إشكالية الصعود الأصولي وأزمة التيارات المدنية

قراءة تاريخية في مسؤولية التيارات المدنية بصعود التشدد المرتدي زي الإسلام

صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)
صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)
TT

إشكالية الصعود الأصولي وأزمة التيارات المدنية

صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)
صورة تظهر توغل دبابات إسرائيلية داخل الأراضي المصرية في حرب الأيام الستة 1967 (غيتي)

يبقى التفسير الأشهر تاريخيًا للصعود والصحوة الأصولية، أنها أتت رد فعل على هزيمة أو نكسة 1967 وما ترافق به من فشل دولة ما بعد الاستقلال العربي، في تحقيق أي من وعودها الآيديولوجية بالحرية أو التحرر والتحرير - للأرض المحتلة - أو الوحدة. وأن هذه الأصولية طرحت نفسها من جديد - بعد فترة أفول - بديلا للآيديولوجيا القومية، الناصرية والبعثية، كطريق واحد للخلاص والحل وتحقيق نهضة عربية ثانية. إلا أن هذا التفسير يبقى قديمًا نسبيًا، قياسًا لتحولات الظاهرة المتشددة والأصولية خلال العقود الأربعة التالية، من ظهور ما يسميه البعض «الجهاديات القُطرية» ثم «الجهادية المعولمة»، ممثلة في تنظيمي «داعش» و«القاعدة». وقد يبقى صحيحًا في تفسير تحوّل بعض المفكّرين المدنيين أو العلمانيين للتوجه الإسلامي فيما بعد، وهو الذي نشط في هذه الفترة تحديدًا.
أما التفسير الثاني للصعود الأصولي وعلاقته بأزمة التيارات المدنية، فكان التفسير النظري المعروف عند عدد من المفكرين بـ«كبوة الإصلاح أو النهوض»، أو «النكوصية» في تعبيرات البعض عن مسيرة الإصلاح والاعتدال الإسلامي، حين انحدر الفكر الإسلامي من اعتدال الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي إلى «خليفاتية» محمد رشيد رضا وحسن البنا والنبهاني و«حاكمية» سيد قطب، ما قطع مع تيار النهضة والإصلاح المؤسس لأفكار الليبرالية والإصلاحية الإسلامية نحو مزيد من التشبث والعودة للعثماني بعد سقوطه.

إننا لنتحفظ عن الرؤية التفسيرية لـ«كبوة الإصلاح والنهوض»، إذ نرى أنه قد ظلت الأفكار الإصلاحية تؤتي ثمارها رغم الصعود الأصولي، وخلف جيل أحمد لطفي السيد وطه حسين ومصطفى عبد الرزاق ومحمود عزمي ومحمد حسين هيكل والعقاد وعلي يوسف - صاحب «المؤيد» - وغيرهم كثير، جيل الأفغاني وعبده وأنضج بعض الثمار على يديه مثل الجامعة والبرلمان ودستور سنة 1923 وفي المسألة النسوية وغيرها من المحطات المهمة في تاريخ النهضة العربية الحديثة (1).
لكن يثور من آن لآخر سؤال أكثر حرجًا مكنونه أنه لولا ضعف القوى المدنية والأفكار المدنية لما تقدمت القوى الأصولية لتملأ فراغها وفراغ الدولة معها. ويكون التدليل على ذلك حاضرًا وتاريخًا من أمثلة متعددة، منها اجتياح الإسلاميين للانتخابات عبر انتفاضات «الربيع العربي»، وتبخر واندثار كثير من صانعيه ومفجّريه بعد ذلك. كما أن منها ضعف التأثير الاجتماعي والثقافي للتيارات والأحزاب المدنية في الشارع، نتيجة العزلة النخبوية والقلة العددية، فضلا عن الاغتراب الخطابي الذي يصدره البعض عبر وسائل إعلامية وفضائية تحرج وتصطدم بالمعهود الديني، بين داعية لحرق آثار البخاري وآخر لحرق آثار ابن تيمية وما شابه. وهو ما يحدث أثرًا سلبًا عند القواعد والجماهير المتدينة بطبيعتها، للتحزبات الضيقة وللخلافات داخل هذه التنظيمات، وصراعات وفساد بعض ممثليها واختلافهم، قياسا للصلابة التنظيمية التي تبدو في الحركات الإسلامية والجهادية، ومبدأ السمع والطاعة الرابط بينها.
ونظرا لذيوع هذا التفسير، الذي يحمل ضعف التيارات المدنية تقدم وصعود التيارات الأصولية، وانتشاره بشكل كبير، وجدارته بالنقاش، إلا أنه تعتوره الكثير من المغالطات المبطنة والظاهرة نوضحها فيما يلي:
* أولا: الخلط بين الفكرة المدنية والتيارات المدنية:
هناك خلط بين الفكرة المجردة «المدنية» والفكرة المشخصنة «التيارات التي تعبر عنها» في مثل هذه الرؤية، فبينما تظل الفكرة المجردة قيمًا متسعة وفوق – آيديولوجية في احترام قيم التعايش الإنساني الحديث من احترام القانون إلى التسامح والتطور السياسي والاجتماعي، تظل القوى والأحزاب المدنية معبرة عن توجهات ممثليها وعن أزماتهم وعن أولوياتهم وأزماتهم الآيديولوجية والآنية.
ونلاحظ أنه رغم أزمة الكثير من التيارات المدنية، فإن الأفكار المدنية - وهي الأصل والغاية - تصعد وتنتشر بدءا من التعليم المدني الذي انتشرت وتغلبت مؤسساته على سائر مؤسسات التعليم الديني والتقليدي، وصولا ومرورا لأفكار أخرى كالعقلانية ورفض تسييس الدين، ودولة القانون والمؤسساتية والديمقراطية والمواطنة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص، وحقوق المرأة والحريات في الاعتقاد والرأي والتعبير وغيرها.
تصعد هذه الأفكار التي تكفر بها كلية الجماعات الموغلة في التشدد كـ«داعش» و«القاعدة» بينما تسعى لتبنيها تيارات وتنظيمات الإسلام السياسي الأكثر اعتدالا. ولم يعد عجيبا أن نسمع حديث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن «العلمانية المؤمنة» منذ سنوات، أو انتقاداته الأخيرة للبرلمان التركي ودفاعه عن مصطفى كمال «أتاتورك» حين تحدث رئيس الأول عن رغبته في وضع دستور إسلامي بالكامل في أبريل (نيسان) الماضي.
وفي الاتجاه نفسه يأتي دفاع أمثال راشد الغنوشي عن ذلك في الكثير من كتاباته، وهو ما عجزت عنه حركات أقل اعتدالا شأن الإخوان المسلمين، التي قبلت بالديمقراطية الإجرائية بينما رفضت قيمها. وتحفظت عن دعوة إردوغان لها للعلمانية والفصل بين الدين والدولة، في زيارته لمصر في أغسطس (آب) 2011. وما زال فعل المراجعة والتجدد النظري عند هذه الجماعة أضعف من الاستجابة لتحديات الواقع والتاريخ رغم فكرويتها الباكرة، كونها أقدم هذه الجماعات والأسبق في وضع مقولات الإسلام السياسي والحاكمي (القطبي).
وفي هذا دليل على اتساع وتمكّن الفكرة المدنية في الفضاء والمجال العام، رغم أزمة تيارات وتنظيمات منسوبة إليها. بل وتتلون بلونها حياة الناس، علموا أو لم يعلموا الجهود المدنية السابقة المؤسسة لذلك. كما لا تدرك بعض المتطرفات المتعلمات، أنه لولا ما بذله منظّرو ودُعاة الفكرة المدنية في سبيل تعليم المرأة من جهد، منذ حقبة رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين حتى الطاهر الحداد وغيره، لما تعلمت أصلاً وما نشطت مدافعة عن التكفير والتمييز باسم الدين لصالح من يرفضون تعليمها مثلا.
* ثانيا: تحميل المدنية أخطاء «الأفندية»:
في عشرينات القرن الماضي ثارت المقارنة بين خريجي التعليم المدني والتعليم الديني مختزلة في معركة «العمامة والطربوش» أو «الأفندية والمشايخ». وصار كل أفندي يصوّر على أنه مدني، وكل صاحب عمامة على أنه تقليدي، وهي مقارنة غير صحيحة، لأن كثيرين من أصحاب العمائم، مثل محمد عبده وآل عبد الرازق وعلال الفاسي وغيرهم، كانوا مجدّدين وإصلاحيين وأكثر اهتمام بمسألة التقدم والنهضة من غيرهم من «الأفندية» والعكس صحيح أيضًا.
ولكن يبدو أنه قد استمر هذا التصنيف الخطأ أيضًا، فصار كل من هو ليس رجل دين.. مدنيًا! وحملت تيارات وحكومات وأحزاب مأزومة على الفكر المدنية هي لا تنتمي إليها بشكل كامل، أو في نسبتها إليها شبهة كبيرة أو انحرافًا آيديولوجيًا باديا يتعارض مع أفكار المدنية والليبرالية والإصلاحية العربية الرئيسية، في احترام «دولة القانون» والهويات والدولة الوطنية والتعايش والمساواة بين مختلف المواطنين، وعدم التمييز على أساس عرقي أو ديني أو طائفي. كثيرًا ما تحمّلت المدنية والعلمانية العربية - التي هي جزئية في تيارها الغالب حسب تعبيرات المسيري - أخطاء أنظمة شمولية تبنت أفكارًا وشعارات آيديولوجية. فجرى تحميلها أخطاء التجارب الناصرية والبعثية السورية والعراقية، التي لم تكن مدنية نقية بقدر ما كانت شعاراتية وانقلابية أمنية ضيّقت على الأفكار المدنية المولودة قبلها، وألغت الليبرالية الفكرية والسياسية التي كانت موجودة قبلها. كذلك ضيقت من فرص الليبرالية الاقتصادية متجهة نحو التأميم ورأسمالية الدولة. وسعت لاستدعاء سياسي وقومي للإسلام عبر أطروحات «الاشتراكية الإسلامية» التي تبناها أمثال هواري بومدين، كما تبناها عبد الناصر بشكل مختلف- وكذلك تبناها منظرون من الطرفين.
بل نظن أنه رغم الصدام الشهير بين الأنظمة العسكرية والشمولية والتنظيمات الإسلامية السياسية في حقبة الخمسينات والستينات وغيرها، فإنها ساعدت ورعت صحوة التبشيرية الإسلامية كبديل لتبشيريتها الآيديولوجية. واستبدال الشعارات الكبرى في الوحدة الإسلامية والجهاد الإسلامي من أجل تحرير فلسطين، كبديل لشعاراتها التي فشلت في تحقيقها كالوحدة العربية والدولة العربية الواحدة، التي فشلت في إنجاح أي من تجاربها التي أقامتها (أربع تجارب فاشلة في مصر الناصرية وسوريا البعثية فقط) والصراع المؤبد مع العالم والإمبريالية لدائرة «الجهاد العالمي» على أساس ديني سياسي كذلك.
وليست ممارسات الخطاب متباينة بشدة عن بعضها، وسهل بعد النكسات والنكبات العربية التي تتالت أن يحل محلها مكان الآخر، حلّ «أبو مصعب الزرقاوي» محل صدام حسين كما حلّ «أبو بكر البغدادي» محل المالكي ونزوعه الطائفي، وحل محمد عبد السلام فرج و«الجهاد» المصري محل الأدلوجة الناصرية، كما أنتجت الأزمات الاقتصادية في السودان والمغرب العربي ما سمي في ثمانينات القرن الماضي جبهات «الإنقاذ الإسلامي».
* ثالثا: تجاهل التضييق على التيارات المدنية:
لقد وظفت بعض الأنظمة الشمولية في فترات معينة التيارات الأصولية، داعمة لصعودها، في وجه التيارات المدنية الديمقراطية. وهذا ما حدث في بداية عهد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات وصراعه مع بقايا مراكز القوى في النظام الناصري واستعانته على تيارات اليسار والحركة الطلابية بتصعيد وفتح آفاق للتيارات الإسلامية السياسية في الجامعة، خاصة مع ما عرفته الحركة الطلابية من نضوج وتأثير منذ نهاية الستينات، في مصر الناصرية وفي بلدان أخرى كفرنسا. وكان لا بد - مصريا - من تصعيد عدو آيديولوجي أكثر جاذبية وحشدًا ضدها في وجهها، ويستطيع أن يوقف صعودها، مع ممارسة تقييدات على أنشطتها وفعالياتها المختلفة. وحسب شهادة أحد الناشطين والمؤرخين للحركة الطلابية المصرية، هو الكاتب المرحوم هشام السلاموني، صاحب كتاب «جيل واجه عبد الناصر والسادات» ذكر لي أنه بينما جرى التضييق على أنشطتهم وندواتهم ومؤتمراتهم، كان المسجد الجامعي دائمًا متاحًا لخطاب التطرف ومناهجه، فتم تقييد المدنية وتحرير أفكار التطرّف وممكناتها في أوساط المجتمع المصري (2).
كذلك، نجحت الأنظمة الديكتاتورية والحزبية الواحدة في صناعة تيارات شعبوية، تحمل صور «الأفندية» والمواطنين الشرفاء، ليسوا مدنيين في الحقيقة، مظهرا ومنزعا، ولكنهم ينجحون في صد أي معارضة مدنية. ما وكل المجتمع وأتاحه بعيدا عما يمثلونه من نماذج للتيارات والجماعات الأصولية سواء كقناعة روحية أو كسبيل تغييري يأسا من مجتمع محدودة فرصه.
ختامًا، لا تنفي التقريرات السابقة مسؤولية التيارات المدنية واقعيًا عن تقدم وصعود التشدد المرتدي زي الإسلام والرافع لشعاراته، بل تؤكد على أزماتها البنيوية في غياب زعامات ورموز حقيقية، وضعف وسائط تواصلها المجتمعي حتى في عصر الثورة التواصلية والاتصالية. ولكن لا تمكن قراءة ذلك بعيدا عن السياقات والظروف المتاحة، وبعيدا عن إدراك الاختلافات بين الشعاراتية الآيديولوجية المأزومة، أو القطع «النيتشوية» على المواقع التواصلية المتبخرة وبين المنظومة المدنية في اتساعها وتنظيمها كما كانت في الحقبة الليبرالية قبل خمسينات القرن الماضي. ولكن لا شك أن الاجتماع والفكر العربي يتبيا مدنيا منذ عقود وبشكل متصارع رغم صرخات الأصولية وضجيج جماعاتها وعنفها.
* هوامش:
1 - هاني نسيره، أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2009.
2 - من لقاء مع الصديق الراحل مؤرخ الحركة الطلابية المصرية هشام السلاموني في القاهرة في 5 يوليو سنة 2008.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».