«معمارية التحقيقات الجنائية» توثق جرائم الأسد وإسرائيل

التصوير الفضائي والنماذج الكومبيوترية تدقق في المباني السكنية المدمرة وفي دهاليز السجون

«معمارية التحقيقات الجنائية» توثق جرائم الأسد وإسرائيل
TT

«معمارية التحقيقات الجنائية» توثق جرائم الأسد وإسرائيل

«معمارية التحقيقات الجنائية» توثق جرائم الأسد وإسرائيل

كيف يمكن توثيق جرائم النظام السوري ضد السجناء في ظروف حرب أهلية مدمرة، وكيف يمكن رصد الجرائم ضد الإنسانية التي نفذتها إسرائيل في حربها ضد غزة؟ هذا ما يجيب عنه الميدان العلمي الجديد المسمى «معمارية التحقيقات الجنائية» .
ويدقق هذا العلم عن قرب أو من بعد عندما تمعن السلطات في تغطية جرائمها، في آثار المباني المتهدمة في الغارات والأعمال العسكرية التي توجه ضد المدنين، كما يتقفى آثار الجرائم من شكل التهدم وبقايا الهياكل، أو يدقق دهاليز السجون وقاعات التعذيب السرية فيها، وما شابه.
ويعتبر المعماري إيال وايزمان البروفسور في الثقافات المرئية ومدير مركز الأبحاث المعمارية في جامعة غولدسميث المنضوية تحت جامعة لندن، الذي يتولى منصب مدير «معمارية التحقيقات الجنائية» الممول أوروبيا، رائدا في هذا المضمار.
ويقول وايزمان الذي يشغل أيضًا منصب عضو في مجلس إدارة جمعية دار للتخطيط المعماري والمدني في بيت ساحور بالضفة الغربية، «إننا نشابه (أطباء التحقيقات الجنائية)، لكننا لا ندرس جثث الضحايا بل المباني المتهدمة والتضاريس الأرضية المدمرة بهدف إعادة تشكيلها والتدقيق في الجرائم التي أدت إليها لتقديم المجرمين إلى المحاكمة». وقد درس وايزمان ونجح في رصد الجرائم التي تعرض لها مجموعات من المايا من سكان غواتيمالا على مدى عقود سابقة بدراسة قراهم المدمرة رغم تغطيات الأحراش لها، وذلك بوسائل التصوير بالأقمار الصناعية.
ووظف وايزمان أحدث تقنيات «معمارية التحقيقات الجنائية» في رصد حقيقة عملية عسكرية وقعت عند حدود غزة الجنوبية مع إسرائيل عام 2014، وأدت إلى مقتل فلسطينيين وإسرائيلي واحد واختفاء آخر. ولكن أدت العملية إلى مقتل عدد من المدنيين وتهديم بيوتهم. ووضع الباحث الشهادات بالصور أو الفيديو التي عرضها الشهود على شبكات التواصل الاجتماعي معا لتكوين لوحة كاملة عن تفاصيل الهجوم الإسرائيلي الذي وضعه في فيديو كامل (الرابط الإلكتروني في نهاية الموضوع). وقد يسهل هذا الفيديو الجديد تقديم المعتدين بتهمة مجرمي حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية.
وعن سوريا يقول وايزمان إن صعوبة توثيق شهادات عما يجري في السجون السورية قادته وزملاءه إلى توثيق شهادات الناجين منها الذين لجأوا إلى تركيا. وقد تعرض كل هؤلاء إلى التعذيب في مباني السجون السورية ولم تستطع أي منظمة دولية التعرف على أحوالهم فيها، لذا فقد تم وضع نموذج كومبيوتري لردهات السجون ودهاليزها وتكوين لوحة عن وسائل التعذيب داخلها حفظت تفاصيل شهادات السجناء فيها. وحاول النموذج وضع صورة قريبة جدًا للواقع من حيث ارتفاع الجدران وعدد الأبواب وما شابه من التفاصيل المعمارية.
وفي مقابلة نشرتها مجلة «نيوساينتست» البريطانية في عددها الأخير، قال وايزمان إن «معمارية التحقيقات الجنائية» نجحت في توجيه تهمة القتل إلى المشرفين على طائرة «درون» من دون طيار ضربت أحد المنازل خطأً عند قصفها لمناطق يسكنها الطالبان في باكستان، إذ أظهرت شهادة إحدى النساء الألمانيات التي كانت موجودة في أحد البيوت المجاورة أن عربة لطفل كانت موجودة في الحديقة أثناء الحادث. واستقى الباحثون معلومات أكثر من أم الطفل، مما أدى إلى إثبات حقيقة أن المشرف على الدرون لاحظ بالتأكيد وجود أطفال في المنزل، وكان عليه أن يمتنع عن ضربه.
وكدليل على نجاح مشروعه تحدث وايزمان بالتفصيل كيف تمكن من الكشف عن جرائم الحكومة الغواتيمالية في القرن الماضي التي أحرقت قرى قبائل «إكسل»، وهم سكان البلاد الأصليون قرب الغابات في فترتي الستينات والتسعينات من القرن الماضي، إذ لم تفلح لجنة تقصي الحقائق التاريخية التابعة للأمم المتحدة في مهمتها بسبب عدم تسجيل السكان الأصليين كمواطنين وتدمير قراهم.
وقد أظهرت صور الأقمار الصناعية للمناطق التي كانت فيها تلك القرى وجود مواقع تعرضت للتعرية وأخرى نمت عليها أحراش لغابات صغيرة. وبينما لا يستطيع الشخص الناظر على الأرض التمييز بين الأحراش القديمة والجديدة، فإن الصور الدقيقة كشفت عن فروق بين الأحراش الجديدة وأساسات المباني في القرى المدمرة، وبذا «تمكنا من قراءة تفاصيل التضاريس الأرضية كما يتمكن الأعمى من القراءة بطريقة برايل». وقد أدى ذلك إلى تقديم المجرمين للمساءلة.
ويعتقد وايزمان أنه إن كان طب التحقيقات الجنائية يقدم المسؤول عن الجريمة إلى الحكومة لمقاضاته، فإن «معمارية التحقيقات الجنائية» تقدم الحكومات للمساءلة عن جرائمها. ويعتبر كتاب وايزمان «مناطق محظورة» من الكتب الحديثة التي تتحدث عن توظيف إسرائيل للهندسة المعمارية كسلاح سياسي. وهو يعتبر العمارة وسيلة للاحتلال أيضًا في نزاع الشرق الأوسط تُستخدم من أجل فرض المصالح، إذ يربط كتابه ما بين الطراز المعماري في القدس واستراتيجية بناء حواجز التفتيش، وكذلك المستوطنات اليهودية.
وقد شغل وايزمان مناصب كثيرة، مثل البروفسور في المعمار في أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا، ودرس في مدرسة ستادل في فراكفور بألمانيا، ومدرسة الدراسات المتقدمة والعلوم الاجتماعية في باريس.



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.