«البشت الحساوي».. يتحدى الاندثار ويواصل تربعه على القمة

كلما حلت المناسبات السعيدة، خصوصا الأعياد والأعراس وغيرها من المناسبات، يظهر «البشت» المطرز بخيوط الذهب والفضة بأشكال مختلفة، وهو اللباس الذي يضفي على الرجال أناقة وجمالا.
وتعد الأحساء منذ عقود موطنا لصناعة وحياكة البشوت التي تباع بمبالغ باهظة لأنها تحاك يدويا. ومع ظهور ماكينات التصنيع فإن كلفة صناعة البشوت الحديثة تعتبر أقل، وهذا ما جعل البشت المصنع يدويا يحتفظ بقيمته مع مرور الزمن.
كثيرون رحلوا عن الدنيا من ممتهني صناعة البشوت، ومنهم من خلف وراءه جيلا من أبنائه للاستمرار في ممارسة هذه المهنة، ولكن آخرين لا يزالون على قيد الحياة ويرفضون أن يعلموا أبناءهم هذه الصنعة، ليس لأن هذه المهنة غير جيدة ولكن لأنها لم تعد مجزية في الوقت الراهن في ظل توفر الخيارات لدى الزبائن، على اعتبار أن الجيل الحالي ليس لديه صبر على التعب والإرهاق ويبحث عن الخيارات الأفضل، وبالتأكيد فإن حياكة البشوت والتجارة فيها ليست من ضمن الخيارات الأفضل إلا لأشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.
ومع التطور العمراني والتقدم الحضاري حاول بعض كبار ممتهني صناعة البشوت في الأحساء إيجاد موطئ قدم لهم في مدينة الدمام، أهم مدن المنطقة الشرقية ومركزها الحي والنشط على مدار العام، حيث بدأت عائلات أحسائية نشاطها في نقل هذه المهنة رغبة في المحافظة عليها على الأقل من الاندثار، إن بقيت متمركزة في محافظة الأحساء. ومن أبرز هذه العائلات البقشي والقطان والحرز، إلا أن هناك من يرفض هذا الوصف، ويؤكد أن الأحساء هي موطن البشوت، ولا يمكن أن تنتقل إلى مكان آخر مهما تكالبت الظروف، كما يقول جواد النجار لـ«الشرق الأوسط».
ويضيف النجار الذي يعد حاليا من أشهر صناع البشوت الأحسائية، أن «البشت الحساوي لا يزال له بريق في موطنه، وأنا حينما بدأت المهنة منذ أكثر من 50 سنة لا يزال لدي نفس العزيمة والإصرار على المواصلة رغم تقدمي في العمر، حيث إنني حاليا على أعتاب سن الثمانين، ورغم كل المشاكل الصحية الناتجة عن مواصلتي هذه المهنة فإنني لم أفكر يوما في تركها».
وعن أبرز الشخصيات التي يفصل لها البشوت الحساوية الفاخرة، يقول النجار «عدد من الأمراء والمسؤولين، حيث إنني فخور بكوني نلت ثقتهم منذ سنوات طويلة، كما أن الوالد - رحمه الله - كان يفصل بشوتا خاصة ومنسوجة بشكل مختلف للشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البحرين الراحل - رحمه الله - كما قام أحد أشقائي - رحمه الله - بتفصيل الكثير من البشوت لعدد من المسؤولين في البحرين أيضا، ولدي حاليا طلبات عدة لحياكة مشالح لشيوخ من مملكة البحرين، وأنا أعتز كثيرا بهذه الثقة، وهذا من أهم الأسباب التي تجعلني لا أفكر في ترك هذه المهنة رغم المشاكل الصحية».
وعن أسعار البشوت التي يبيعها قال النجار إن «الأسعار تبدأ من أربعة آلاف ريال، ومعظم عملائي من دولتي قطر والكويت، إضافة إلى السعودية والبحرين، وهناك شخصيات كبيرة وتجار من الرياض يأتون خصيصا إلى الأحساء من أجل تفصيل البشوت».
وشدد على أنه يحرص على تقديم الجودة العالية للزبائن قبل أن يفكر في السعر، مشيرا إلى أن تكلفة صناعة البشوت بكل خطواتها وأسعار المواد المستخدمة فيها تقترب كثيرا من سعرها الذي تباع به، وأن الربح قليل جدا، وهذا ما جعل أحد التجار الكبار يحجز كميات كبيرة، ومن ثم يقوم ببيعها بضعف سعر شرائها منه، مما يؤكد جودتها.
ويعرج النجار إلى أبرز العائلات التي كانت تمتهن صناعة البشوت بالقول «كانت عوائل القطان، والبقشي، والخرس، والحرز، أبرز هذه العائلات، ولكن بعد وفاة الآباء اتجه أبناؤهم إلى التجارة غير المحتكرة على بيع البشوت، وهذه العائلات توجهت للسكن في الدمام والمدن الأكثر نشاطا في المجال التجاري».
ويرفض النجار إجبار أبنائه على ممارسة هذه المهنة، مشيرا إلى أن الزمان تغير وأن أبناء الجيل الحالي لا يستطيعون تحمل التعب وليس لديهم الصبر الكافي، ومع ذلك يؤكد أنه كان حريصا على تعليم أبنائه أساسيات هذه المهنة.
ويختتم النجار حديثه بالقول إنه تعلم هذه المهنة بعد أن شارف عمره على 20 سنة، وهذا يعني أنه تعلمها في الكبر، حيث ذهب به والده لمحمد الغزال أحد الصناع قبل نصف قرن، وقد اكتسب على يديه المهنة لمدة ثلاث سنوات، براتب يصل إلى 500 ريال، وهو مبلغ كبير جدا في ذلك الوقت.
وعن مهنة البشوت يقول المهتم بالتراث الأحسائي المهندس عبد الله الشايب إن «البشت اسم فارسي لقطعة اللباس فوق الثوب ويصنع من الصوف أو الوبر». ويعرف البشت بأنه «هو قطعة من القماش تكسو الجسم من الأكتاف إلى الأقدام ومفتوحة من عند الرقبة إلى الأسفل، وفتحتا الأكمام ضيقتان وتطرز حواشي الفتحات بخيوط الزري».
ويعزو الشايب سبب شهرة البشت الحساوي بالدرجة الأولى إلى جودة صناعته وحياكته بطرق يدوية تحتاج لمهارة عالية وحرفية تامة ودقة متناهية، حيث تستغرق حياكته من 10 إلى 15 يوما للبشت الواحد.
وهناك تفاوت في ألوان البشوت، حسب فصول السنة الأربعة، فلكل فصل لونه وسماكته، تبعا لتقلب درجات الحرارة، إضافة إلى خيوط الزري، وهي خيوط حريرية تتخذ عادة اللونين الذهبي والفضي، ويتم استيرادها من ألمانيا وفرنسا، وأحيانا تستخدم خيوط البريسم الحريرية، وهناك مواد تقليدية تستورد من شرق آسيا والهند وغيرها، ولكن تعتبر أنواع الزري الألمانية هي الأكثر جودة والأكثر استخداما في البشوت الخاصة بالشخصيات الكبيرة، سواء الملوك أو الأمراء أو الشيوخ.
وتنقسم أسعار البشوت إلى قسمين، فهناك الأسعار الشعبية الأقل جودة، وهي التي تتراوح بين 1500 و3500 ريال، وأسعار التوصية ذات الجودة العالية التي تبدأ بـ4000 وتصل إلى 25 ألف ريال.
وينظر حمد الحمد أحد أبرز صناع البشوت المستمرين في الأحساء إلى مستقبل هذه المهنة نظرة «سلبية» جدا، حيث يعتقد أن الجيل الحالي لا يريد أن يعمل في المهن المتعبة، وهذا ما جعل الكثير من الصناع يتجهون إلى جلب العمالة الأجنبية التي يتم تعليمها وإكسابها المهنة أو الصنعة وأسرارها، وهي بالتأكيد لن تبقى طويلا في السعودية، ولكن من المؤسف أن العمالة هي التي قبلت باكتساب هذه المهنة من أصحابها، بينما أبناء الصناع الأصليين لا يريدون أن يتعلموا بل يريدون الراحة، ويمكن وصفهم بجيل «الإنترنت».
ويؤكد أن هناك تراجعا واضحا في المبيعات للبشوت الأصلية منذ 20 سنة، وهذا التراجع ناتج عن وجود صناعات تقليدية كثيرة بثمن أقل من الأصلية، ولكن في المقابل هناك من لا يزال مصرا على الحصول على الجودة من مصدرها الأصلي، وهذا سر التمسك بالمهنة، فلم يعد هناك من الصناع المهنيين من يبحث عن الربح أكثر من سعيه للحفاظ على هذه المهنة وحمايتها من الاندثار.
وبين أنه يتعامل مع أحد تجار البشوت الكبار في مدينة الدمام لتزويده بكميات محددة سنويا، ليقوم بتسويقها له، وهو يلاقي صعوبة في ذلك في الفترة الأخيرة، في ظل تراجع المهنيين، وكذلك بحث الكثيرين عن قلة السعر قبل البحث عن الجودة. وينفي المهندس الشايب الحديث عن انخفاض مردود المهنيين من صناعة البشوت، مؤكدا أن الأحساء تحافظ على مكانتها الكبيرة في هذه المهنة، وتعتبر هذه الصنعة ذات مردود كبير يصل إلى ملايين الريالات سنويا، وهذا كاف للرد على من يقول إن الأحساء بدأت تفقد مكانتها في هذه المهنة.
من جانبه، يقول عمار العمار، الذي يعد كذلك من أشهر الحرفيين في صناعة البشوت لكبار الشخصيات، ومن بينهم في قطر الشيخ حمد آل ثاني الأمير الوالد، إن «صناعة البشوت تواجه تحديا حقيقيا يتمثل في عزوف الشباب عنها، وهذا يعني أن هذه المهنة معرضة للاندثار».
ويضيف أن «هذه المهنة تفقد ممارسها الكثير من صحته في كل أنحاء الجسم، بداية من النظر وحتى أخمص القدمين، لذا لا يمكن للجيل الحالي أن يمارس مهنة متاعب تفقده صحته، ولكن المهني لا يمكن أن يفرط في مهنته بسهولة، ليس لأسباب تتعلق بالمكاسب المادية، بل لتعلقه بهذه المهنة التي ورث حبها من آبائه وأجداده، ولكن الوضع مختلف مع الجيل الحالي، مع وفرة المغريات والفرص الوظيفية وأبواب الرزق الكثيرة ولله الحمد». ويؤكد أن الثقة التي نالها من شخصيات كبيرة على مدى ما يقارب العقود الخمسة، تجعله يفخر بكونه مارس هذه المهنة، وهو يحرص على الوجود في أي محفل لإحياء أو تعزيز مكانة هذه المهنة أو الحرفة. ولا يرى أن العمل في هذه المهنة يعد أمرا مجزيا من الناحية المادية، قياسا بالمشقة التي يتكبدها الممارس، حيث يصاب بالكثير من الأمراض في العين والظهر والقدمين، ولكن في المقابل ليس من السهل تركها أو تغيير طريقة ممارستها، رغم وجود أجهزة حديثة يمكن أن تساعد في الصناعة، ولكن في النهاية ليس هناك شيء أكثر دقة من حرفية اليد.
وتبدأ حياكة البشت بعملية الترسيم، بحسب المقاسات، تليها عملية السراجة، وتوضع البطانة، وهي قطعة قماش أقرب إلى لون الزري للتقوية، ثم السموط أي الفراش، وبعد ذلك التركيب الفوقي للطوق، ثم تأتي مرحلة الهيلة، وهي حشو الزخرفة، وبعدها التركيب التحتي للداير، ثم البروج، وهي الأكثر كلفة من حيث التصنيع، نتيجة ارتفاع أسعار المواد المستخدمة فيها، وكذلك وجوب الدقة الشديدة في تركيبها، وبعد إنجاز البروج يتم تركيب الزري كنقشة أخيرة، والزري عبارة عن خيوط حريرية مستوردة تتخذ عادة لوني الذهب والفضة، وتأتي «البردخة» في المرحلة الأخيرة، حيث يوضع الزري المخاط على قطعة خشب ويتم طرقه بمطارق خاصة لصقله.
وأما أبرز نقشات البشوت، فهي الملكي، والمتوسع، والمروبع، والمخومس، وقابوس، والطابوق، والخلية، وهناك سبعة أنواع أخرى ليصل عدد النقشات إلى 14 نقشة. يشار إلى أن البشت الحساوي يعد من أرقى وأشهر أنواع البشوت في العالم، ولا ينافسه سوى نوعين هما «النجفي» و«الكشميري» من حيث الجودة والسعر.