إشكالية الصعود الأصولي وأزمة التيارات المدنية

قراءة تاريخية في مسؤولية التيارات المدنية بصعود التشدد المرتدي زي الإسلام

صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)
صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)
TT

إشكالية الصعود الأصولي وأزمة التيارات المدنية

صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)
صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)

يبقى التفسير الأشهر تاريخيًا للصعود والصحوة الأصولية، أنها أتت رد فعل على هزيمة أو نكسة 1967 وما ترافق به من فشل دولة ما بعد الاستقلال العربي، في تحقيق أي من وعودها الآيديولوجية بالحرية أو التحرر والتحرير - للأرض المحتلة - أو الوحدة. وأن هذه الأصولية طرحت نفسها من جديد - بعد فترة أفول - بديلا للآيديولوجيا القومية، الناصرية والبعثية، كطريق واحد للخلاص والحل وتحقيق نهضة عربية ثانية. إلا أن هذا التفسير يبقى قديمًا نسبيًا، قياسًا لتحولات الظاهرة المتشددة والأصولية خلال العقود الأربعة التالية، من ظهور ما يسميه البعض «الجهاديات القُطرية» ثم «الجهادية المعولمة»، ممثلة في تنظيمي «داعش» و«القاعدة». وقد يبقى صحيحًا في تفسير تحوّل بعض المفكّرين المدنيين أو العلمانيين للتوجه الإسلامي فيما بعد، وهو الذي نشط في هذه الفترة تحديدًا.
أما التفسير الثاني للصعود الأصولي وعلاقته بأزمة التيارات المدنية، فكان التفسير النظري المعروف عند عدد من المفكرين بـ«كبوة الإصلاح أو النهوض»، أو «النكوصية» في تعبيرات البعض عن مسيرة الإصلاح والاعتدال الإسلامي، حين انحدر الفكر الإسلامي من اعتدال الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي إلى «خليفاتية» محمد رشيد رضا وحسن البنا والنبهاني و«حاكمية» سيد قطب، ما قطع مع تيار النهضة والإصلاح المؤسس لأفكار الليبرالية والإصلاحية الإسلامية نحو مزيد من التشبث والعودة للعثماني بعد سقوطه.

إننا لنتحفظ عن الرؤية التفسيرية لـ«كبوة الإصلاح والنهوض»، إذ نرى أنه قد ظلت الأفكار الإصلاحية تؤتي ثمارها رغم الصعود الأصولي، وخلف جيل أحمد لطفي السيد وطه حسين ومصطفى عبد الرزاق ومحمود عزمي ومحمد حسين هيكل والعقاد وعلي يوسف - صاحب «المؤيد» - وغيرهم كثير، جيل الأفغاني وعبده وأنضج بعض الثمار على يديه مثل الجامعة والبرلمان ودستور سنة 1923 وفي المسألة النسوية وغيرها من المحطات المهمة في تاريخ النهضة العربية الحديثة (1).
لكن يثور من آن لآخر سؤال أكثر حرجًا مكنونه أنه لولا ضعف القوى المدنية والأفكار المدنية لما تقدمت القوى الأصولية لتملأ فراغها وفراغ الدولة معها. ويكون التدليل على ذلك حاضرًا وتاريخًا من أمثلة متعددة، منها اجتياح الإسلاميين للانتخابات عبر انتفاضات «الربيع العربي»، وتبخر واندثار كثير من صانعيه ومفجّريه بعد ذلك. كما أن منها ضعف التأثير الاجتماعي والثقافي للتيارات والأحزاب المدنية في الشارع، نتيجة العزلة النخبوية والقلة العددية، فضلا عن الاغتراب الخطابي الذي يصدره البعض عبر وسائل إعلامية وفضائية تحرج وتصطدم بالمعهود الديني، بين داعية لحرق آثار البخاري وآخر لحرق آثار ابن تيمية وما شابه. وهو ما يحدث أثرًا سلبًا عند القواعد والجماهير المتدينة بطبيعتها، للتحزبات الضيقة وللخلافات داخل هذه التنظيمات، وصراعات وفساد بعض ممثليها واختلافهم، قياسا للصلابة التنظيمية التي تبدو في الحركات الإسلامية والجهادية، ومبدأ السمع والطاعة الرابط بينها.
ونظرا لذيوع هذا التفسير، الذي يحمل ضعف التيارات المدنية تقدم وصعود التيارات الأصولية، وانتشاره بشكل كبير، وجدارته بالنقاش، إلا أنه تعتوره الكثير من المغالطات المبطنة والظاهرة نوضحها فيما يلي:
* أولا: الخلط بين الفكرة المدنية والتيارات المدنية:
هناك خلط بين الفكرة المجردة «المدنية» والفكرة المشخصنة «التيارات التي تعبر عنها» في مثل هذه الرؤية، فبينما تظل الفكرة المجردة قيمًا متسعة وفوق – آيديولوجية في احترام قيم التعايش الإنساني الحديث من احترام القانون إلى التسامح والتطور السياسي والاجتماعي، تظل القوى والأحزاب المدنية معبرة عن توجهات ممثليها وعن أزماتهم وعن أولوياتهم وأزماتهم الآيديولوجية والآنية.
ونلاحظ أنه رغم أزمة الكثير من التيارات المدنية، فإن الأفكار المدنية - وهي الأصل والغاية - تصعد وتنتشر بدءا من التعليم المدني الذي انتشرت وتغلبت مؤسساته على سائر مؤسسات التعليم الديني والتقليدي، وصولا ومرورا لأفكار أخرى كالعقلانية ورفض تسييس الدين، ودولة القانون والمؤسساتية والديمقراطية والمواطنة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص، وحقوق المرأة والحريات في الاعتقاد والرأي والتعبير وغيرها.
تصعد هذه الأفكار التي تكفر بها كلية الجماعات الموغلة في التشدد كـ«داعش» و«القاعدة» بينما تسعى لتبنيها تيارات وتنظيمات الإسلام السياسي الأكثر اعتدالا. ولم يعد عجيبا أن نسمع حديث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن «العلمانية المؤمنة» منذ سنوات، أو انتقاداته الأخيرة للبرلمان التركي ودفاعه عن مصطفى كمال «أتاتورك» حين تحدث رئيس الأول عن رغبته في وضع دستور إسلامي بالكامل في أبريل (نيسان) الماضي.
وفي الاتجاه نفسه يأتي دفاع أمثال راشد الغنوشي عن ذلك في الكثير من كتاباته، وهو ما عجزت عنه حركات أقل اعتدالا شأن الإخوان المسلمين، التي قبلت بالديمقراطية الإجرائية بينما رفضت قيمها. وتحفظت عن دعوة إردوغان لها للعلمانية والفصل بين الدين والدولة، في زيارته لمصر في أغسطس (آب) 2011. وما زال فعل المراجعة والتجدد النظري عند هذه الجماعة أضعف من الاستجابة لتحديات الواقع والتاريخ رغم فكرويتها الباكرة، كونها أقدم هذه الجماعات والأسبق في وضع مقولات الإسلام السياسي والحاكمي (القطبي).
وفي هذا دليل على اتساع وتمكّن الفكرة المدنية في الفضاء والمجال العام، رغم أزمة تيارات وتنظيمات منسوبة إليها. بل وتتلون بلونها حياة الناس، علموا أو لم يعلموا الجهود المدنية السابقة المؤسسة لذلك. كما لا تدرك بعض المتطرفات المتعلمات، أنه لولا ما بذله منظّرو ودُعاة الفكرة المدنية في سبيل تعليم المرأة من جهد، منذ حقبة رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين حتى الطاهر الحداد وغيره، لما تعلمت أصلاً وما نشطت مدافعة عن التكفير والتمييز باسم الدين لصالح من يرفضون تعليمها مثلا.
* ثانيا: تحميل المدنية أخطاء «الأفندية»:
في عشرينات القرن الماضي ثارت المقارنة بين خريجي التعليم المدني والتعليم الديني مختزلة في معركة «العمامة والطربوش» أو «الأفندية والمشايخ». وصار كل أفندي يصوّر على أنه مدني، وكل صاحب عمامة على أنه تقليدي، وهي مقارنة غير صحيحة، لأن كثيرين من أصحاب العمائم، مثل محمد عبده وآل عبد الرازق وعلال الفاسي وغيرهم، كانوا مجدّدين وإصلاحيين وأكثر اهتمام بمسألة التقدم والنهضة من غيرهم من «الأفندية» والعكس صحيح أيضًا.
ولكن يبدو أنه قد استمر هذا التصنيف الخطأ أيضًا، فصار كل من هو ليس رجل دين.. مدنيًا! وحملت تيارات وحكومات وأحزاب مأزومة على الفكر المدنية هي لا تنتمي إليها بشكل كامل، أو في نسبتها إليها شبهة كبيرة أو انحرافًا آيديولوجيًا باديا يتعارض مع أفكار المدنية والليبرالية والإصلاحية العربية الرئيسية، في احترام «دولة القانون» والهويات والدولة الوطنية والتعايش والمساواة بين مختلف المواطنين، وعدم التمييز على أساس عرقي أو ديني أو طائفي. كثيرًا ما تحمّلت المدنية والعلمانية العربية - التي هي جزئية في تيارها الغالب حسب تعبيرات المسيري - أخطاء أنظمة شمولية تبنت أفكارًا وشعارات آيديولوجية. فجرى تحميلها أخطاء التجارب الناصرية والبعثية السورية والعراقية، التي لم تكن مدنية نقية بقدر ما كانت شعاراتية وانقلابية أمنية ضيّقت على الأفكار المدنية المولودة قبلها، وألغت الليبرالية الفكرية والسياسية التي كانت موجودة قبلها. كذلك ضيقت من فرص الليبرالية الاقتصادية متجهة نحو التأميم ورأسمالية الدولة. وسعت لاستدعاء سياسي وقومي للإسلام عبر أطروحات «الاشتراكية الإسلامية» التي تبناها أمثال هواري بومدين، كما تبناها عبد الناصر بشكل مختلف- وكذلك تبناها منظرون من الطرفين.
بل نظن أنه رغم الصدام الشهير بين الأنظمة العسكرية والشمولية والتنظيمات الإسلامية السياسية في حقبة الخمسينات والستينات وغيرها، فإنها ساعدت ورعت صحوة التبشيرية الإسلامية كبديل لتبشيريتها الآيديولوجية. واستبدال الشعارات الكبرى في الوحدة الإسلامية والجهاد الإسلامي من أجل تحرير فلسطين، كبديل لشعاراتها التي فشلت في تحقيقها كالوحدة العربية والدولة العربية الواحدة، التي فشلت في إنجاح أي من تجاربها التي أقامتها (أربع تجارب فاشلة في مصر الناصرية وسوريا البعثية فقط) والصراع المؤبد مع العالم والإمبريالية لدائرة «الجهاد العالمي» على أساس ديني سياسي كذلك.
وليست ممارسات الخطاب متباينة بشدة عن بعضها، وسهل بعد النكسات والنكبات العربية التي تتالت أن يحل محلها مكان الآخر، حلّ «أبو مصعب الزرقاوي» محل صدام حسين كما حلّ «أبو بكر البغدادي» محل المالكي ونزوعه الطائفي، وحل محمد عبد السلام فرج و«الجهاد» المصري محل الأدلوجة الناصرية، كما أنتجت الأزمات الاقتصادية في السودان والمغرب العربي ما سمي في ثمانينات القرن الماضي جبهات «الإنقاذ الإسلامي».
* ثالثا: تجاهل التضييق على التيارات المدنية:
لقد وظفت بعض الأنظمة الشمولية في فترات معينة التيارات الأصولية، داعمة لصعودها، في وجه التيارات المدنية الديمقراطية. وهذا ما حدث في بداية عهد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات وصراعه مع بقايا مراكز القوى في النظام الناصري واستعانته على تيارات اليسار والحركة الطلابية بتصعيد وفتح آفاق للتيارات الإسلامية السياسية في الجامعة، خاصة مع ما عرفته الحركة الطلابية من نضوج وتأثير منذ نهاية الستينات، في مصر الناصرية وفي بلدان أخرى كفرنسا. وكان لا بد - مصريا - من تصعيد عدو آيديولوجي أكثر جاذبية وحشدًا ضدها في وجهها، ويستطيع أن يوقف صعودها، مع ممارسة تقييدات على أنشطتها وفعالياتها المختلفة. وحسب شهادة أحد الناشطين والمؤرخين للحركة الطلابية المصرية، هو الكاتب المرحوم هشام السلاموني، صاحب كتاب «جيل واجه عبد الناصر والسادات» ذكر لي أنه بينما جرى التضييق على أنشطتهم وندواتهم ومؤتمراتهم، كان المسجد الجامعي دائمًا متاحًا لخطاب التطرف ومناهجه، فتم تقييد المدنية وتحرير أفكار التطرّف وممكناتها في أوساط المجتمع المصري (2).
كذلك، نجحت الأنظمة الديكتاتورية والحزبية الواحدة في صناعة تيارات شعبوية، تحمل صور «الأفندية» والمواطنين الشرفاء، ليسوا مدنيين في الحقيقة، مظهرا ومنزعا، ولكنهم ينجحون في صد أي معارضة مدنية. ما وكل المجتمع وأتاحه بعيدا عما يمثلونه من نماذج للتيارات والجماعات الأصولية سواء كقناعة روحية أو كسبيل تغييري يأسا من مجتمع محدودة فرصه.
ختامًا، لا تنفي التقريرات السابقة مسؤولية التيارات المدنية واقعيًا عن تقدم وصعود التشدد المرتدي زي الإسلام والرافع لشعاراته، بل تؤكد على أزماتها البنيوية في غياب زعامات ورموز حقيقية، وضعف وسائط تواصلها المجتمعي حتى في عصر الثورة التواصلية والاتصالية. ولكن لا تمكن قراءة ذلك بعيدا عن السياقات والظروف المتاحة، وبعيدا عن إدراك الاختلافات بين الشعاراتية الآيديولوجية المأزومة، أو القطع «النيتشوية» على المواقع التواصلية المتبخرة وبين المنظومة المدنية في اتساعها وتنظيمها كما كانت في الحقبة الليبرالية قبل خمسينات القرن الماضي. ولكن لا شك أن الاجتماع والفكر العربي يتبيا مدنيا منذ عقود وبشكل متصارع رغم صرخات الأصولية وضجيج جماعاتها وعنفها.
* هوامش:
1 - هاني نسيره، أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2009.
2 - من لقاء مع الصديق الراحل مؤرخ الحركة الطلابية المصرية هشام السلاموني في القاهرة في 5 يوليو سنة 2008.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».