السياب في ذاكرة عبد اللطيف أطيمش

لقطات وانطباعات سجلها عنه قبل خمسين عامًا

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

السياب في ذاكرة عبد اللطيف أطيمش

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

صدر عن دار «جداول للنشر والترجمة» في بيروت كتاب بعنوان «بدر شاكر السياب في أيامه الأخيرة» للمؤلف عبد اللطيف أطيمش، الذي يقول في مقدمة الكتاب:
«لعلها مصادفة أدبية طيّبة، أن يتزامن صدور هذا الكتاب عن بدر شاكر السيّاب، بعد المبادرة التي أطلقها اتحاد الأدباء العرب في إمارة أبوظبي في أن يكون عام 2014. عام الاحتفاء بمرور خمسين عامًا على ذكرى رحيل هذا الشاعر الكبير. إن المكانة الأدبية الرفيعة التي يحتلها السيّاب، عربيًا وعالميًا، تدعونا إلى أن نستعيد الدور الريادي الذي لعبه في تطوير الحركة الشعرية العربية، وفتح الآفاق الواسعة أمام الشعر العربي الحديث ليحتل مكانه المرموق على خريطة الشعر العالمي. فما أحرانا، ونحن نستعيد هذه الحقائق الأدبية المعروفة في تاريخنا الشعري والنقدي القديم، أن نعطي اليوم، لشعرنا حقَّه، وأن نسلّمه إلى من يعرف جوهره وحقيقة صناعته، ليكشف لنا عن أسراره ومكامن الجمال والإبداع فيه. وبهذه المناسبة، علينا أن نعيد اكتشاف مكامن الجمال والإبداع في شعر السيّاب، وندعو النقاد المنصرفين لشؤون الشعر وحده، إلى إعادة دراسة هذا الشاعر الرائد، وإبراز دوره الطليعي في حركة الشعر العربي المعاصر».
والكتاب يحاول، كما يقول أطيمش: «رسم بعض الذكريات الشخصية واللقطات التي سجلتها الذاكرة عنه في أوقات وأماكن مختلفة، وهي انطباعات كانت في الأصل مجموعة أفكار في أوراق مبعثرة وقصاصات من ذكريات يومية، سجلتها قبل أكثر من خمسين عامًا، لتكون جزءًا من مادة أدبية لسيرة ذاتية، ظلت مؤجلة سنة بعد أخرى، أنوي تدوينها عن طفولتي وحياتي مع الأدب والأدباء، والناس والأصدقاء الذين عرفتهم في أماكن شتى من العالم».. ويتطرق المؤلف إلى بداية تعرفه بالسياب، قائلاً: «كانت الأقدار وظروف الشعر هي التي قادتني إلى التعرف على السياب لأول مرة في دار المعلمين العالية وأنا طالب بجامعة بغداد عام 1957. والأقدار نفسها هي التي ساقتني ثانية لكي أراه ولآخر مرة وأشهد أيامه الأخيرة وموته في الكويت، وأشاهده راقدًا في المستشفى الأميري وهو مصاب بأمراض شتى حار بعلاجها الأطباء، وهو لا قِبل لجسمه النحيل الضعيف بتحملها. فقد وصل شبحًا وهيكلاً عظميًا لا يقوى على المشي ولا يتحرك إلا بمشقة، فأدخل المستشفى على الفور. ربما كنت الوحيد من الأدباء العراقيين - باستثناء الشاعر العراقي الكويتي محمد الفايز الذي شهد مأساة موته وأدرك عذابه ومحنته في غربته..
كان ذلك في أواخر عام 1957 حين دعونا السياب، أنا وزملائي في اللجنة الثقافية بدار المعلمين العالية، لإقامة أمسية شعرية، ونشرنا إعلانًا في الصحف العراقية عنها، لتكون دعوة عامة للجمهور. لبى السياب الدعوة بكل ترحاب، وقال: إنها فرصة له لتذكر أيامه في الكلية».
ثم يتذكر أطيمش أمسية نظمت للسياب في دار المعلمين العالية: «ما زلت أذكر تلك اللحظة التي اعتلى السياب فيها المنصة، مرتديًا بدلة رمادية فضفاضة، لم تكن مناسبة أبدا لجسمه النحيل، أخرج مجموعة أوراق من جيبه الأيمن الكبير، بدأ يرتب صفحاتها. وبدلاً من أن يضعها فوق الطاولة الخشبية أمامه ويقرأ بارتياح، فضل أن يمسك الأوراق بيديه تاركًا الطاولة، متقدمًا قليلاً على خشبة المسرح وبدأ يقرأ وهو واقف، رغم الألم الذي كان يتعب ركبتيه، والذي تطور لاحقًا بسبب إصابته بالسكري.
ألقى السياب مجموعة من قصائده، وعلى رأسها قصيدته المشهورة عن بورسعيد، وهي آخر قصائده الطويلة التي كتبها عام 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر.. كان صوته واهنًا ولكنه عميق تحس فيه حرارة المشاعر النابعة من صميم الوجدان، استمر يقرأ بطريقة مسرحية، ربما بدت غريبة وغير مألوفة للحاضرين الذين لم يعتادوا على رؤية شاعر يتمايل يمينا وشمالاً.. يروح ويجيء وسط خشبة المسرح، يمشي ويؤشر بيديه الممدودتين، رافعًا رأسه يديره من جهة إلى أخرى، كان يبدو كما لو كان هو وشعره فقط، ناسيا الجمهور أو كأنه خارج المكان والزمان. لاحظت بعض الطلبة يتهامسون مستغربين، ولكنهم كانوا يحسون بأنهم يسمعون شعرًا عظيمًا وأن داخل هذا الكيان الناحل الذي أمامهم لا بد أن تكون موهبة شعرية كبيرة..
حين انتهى السياب من القراءة، كان التعب باديا عليه، يتصبب عرقًا وما زال منفعلاً، فقد بذل جهدًا كبيرًا كي يحتفظ بتوازنه، كنت مشفقًا عليه وهو يروح ويجيء على المنصة، وكأنه شجرة آيلة للسقوط».



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟