إشكالية الصعود الأصولي وأزمة التيارات المدنية

قراءة تاريخية في مسؤولية التيارات المدنية بصعود التشدد المرتدي زي الإسلام

صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)
صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)
TT

إشكالية الصعود الأصولي وأزمة التيارات المدنية

صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)
صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)

يبقى التفسير الأشهر تاريخيًا للصعود والصحوة الأصولية، أنها أتت رد فعل على هزيمة أو نكسة 1967 وما ترافق به من فشل دولة ما بعد الاستقلال العربي، في تحقيق أي من وعودها الآيديولوجية بالحرية أو التحرر والتحرير - للأرض المحتلة - أو الوحدة. وأن هذه الأصولية طرحت نفسها من جديد - بعد فترة أفول - بديلا للآيديولوجيا القومية، الناصرية والبعثية، كطريق واحد للخلاص والحل وتحقيق نهضة عربية ثانية. إلا أن هذا التفسير يبقى قديمًا نسبيًا، قياسًا لتحولات الظاهرة المتشددة والأصولية خلال العقود الأربعة التالية، من ظهور ما يسميه البعض «الجهاديات القُطرية» ثم «الجهادية المعولمة»، ممثلة في تنظيمي «داعش» و«القاعدة». وقد يبقى صحيحًا في تفسير تحوّل بعض المفكّرين المدنيين أو العلمانيين للتوجه الإسلامي فيما بعد، وهو الذي نشط في هذه الفترة تحديدًا.
أما التفسير الثاني للصعود الأصولي وعلاقته بأزمة التيارات المدنية، فكان التفسير النظري المعروف عند عدد من المفكرين بـ«كبوة الإصلاح أو النهوض»، أو «النكوصية» في تعبيرات البعض عن مسيرة الإصلاح والاعتدال الإسلامي، حين انحدر الفكر الإسلامي من اعتدال الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي إلى «خليفاتية» محمد رشيد رضا وحسن البنا والنبهاني و«حاكمية» سيد قطب، ما قطع مع تيار النهضة والإصلاح المؤسس لأفكار الليبرالية والإصلاحية الإسلامية نحو مزيد من التشبث والعودة للعثماني بعد سقوطه.

إننا لنتحفظ عن الرؤية التفسيرية لـ«كبوة الإصلاح والنهوض»، إذ نرى أنه قد ظلت الأفكار الإصلاحية تؤتي ثمارها رغم الصعود الأصولي، وخلف جيل أحمد لطفي السيد وطه حسين ومصطفى عبد الرزاق ومحمود عزمي ومحمد حسين هيكل والعقاد وعلي يوسف - صاحب «المؤيد» - وغيرهم كثير، جيل الأفغاني وعبده وأنضج بعض الثمار على يديه مثل الجامعة والبرلمان ودستور سنة 1923 وفي المسألة النسوية وغيرها من المحطات المهمة في تاريخ النهضة العربية الحديثة (1).
لكن يثور من آن لآخر سؤال أكثر حرجًا مكنونه أنه لولا ضعف القوى المدنية والأفكار المدنية لما تقدمت القوى الأصولية لتملأ فراغها وفراغ الدولة معها. ويكون التدليل على ذلك حاضرًا وتاريخًا من أمثلة متعددة، منها اجتياح الإسلاميين للانتخابات عبر انتفاضات «الربيع العربي»، وتبخر واندثار كثير من صانعيه ومفجّريه بعد ذلك. كما أن منها ضعف التأثير الاجتماعي والثقافي للتيارات والأحزاب المدنية في الشارع، نتيجة العزلة النخبوية والقلة العددية، فضلا عن الاغتراب الخطابي الذي يصدره البعض عبر وسائل إعلامية وفضائية تحرج وتصطدم بالمعهود الديني، بين داعية لحرق آثار البخاري وآخر لحرق آثار ابن تيمية وما شابه. وهو ما يحدث أثرًا سلبًا عند القواعد والجماهير المتدينة بطبيعتها، للتحزبات الضيقة وللخلافات داخل هذه التنظيمات، وصراعات وفساد بعض ممثليها واختلافهم، قياسا للصلابة التنظيمية التي تبدو في الحركات الإسلامية والجهادية، ومبدأ السمع والطاعة الرابط بينها.
ونظرا لذيوع هذا التفسير، الذي يحمل ضعف التيارات المدنية تقدم وصعود التيارات الأصولية، وانتشاره بشكل كبير، وجدارته بالنقاش، إلا أنه تعتوره الكثير من المغالطات المبطنة والظاهرة نوضحها فيما يلي:
* أولا: الخلط بين الفكرة المدنية والتيارات المدنية:
هناك خلط بين الفكرة المجردة «المدنية» والفكرة المشخصنة «التيارات التي تعبر عنها» في مثل هذه الرؤية، فبينما تظل الفكرة المجردة قيمًا متسعة وفوق – آيديولوجية في احترام قيم التعايش الإنساني الحديث من احترام القانون إلى التسامح والتطور السياسي والاجتماعي، تظل القوى والأحزاب المدنية معبرة عن توجهات ممثليها وعن أزماتهم وعن أولوياتهم وأزماتهم الآيديولوجية والآنية.
ونلاحظ أنه رغم أزمة الكثير من التيارات المدنية، فإن الأفكار المدنية - وهي الأصل والغاية - تصعد وتنتشر بدءا من التعليم المدني الذي انتشرت وتغلبت مؤسساته على سائر مؤسسات التعليم الديني والتقليدي، وصولا ومرورا لأفكار أخرى كالعقلانية ورفض تسييس الدين، ودولة القانون والمؤسساتية والديمقراطية والمواطنة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص، وحقوق المرأة والحريات في الاعتقاد والرأي والتعبير وغيرها.
تصعد هذه الأفكار التي تكفر بها كلية الجماعات الموغلة في التشدد كـ«داعش» و«القاعدة» بينما تسعى لتبنيها تيارات وتنظيمات الإسلام السياسي الأكثر اعتدالا. ولم يعد عجيبا أن نسمع حديث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن «العلمانية المؤمنة» منذ سنوات، أو انتقاداته الأخيرة للبرلمان التركي ودفاعه عن مصطفى كمال «أتاتورك» حين تحدث رئيس الأول عن رغبته في وضع دستور إسلامي بالكامل في أبريل (نيسان) الماضي.
وفي الاتجاه نفسه يأتي دفاع أمثال راشد الغنوشي عن ذلك في الكثير من كتاباته، وهو ما عجزت عنه حركات أقل اعتدالا شأن الإخوان المسلمين، التي قبلت بالديمقراطية الإجرائية بينما رفضت قيمها. وتحفظت عن دعوة إردوغان لها للعلمانية والفصل بين الدين والدولة، في زيارته لمصر في أغسطس (آب) 2011. وما زال فعل المراجعة والتجدد النظري عند هذه الجماعة أضعف من الاستجابة لتحديات الواقع والتاريخ رغم فكرويتها الباكرة، كونها أقدم هذه الجماعات والأسبق في وضع مقولات الإسلام السياسي والحاكمي (القطبي).
وفي هذا دليل على اتساع وتمكّن الفكرة المدنية في الفضاء والمجال العام، رغم أزمة تيارات وتنظيمات منسوبة إليها. بل وتتلون بلونها حياة الناس، علموا أو لم يعلموا الجهود المدنية السابقة المؤسسة لذلك. كما لا تدرك بعض المتطرفات المتعلمات، أنه لولا ما بذله منظّرو ودُعاة الفكرة المدنية في سبيل تعليم المرأة من جهد، منذ حقبة رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين حتى الطاهر الحداد وغيره، لما تعلمت أصلاً وما نشطت مدافعة عن التكفير والتمييز باسم الدين لصالح من يرفضون تعليمها مثلا.
* ثانيا: تحميل المدنية أخطاء «الأفندية»:
في عشرينات القرن الماضي ثارت المقارنة بين خريجي التعليم المدني والتعليم الديني مختزلة في معركة «العمامة والطربوش» أو «الأفندية والمشايخ». وصار كل أفندي يصوّر على أنه مدني، وكل صاحب عمامة على أنه تقليدي، وهي مقارنة غير صحيحة، لأن كثيرين من أصحاب العمائم، مثل محمد عبده وآل عبد الرازق وعلال الفاسي وغيرهم، كانوا مجدّدين وإصلاحيين وأكثر اهتمام بمسألة التقدم والنهضة من غيرهم من «الأفندية» والعكس صحيح أيضًا.
ولكن يبدو أنه قد استمر هذا التصنيف الخطأ أيضًا، فصار كل من هو ليس رجل دين.. مدنيًا! وحملت تيارات وحكومات وأحزاب مأزومة على الفكر المدنية هي لا تنتمي إليها بشكل كامل، أو في نسبتها إليها شبهة كبيرة أو انحرافًا آيديولوجيًا باديا يتعارض مع أفكار المدنية والليبرالية والإصلاحية العربية الرئيسية، في احترام «دولة القانون» والهويات والدولة الوطنية والتعايش والمساواة بين مختلف المواطنين، وعدم التمييز على أساس عرقي أو ديني أو طائفي. كثيرًا ما تحمّلت المدنية والعلمانية العربية - التي هي جزئية في تيارها الغالب حسب تعبيرات المسيري - أخطاء أنظمة شمولية تبنت أفكارًا وشعارات آيديولوجية. فجرى تحميلها أخطاء التجارب الناصرية والبعثية السورية والعراقية، التي لم تكن مدنية نقية بقدر ما كانت شعاراتية وانقلابية أمنية ضيّقت على الأفكار المدنية المولودة قبلها، وألغت الليبرالية الفكرية والسياسية التي كانت موجودة قبلها. كذلك ضيقت من فرص الليبرالية الاقتصادية متجهة نحو التأميم ورأسمالية الدولة. وسعت لاستدعاء سياسي وقومي للإسلام عبر أطروحات «الاشتراكية الإسلامية» التي تبناها أمثال هواري بومدين، كما تبناها عبد الناصر بشكل مختلف- وكذلك تبناها منظرون من الطرفين.
بل نظن أنه رغم الصدام الشهير بين الأنظمة العسكرية والشمولية والتنظيمات الإسلامية السياسية في حقبة الخمسينات والستينات وغيرها، فإنها ساعدت ورعت صحوة التبشيرية الإسلامية كبديل لتبشيريتها الآيديولوجية. واستبدال الشعارات الكبرى في الوحدة الإسلامية والجهاد الإسلامي من أجل تحرير فلسطين، كبديل لشعاراتها التي فشلت في تحقيقها كالوحدة العربية والدولة العربية الواحدة، التي فشلت في إنجاح أي من تجاربها التي أقامتها (أربع تجارب فاشلة في مصر الناصرية وسوريا البعثية فقط) والصراع المؤبد مع العالم والإمبريالية لدائرة «الجهاد العالمي» على أساس ديني سياسي كذلك.
وليست ممارسات الخطاب متباينة بشدة عن بعضها، وسهل بعد النكسات والنكبات العربية التي تتالت أن يحل محلها مكان الآخر، حلّ «أبو مصعب الزرقاوي» محل صدام حسين كما حلّ «أبو بكر البغدادي» محل المالكي ونزوعه الطائفي، وحل محمد عبد السلام فرج و«الجهاد» المصري محل الأدلوجة الناصرية، كما أنتجت الأزمات الاقتصادية في السودان والمغرب العربي ما سمي في ثمانينات القرن الماضي جبهات «الإنقاذ الإسلامي».
* ثالثا: تجاهل التضييق على التيارات المدنية:
لقد وظفت بعض الأنظمة الشمولية في فترات معينة التيارات الأصولية، داعمة لصعودها، في وجه التيارات المدنية الديمقراطية. وهذا ما حدث في بداية عهد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات وصراعه مع بقايا مراكز القوى في النظام الناصري واستعانته على تيارات اليسار والحركة الطلابية بتصعيد وفتح آفاق للتيارات الإسلامية السياسية في الجامعة، خاصة مع ما عرفته الحركة الطلابية من نضوج وتأثير منذ نهاية الستينات، في مصر الناصرية وفي بلدان أخرى كفرنسا. وكان لا بد - مصريا - من تصعيد عدو آيديولوجي أكثر جاذبية وحشدًا ضدها في وجهها، ويستطيع أن يوقف صعودها، مع ممارسة تقييدات على أنشطتها وفعالياتها المختلفة. وحسب شهادة أحد الناشطين والمؤرخين للحركة الطلابية المصرية، هو الكاتب المرحوم هشام السلاموني، صاحب كتاب «جيل واجه عبد الناصر والسادات» ذكر لي أنه بينما جرى التضييق على أنشطتهم وندواتهم ومؤتمراتهم، كان المسجد الجامعي دائمًا متاحًا لخطاب التطرف ومناهجه، فتم تقييد المدنية وتحرير أفكار التطرّف وممكناتها في أوساط المجتمع المصري (2).
كذلك، نجحت الأنظمة الديكتاتورية والحزبية الواحدة في صناعة تيارات شعبوية، تحمل صور «الأفندية» والمواطنين الشرفاء، ليسوا مدنيين في الحقيقة، مظهرا ومنزعا، ولكنهم ينجحون في صد أي معارضة مدنية. ما وكل المجتمع وأتاحه بعيدا عما يمثلونه من نماذج للتيارات والجماعات الأصولية سواء كقناعة روحية أو كسبيل تغييري يأسا من مجتمع محدودة فرصه.
ختامًا، لا تنفي التقريرات السابقة مسؤولية التيارات المدنية واقعيًا عن تقدم وصعود التشدد المرتدي زي الإسلام والرافع لشعاراته، بل تؤكد على أزماتها البنيوية في غياب زعامات ورموز حقيقية، وضعف وسائط تواصلها المجتمعي حتى في عصر الثورة التواصلية والاتصالية. ولكن لا تمكن قراءة ذلك بعيدا عن السياقات والظروف المتاحة، وبعيدا عن إدراك الاختلافات بين الشعاراتية الآيديولوجية المأزومة، أو القطع «النيتشوية» على المواقع التواصلية المتبخرة وبين المنظومة المدنية في اتساعها وتنظيمها كما كانت في الحقبة الليبرالية قبل خمسينات القرن الماضي. ولكن لا شك أن الاجتماع والفكر العربي يتبيا مدنيا منذ عقود وبشكل متصارع رغم صرخات الأصولية وضجيج جماعاتها وعنفها.
* هوامش:
1 - هاني نسيره، أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2009.
2 - من لقاء مع الصديق الراحل مؤرخ الحركة الطلابية المصرية هشام السلاموني في القاهرة في 5 يوليو سنة 2008.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.