وبساتين تنتج أفضل أنواع الثمار، ويأتي الناس بعد ذلك ليجنوا هذه الثمار ويعدّون منها الطعام الذي يحبّونه أو الحلوى التي يشتهونها أو المائدة التي يفضّلونها بمحض اختيارهم.
* مهّدت الثورات العربية الطريق أمام نشوء التطرف والتفسيرات المحافظة للإسلام. باعتقادكم كيف لذلك أن يؤثر على وضع المرأة في المنطقة؟
- مع أنني لم أفهم السؤال تماما، أود أن أشير إلى أن الأحداث في تونس ومصر وسوريا شكلت في بدايتها بحثا عن مطالب في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية. إلا أن الفئات التي برزت على الساحة فيما بعد، والأحداث المؤسفة، طغت على هذه المطالب الأولية. وللتوضيح لا يصح الخلْط بين المحافظة والتعصب. كأي دين آخر، للإسلام مجموعة من المبادئ الأساسية التي ينبغي الحفاظ عليها وصيانتها. وعندما نرجع إلى المصادر الإسلامية من أجل تحديد ما ينبغي المحافظة عليه من هذه المبادئ ينبغي أن نعتمد منهجا شاملا متكاملا بالإضافة إلى ما يتفتق عن الزمن الذي نعيش فيه من معان وتفاسير جديدة.
فيما يتعلق بالموضوع، كنت قد أشرت في وقت سابق إلى أن للمرأة الحق والحرية في المجتمع الإسلامي لتولي أي دور يناسبها حتى كَقاضية أو رئيسة وزراء أو رئيسة جمهورية. إن حرمان المرأة من حقها في التعليم وعزلَها عن الحياة الاجتماعية يشكل ضربة قوية لسلامة المجتمع الوظيفية. وكمحاولة لإثبات وجهة نظري رأينا أنه كانت هناك صحابيات في صدر الإسلام يتولين تعليم رجال من الصحابة المسائل الشرعية والتجارية، وكنّ مراجع في الفقه الإسلامي. إن المقاربات المناقضة لهذه المقاربة إنما هي نتيجة غلبة بعض التأويلات الرجولية لبعض المصادر الإسلامية. للأسف، الثقافات الرجولية ساهمت بشكل كبير في تآكل المكانة العادلة السامية التي منحها الإسلام للمرأة وطبقها النبي (صلى الله عليه وسلم) طيلة العهد النبوي. ومن ثم أصبحت المرأة تُعامَل كفرد من الدرجة الثانية. ورغم وجود نماذج نسائية عظيمة مثل السيدة خديجة (رضي الله عنها) التي كانت سيدة أعمال، والسيدة عائشة (رضي الله عنها) التي قامت بتعليم بعض الصحابة من الرجال شؤونَ الدين.. رغم ذلك نحن - مسلمي هذا العصر - نُكرِه المرأة على البقاء في المنزل ونكلفها بتربية الأطفال فحسب. أجل، مع أهمية تربية الأطفال، فإن النساء لا يتمتعن بالاحترام داخل العائلات والمجتمعات الإسلامية. المرأة تبقى متخلفة عن الرجل في مجالات التعليم والمنجزات الثقافية. ولكن الجدير بالذكر أن العبودية اختفت من التاريخ، ولا أحد اليوم يطالب بإعادتها، استنادا إلى أسس من الفقه الإسلامي التقليدي.. فلماذا لا نفعّل المنهج التقدمي ذاته في الرؤية الفقهية على وضع المرأة من دون أن يكون في الأمر أي تعارض مع جوهر ومبادئ الإسلام الأساسية.
الوسيلة الوحيدة لتجنب هذه التفاسير المتطرفة هي أن نأخذ عصر النبي والأجيال الثلاثة التي تبعته كأساس في عملية إعادة التفسير والاجتهاد اليوم، من أجل التخلص من الثقافة الرجولية وتأمين تعليمٍ أفضلَ للنساء، وتحسين واقع المرأة الاجتماعي والاقتصادي، وتمكينها من أن تكون قادرة على الدفاع عن حقوقها.
* برأيكم كيف سيؤثر الصعود والهبوط المفاجئ لـ«الإخوان المسلمين» في مصر على الإسلام السياسي في المنطقة؟
- إن مصر واحدة من أهمّ مراكز الإسلام السنّي، ولديها خبرة عريقة وتجربة عميقة في إدارة الدولة والسياسة. ومن الضروري لمن يطمح في حكم مصر أن يحترم القيم الديمقراطية وسيادة القانون؛ لأنه بلد يحتوي على ديانات ومذاهب وثقافات مختلفة. كما ينبغي احترام حساسيات كل الشرائح المجتمعية وتحاشي تعريض أي منها إلى أي مظالم، والإنصات إلى مطالبها المشروعة، لتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد.
إن حزبا جاء إلى الحكم نتيجة انتخابات مشروعة ديمقراطية ثم أُطِيح به من قبل الجيش، ليس من السهل توجيه النقد إليه. كان المرجوّ أن يُترك الأمر إلى الناخبين ليحاسبوه ويعاقبوه إذا كانت له أخطاء سياسية. وإن الدفاع عن أي تدخّل عسكري ضد الإرادة الشعبية، مناقض للديمقراطية ومبادئها. وما زاد من صعوبة وضع الإخوان أنهم - على ما أعتقد - تسلموا السلطة في ظرفٍ غاية في الهشاشة، إضافة إلى نقص في البنية التحتية والخبرة اللازمة. وربما لم يكونوا جاهزين بما فيه الكفاية. وفي نهاية المطاف تظل جماعة الإخوان حركة من صميم المجتمع المصري، وستقوم بمراجعة ذاتية جديدة في ضوء التجارب الأخيرة.
* ما هو كتابكم المثالي من بين مؤلفاتكم؟
- أستغفر الله.. لم أرَ أبدا أي كتاب من كتبي ذا أهمية، إلا أن الناس أحسنوا الظنّ بها وأقبلوا عليها. طوال حياتي حاولتُ أن أوظّف هذا الإقبال والتفاعل الإيجابي - الذي لا أستحقه أبدا - في توجيه أنظار الناس إلى الله تعالى والرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) والأنبياء الكرام (عليهم السلام) والعلماء والصالحين، وتحبيبهم إلى الناس. كذلك حاولتُ بقدرتي العقلية المحدودة قراءة أمراء البيان وأساطين العلم وفهمهم، ودعوتُ الناس إلى ذلك. فماضينا مليء بعمالقة الفكر والروح مثل الإمام الغزالي ومولانا جلال الدين الرومي ويونس أمره ومحمد عاكف وبديع الزمان سعيد النورسي وغيرهم ممن كانت أعمالهم وكلماتهم من أروع ما قيل وكتب عبر التاريخ.