فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا

الوعظ والوعظ المضاد في خطاب رئيسة حزب «البديل لألمانيا» اليميني

فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا
TT

فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا

فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا

لمع أخيرًا اسم جديد في سماء السياسة الأوروبية القومية اليمينية المتطرفة المعادية للاجئين والإسلام، هو اسم السياسية الألمانية فراوكه بيتري، زعيمة حزب «البديل لألمانيا». والمفارقة مع الزعيمة الجديدة أنها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عمّمت رسالة إلكترونية إلى أصدقائها تقول فيها إنها وزوجها الواعظ الكَنسي سفين بيتري، سيمشيان من الآن فصاعدًا في طريقين مختلفين. ومنذ ذلك الحين ما عاد سكان بلدة تاوتنهين - القريبة من مدينة لايبزيغ بأقصى شرق ألمانيا - يشاهدون بيتري كثيرًا في المدينة التي يلقى زوجها وعظه من على منصة كنيستها. بل، قبل يوم واحد من تاريخ تلك الرسالة، يوم الأحد بالضبط، كان على السياسية الشعبوية الألمانية، التي ترفع لواء العداء للاجئين والأجانب، أن تستمع إلى مواعظ زوجها في تلك الكنيسة. وقرأ سفين: «كنت ظمآن ورويتموني، وكنت غريبًا فآويتموني، وكنت عاريًا فكسيتموني».
ثم وعظ الناس بضرورة الترحيب باللاجئين، مقتبسًا كلمات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الشهيرة: «سنحقق ذلك!». ويعرف القس بالتأكيد أن زوجته كانت تعظ في الصحف بشعار «لا نريد أن نحقق ذلك!»، المناقض لشعار ميركل. وبعد ذلك، قال سفين بيتري للصحافة إنه لن يغلق بابه عندما يطرقه محتاج ذو نيات طيبة، وإن من يريد أن يأتي فليأت.
بيتري، السياسية الصاعدة على أكتاف اللاجئين، والباحثة في الكيمياء، ضحت هكذا بحياة زوجية طالت 14 سنة، وبمصير أربعة أطفال، مقابل تمسكها بسياستها المتطرفة التي تثير اشمئزاز كثيرين. وذكرت صحيفة «تزايت» الأسبوعية المعروفة أن مطلقها كان يعاني منذ سنوات، وأنه كان قبل «موعظة الانفصال» تلك يكتب الآراء نفسها على صفحته في موقع «فيسبوك»، وأن ما يكتبه عبارة عن برنامج مضاد لبرنامج «حزب البديل لألمانيا». ويذكر أنه قبل انتفاضته على الحزب اليميني القومي المتطرف، انضم سفين بيتري إلى الحزب الديمقراطي المسيحي، وهو الحزب الذي وصفته فراوكه بـ«حزب الكارتيل» مرة، وشكت زعيمته ميركل إلى المحكمة بتهمة «تهريب اللاجئين». ورغم استعداده الكبير لتقديم العون للاجئين، وصفت زوجته مرة المتطوعين لمساعدة اللاجئين بأنهم «مغفلو سخرة».
* «سيدة أعمال» مفلسة
ولدت فراوكه ماركهاردت (بيتري لاحقًا) يوم 1 يونيو (حزيران) 1975 قرب مدينة دريسدن عاصمة ولاية سكسونيا بشرق ألمانيا. ودرست شؤون الكيمياء في جامعة ريدينغ البريطانية قبل أن تحصل على الدكتوراه في الكيمياء في جامعة غوتينغن الألمانية العريقة. يذكر أنها ابنة أم تخصصت بالكيمياء، وأب مهندس، عاشا في ألمانيا الشرقية حتى فترة أشهر قليلة سبقت انهيار «جدار برلين» استغل فيها الأب زيارة عمل إلى برلين الغربية للبقاء.
لبيتري الكثير من المقالات والأبحاث في المجلات العلمية، ونالت 7 جوائز رسمية وغير رسمية نظير دراساتها وأبحاثها في الشؤون الكيماوية، وخصوصًا تطوير مادة كيماوية لاصقة لإطارات السيارات (اسمها هايدروبور). كذلك فإنها أسست شركة لإنتاج هذه المادة برأسمال قدره مليون يورو بالقرب من لايبزيغ، وأعلن إفلاس الشركة (10 عمال) قبل ثلاثة أيام من صعودها السياسي إلى برلمان سكسونيا عام 2014. ويومذاك رفعت النيابة العامة عليها قضية بتهمة «الإفلاس الاحتيالي»، ويقال إن شراء الشركة من قبل شركة بافارية أدى إلى إسقاط التهمة عنها.
وواقع الحال أن مرتّلة الكنائس وسيدة الأعمال «الناجحة» بيتري، بدأت نشاطها السياسي ضمن الجماعات الداعمة لحملة الحزب الديمقراطي المسيحي الانتخابية حتى عام 2012. وأسهمت بعد ذلك بتأسيس «حزب البديل لألمانيا» في عام 2013، وأصبحت واحدة من الثلاثي الذي يقود الحزب. ثم فازت بأصوات 60 في المائة من نواب الحزب في عام 2015، وأصبحت زعيمة الحزب منذ ذلك الحين. وجاء هذا الفوز بعد سنتين من الصراع بين الجناح القومي اليميني الذي تقوده، وجناح «الاقتصاديين الليبراليين» الذي كان يقوده الرجل الثاني في الحزب بيرند لوكه. ويعكس هذا الفوز نفوذها بين أعضاء الحزب بعد أن فازت في عام 2012 بجائزة «أنجح سيدة أعمال في عالم يسوده الرجال»، التي تمنحها ولاية سكسونيا.
* السلاح ضد اللاجئين
لا تختلف الشعارات الانتخابية لـ«حزب البديل لألمانيا»، وزعيمته بيتري، عن برنامج أي حزب قومي يميني متطرف آخر في أوروبا، بدءًا برئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وانتهاء برئيسة الوزراء البولندية بياته شيدوو. بل إن البرنامج الذي أُقرّ أخيرًا في مؤتمر الحزب في نهاية أبريل (نيسان) الماضي، ويحمل بصمات بيتري، يؤكد على المفاصل السائدة نفسها بين ممثلي اليمين المتطرف، وهي العداء للاجئين والأجانب، والوقوف ضد الوحدة الأوروبية، والدعوة للخروج من منطقة اليورو، والعداء للإسلام، ورفض القوانين التي تتيح الإجهاض.
من ناحية ثانية، تطالب بيتري دائمًا بوقف المزيد من إجراءات تعميق الوحدة الأوروبية، وتدعو إلى «ألمنة» ألمانيا. وتحدثت لصحيفة «تورينغن لانديستزايتونغ» عن ضرورات تقليص نفوذ الاتحاد الأوروبي، ودراسة أفضل سبل الخروج من منطقة اليورو. وأضافت أن الوحدة الأوروبية جرّدت ألمانيا من ديمقراطيتها وحريتها بالتدريج، ولا بد من العودة إلى الديمقراطية «الحقيقية».
وفي قضية اللاجئين والهجرة تعظ بيتري، من على منصة مؤتمر حزبها، من جديد مستخدمة كلمة «الحقيقية»، لأنها طالبت بالسماح «للاجئين الحقيقيين» فقط، ورفض اللاجئين «الاقتصاديين» و«السياحيين»، وفق تعبيرها. وطالبت بوضع ضوابط «حقيقية» ضد «إساءة استخدام حق اللجوء»، وحثت على ضرورة تقنين هجرة العمالة إلى أوروبا «بحسب الحاجة».
ولقد أثارت بيتري بتصريحاتها، التي تطالب باستخدام السلاح ضد اللاجئين، امتعاض بعض قادة حزبها من «الجناح الليبرالي» أيضًا، إذ إنها قالت لصحيفة «مانهايمر مورغن» في يناير (كانون الثاني) الماضي إن على شرطة الحدود «منع تسلل اللاجئين إلى ألمانيا وإن بقوة السلاح». ورد الباحث القانوني كريستوف شونبيرغر على هذا التصريح بالقول إن استخدام السلاح ممكن على الحدود، ولكن ليس ضد أناس عزّل.
* عداء واضح للإسلام
وفي المؤتمر الأخير صحّت التوقعات حول تكريس برنامج الحزب بالكامل لقضايا العداء للاجئين والإسلام. وضمّن الحزب برنامجه فقرات تشدد على أن «الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا»، وأنه «لا علاقة له بالديمقراطية»، وأكد على منع الحجاب في المدارس والدوائر، وحظر بناء منارات المساجد.
ولكن هل تفضل بيتري اسم «الشعبوي» أم «المعادي للإسلام» صفة لحزبها؟ تقول بيتري لا هذا ولا ذاك، لأن رفض الإسلام بالنسبة لها ليس أداة لاصطياد الناخبين اليمينيين بل هو وسيلة لمعالجة مشكلات ألمانيا، كما ذكرت في مقابلة مع تلفزيون «ن.ت.ف».
ووفق بيتري فإن الإسلام «يتناقض مع فقرات الدستور الألماني»، فلماذا لا تطالب بحظره رسميًا، لأن محكمة الدستور تحظر أي نشاط يتعارض مع الدستور؟ وهنا تجيب: «لأن المسلمين المندمجين جزء من ألمانيا ولا مانع من ممارستهم دينهم إذا كانوا يفعلون ذلك بشكل شخصي وسلمي».
في المقابل، في قضية المرأة تقف بيتري بوضوح إلى جانب الاحتفال بـ«يوم المرأة العالمي»، وتطالب بـ«كوتا» للنساء في الدوائر والبرلمانات والشركات، لكنها تقف بقوة ضد القانون رقم 218 الذي يتيح الإجهاض عند الضرورة. وتقول إن إلغاء هذه الفقرة فيه الحل لمشكلة قلة الولادات في ألمانيا، التي تعتبر صاحبة أقل معدل ولادات في العالم. وترى السياسية اليمينية المتطرفة أن على كل عائلة أن تنجب ثلاثة أطفال، وتعتبر نفسها من الروّاد هنا بحساب أن لديها أربعة أطفال. وعلى أي حال، يفسّر دارسو حياتها السياسية موقفها الإيجابي من «يوم المرأة العالمي» و«الكوتا» بتربيتها ونشأتها السابقة في ألمانيا الشرقية.
* ... ولليسار
ولن تصبح بيتري يمينية متطرفة «حقيقية» ما لم تتصف بالعداء لليسار الألماني وتخشى منه، لذلك فإنها لا تكل عن مطالبة الدولة الألمانية بكبح جماح اليسار. ولا تفرق بتري هنا بين اليسار «الحقيقي» الممثل في البرلمان الألماني والبرلمانات المحلية واليسار المتطرف، ولا بين الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي الديمقراطي ومنظمة «جناح الجيش الأحمر» المحظورة. فكلهم بالنسبة لها يسار ينبغي حظره.
وذكرت بيتري لتلفزيون «ن.ت.ف» أن الدولة الألمانية تحارب اليمين المتطرف، لكنها لا تفعل شيئًا ضد اليسار. وأضافت بضرورة منع تمويل الأحزاب اليسارية، وحرمانها من حق التظاهر. لماذا؟ لأن اليسار يواجهون مظاهرات حزبها ويشتمون أعضاءه. ومعروف أن المظاهرات المناهضة لمظاهرات حزب البديل لألمانيا تضم كل الأحزاب الأخرى في البرلمان، إضافة إلى ممثلي المنظمات الكنسية ومنظمات حقوق الإنسان.. إلخ.
من ناحية أخرى، تعاني بيتري - التي قد تعود إلى اسمها الأصلي ماركهاردت - بشكل دائم من الصحافة والصحافيين الذين لا يكفّون عن لعن حزبها وإظهاره بمظهر «الشيطان»، بحسب تعبيرها. فكل الصحافيين في نظرها «معادون لها».. و«تقطر أسئلتهم بالسم» أثناء المقابلات. وحقًا، اتهمت بيتري الصحافة الألمانية بـ«اللامهنية» والانحياز، مما استدعى رد نقابة الصحافيين الألمان عليها بالقول إن «سيدة حزب البديل لألمانيا لا تفهم فن الصحافة ولا تمتلك (بديلاً) عن أساليب المقاطعة ورفض الرد على الأسئلة». وردًا على قول بيتري إنها «تشعر بالألم» من تعامل الصحافة معها ومع حزبها، قال المتحدث الرسمي باسم نقابة الصحافيين هيندريك زورنر: «على من يشعر بالألم الذهاب إلى الطبيب».
وكانت بيتري قد خاضت قبل فترة قصيرة معركة صغيرة مع نقابة الصحافيين ضد مقدمة البرنامج الصباحي المشترك في قناتي التلفزيون الألماني الأولى والثانية، دنيا الحيالي (العراقية الأصل)، إذ اتهمت الزعيمة اليمينية دنيا خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة «ز.د.ف» بالكذب قائلة إنها «أنف بينوكيو»، وإنها منحازة ولا تفهم مبادئ الصحافة. وجاءت هذه الاتهامات بعد نيل الحيالي جائزة «الكاميرا الذهبية» لقاء تقاريرها المصورة حول «الأفكار اليمنية المتطرفة» في مظاهرات «حزب البديل لألمانيا».
بل وعمّمت بيتري بيانًا يتهم دنيا الحيالي بأنها «عاجزة عن الفصل بين عواطفها وعملها في تلفزيون يموّل نفسه من الضرائب المفروضة على المواطنين». وأضاف البيان أن الحيالي «تبدو ناشطة سياسية أكثر منها صحافية محترفة، لأنها تنشط أيضًا في تنظيمات تدافع عن اللاجئين». ومن ثم وقفت نقابة الصحافيين الألمان إلى جانب الزميلة، مطالبين كل الأحزاب بالتعامل بشكل ديمقراطي وعادل مع الصحافيين الذين ينقلون الحقيقة إلى المواطنين، دون أن يدسوا «أنوف بينوكيو فيها». وطالبت النقابة أيضًا كل الأحزاب الألمانية بالتعامل بعدالة مع الصحافيين الذين يؤدون واجبهم. ووصفت النقابة الحيالي بأنها صحافية محايدة ومحترفة استحقت التقدير لقاء عملها.
أيضًا، رفض توماس فورمان، مدير البرنامج الصباحي في «ز.د.ف»، وصف الحيالي بـ«الناشطة السياسية»، مشددًا على تجردها. وردّ فورمان على اتهام الحيالي بالعلاقة مع منظمة «احترام.. لا مكان للعنصرية» بالتساؤل: لماذا تنزعج بيتري من النشاط ضد العنصرية، إذا كانت غير عنصرية؟ وكانت الحيالي، في كلمتها عند تسلّمها الجائزة، قد عبرت عن قناعتها بأن من يرفع الشعارات العنصرية لا بد أن يكون عنصريًا.
* «الأحمر» و«الأخضر»
على صعيد آخر، يظهر الساسة الألمان دائما بربطات عنق، أو بقمصان أو تنورات ذات ألوان تعكس تلوناتهم السياسية. وهكذا يظهر وزير الخارجية فرانك - فالتر شتاينماير بربطة عنق حمراء تمثل لون حزبه الديمقراطي الاشتراكي، وكان الراحل هانز ديتريش غينشر يظهر دائمًا بربطة عنق صفراء تمثل لون حزبه الليبرالي. لكن بيتري تحاول قلب هذه المفاهيم الآن كما يبدو، لأنها ظهرت في مؤتمر حزبها الأخير في شتوتغارت بتنورة حمراء وسترة خضراء على قميص أبيض. وذكرت لوكالة الأنباء الألمانية لاحقًا أنها أرادت بذلك القول إنها قد «احتلت» هذه الألوان الآن، وإنها تريد لهذه الأحزاب أن تفهم أنها غير قادرة على إيقاف مسيرتها.



روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
TT

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد، الذي منذ أكثر من سنتين تشتعل حرب على تخومه وتهدد باتساع دائرتها وإيقاظ أشباح الماضي الذي قام المشروع الأوروبي بهدف وأده، وهذا بينما تتنامى داخل حدوده القوى التي منذ ثمانية عقود أفرزت أقسى الحروب التي شهدتها القارة في الأزمنة الحديثة. ولقد جاءت النتائج لتؤكد الصعود المطّرد للموجة اليمينية المتطرفة التي كانت قد أمسكت بزمام الحكم منذ سنتين في إحدى الدول الأعضاء الكبرى المؤسسة، إيطاليا، وأصبحت قاب قوسين من الوصول إلى سدّة الرئاسة الفرنسية... فيما بدت جذورها راسخة في العديد من البلدان الأعضاء الأخرى. ولكن، على الرغم من الصاعقة التي ضربت الصرح السياسي الفرنسي، ظل صعود هذه الموجة دون منسوب الطوفان الذي كانت تنذر به الاستطلاعات ويهدد - وفقاً لأفضل الاحتمالات - بجنوح المركب الأوروبي عن مساره التأسيسي. أمام هذا المشهد المعقد، كان القرار الأول الذي اتخذه البرلمان الجديد في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الفائت بعد انتخاب رئيسة له، تأكيد الدعم لأوكرانيا وترسيخ الانقسام الحاد بين الكتل السياسية الذي لم يشهد له مثيلاً منذ تأسيسه في عام 1979.

صور بارديلا مرفوعة خلال حملة الانتخابات الفرنسية (إيبا/شاترستوك)

يتّسم البرلمان الأوروبي الجديد الذي افتتح ولايته الاشتراعية العاشرة هذا الأسبوع في العاصمة البلجيكية بروكسل بكونه الأكثر تشرذماً، على صعيد الكتل التي تشكلت داخله بعد انتخابات التاسع من الشهر الماضي، والأكثر جنوحاً نحو اليمين. إذ أصبح أكثر من نصف أعضائه ينضوون تحت الرايات اليمينية المحافظة واليمينية المتطرفة. بيد أن عجز القوى المتطرفة عن الانصهار ضمن كتلة واحدة، أدّى إلى تشكيل 8 كتل سياسية، للمرة الأولى منذ عشرين سنة، تتصدرها كتلة الحزب الشعبي الأوروبي الذي يضمّ 26 في المائة من الأعضاء. وحقاً، ينذر هذا التشرذم بولاية يتخلّلها المزيد من النقاش الحاد، يصعب فيها التوازن عند الاستحقاقات الحسّاسة ويتعذّر الاتفاق، ذلك أن القوى المعتدلة التي كانت تشكل مجتمعة 70 في المائة من أعضاء البرلمان الأول عام 1979، ما عادت تمثّل اليوم أكثر من 45 في المائة فقط.

أهمية الاستقرار السياسي

تعدّ هذه الولاية على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للاستقرار السياسي داخل الاتحاد، خاصةً بعد صعود اليمين المتطرف والزلزال الذي نجم عن الانتخابات الأخيرة في فرنسا، حيث لا يزال المخاض مستمراً لتشكيل حكومة جديدة. وفي حين تجهد القوى المعتدلة للتأكيد بأنها تمكّنت من صدّ الموجة اليمينية المتطرفة - مع خشية كثيرين من أن تكون هذه آخر فرصة لقطع الطريق أمام الانقلاب السياسي الكبير - تكثّف هذه القوى مساعيها لفرض حظر على التعامل مع بعض القوى اليمينية المتطرفة التي تصنّفها قريبة من روسيا، وتعمل على منعها من تولّي مناصب حساسة في المؤسسات الأوروبية.

كتلة الحزب الشعبي الأوروبي تضم اليوم في البرلمان الجديد 188 عضواً، تليها كتلة الحزب الاشتراكي التي تتكوّن من 136 عضواً لا يتجاوزون نسبة 20 في المائة من المجموع للمرة الأولى منذ انطلاق البرلمان. وتأتي في المرتبة الثالثة كتلة «وطنيون من أجل أوروبا» اليمينية المتطرفة بـ84 عضواً، التي يقودها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وزعيمة «التجمّع الوطني» الفرنسي مارين لوبان، ثم تأتي في المرتبة الرابعة الكتلة اليمينية الأخرى التي تتزعمها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وتضمّ 87 عضواً تحت شعار «المحافظون والديمقراطيون من أجل أوروبا»... التي فشلت حتى الآن كل محاولات ضمّها إلى كتلة الحزب الشعبي الأوروبي. أما الكتلة الأخيرة التي تتجاوز بقليل 10 في المائة من مجموع أعضاء البرلمان، فهي الكتلة الليبرالية الوسطية، التي كانت أكبر الخاسرين في الانتخابات الأخيرة بعدما فقدت المرتبة الثالثة التي كانت تحتلها عادةً بين الكتل السياسية في البرلمان الأوروبي.

"تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان"

البرلمان الأكثر جنوحاً نحو اليمين

بذلك يكون هذا البرلمان الجديد الأكثر جنوحاً نحو اليمين في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ويبقى الذكور يشكلون فيه أكثرية الأعضاء (60 في المائة)، مع أن بعض البلدان، مثل قبرص، لم تنتخب أي رجل للبرلمان الجديد، بينما تشكّل النساء ثلث الأعضاء المنتخبين في كلٍ من ألمانيا وإيطاليا.

من ناحية أخرى، كان التطور اللافت والمفاجئ في المعسكر اليميني المتطرف نجاح رئيس الوزراء المجري أوربان في لمّ شمل القوى اليمينية المتطرفة القريبة من موسكو ضمن كتلة برلمانية جديدة «وطنيون من أجل أوروبا». ولقد قامت هذه الكتلة على أنقاض كتلة «الهوية والديمقراطية»، وتضمّ كلاً من الحزب الليبرالي النمساوي و«التحالف المدني» الذي يقوده رئيس الوزراء التشيكي السابق أندريه بابيس، إلى جانب حزب «فوكس» الإسباني، وحزب «الرابطة» الإيطالي بزعامة ماتّيو سالفيني، واليمين الهولندي المتطرف، وحزب «التجمع الوطني» الفرنسي بزعامة مارين لوبان.

ويعود الفضل في تشكيل هذه الكتلة الجديدة، التي تعمّدت تهميش رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى أوربان وحلفائه في أوروبا الشرقية. ويهدف هذا التجمع الجديد إلى التأثير في سياسات البرلمان الأوروبي وعرقلة مشروع الاندماج الذي يتجه نحو توسعة جديدة للاتحاد تشمل دول البلقان وبعض بلدان القوقاز، إلى جانب أوكرانيا.

رئيس الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني (رويترز)

دور فيكتور أوربان

وتأتي هذه الخطوة أيضاً، وسط تزايد القلق بين الشركاء الأوروبيين من الدور الذي يلعبه فيكتور أوربان في الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد، وجولاته على كييف وموسكو وبكين في «مهمة سلام» لم تكلفه بها الدول الأعضاء التي وجهت إليه انتقادات شديدة واتهمته بخدمة مصالح الكرملين، وبدأت أخيراً بمقاطعة الاجتماعات الوزارية التي تنظمها الرئاسة المجرية.

هذا، وكان «التجمّع الوطني» الفرنسي الذي تقوده لوبان، والذي يشكّل القوة الرئيسية في هذه الكتلة الجديدة بعد حصوله على 30 مقعداً في انتخابات الشهر الماضي، قد تريّث في الإعلان عن انضمامه إلى الكتلة في انتظار نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الاشتراعية الفرنسية التي كان يأمل أن يحصل فيها على الغالبية المطلقة ويكلّف نجمه الصاعد الشاب جوردان بارديلا تشكيل الحكومة الجديدة. إلا أنه بعد ظهور النتائج النهائية للانتخابات الفرنسية وتراجع «التجمع الوطني» إلى المرتبة الثالثة، صرّح بارديلا - الذي كان قد انتُخب عضواً في البرلمان الأوروبي – بـ«أن أعضاء (التجمع الوطني) في البرلمان الأوروبي الجديد سيلعبون دورهم كاملاً ضمن كتلة كبيرة سيكون لها تأثير واضح على موازين السلطة ومعادلاتها في أوروبا». وتعهّد بارديلا، بالتالي، مواصلة العمل من أجل «منع إغراق بلدان الاتحاد بالمهاجرين، ورفض السياسات البيئية المتطرفة، ومصادرة السيادة الوطنية».

وما يُذكر أنه على الرغم من تغيّب بارديلا عن الاجتماع التأسيسي للكتلة الجديدة، فإنه انتُخب رئيساً لها بالإجماع، يعاونه ستة نواب للرئيس، تبرز من بينهم المجرية كينغا غال كنائبة أولى.

تشكيك بإمكانية توحيد اليمين

في أي حال، تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة هذه الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان الجديد، وتستبعد نجاحها في العمل بتوجيهات موحدة في ضوء اختلاف مصالحها وأهدافها الخاصة. وكانت الكتلة السابقة «الهوية والديمقراطية»، التي قامت على أنقاضها الكتلة الجديدة، وكان ينتمي إليها حزب «البديل من أجل ألمانيا» - الذي طُرد منها بسبب التصريحات النازية لزعيمه - دائماً معزولة من القوى البرلمانية الأخرى، بما فيها الكتلة التي تتزعمها ميلوني. وهنا نشير إلى أنه رغم الانسجام العريض بين مواقف ميلوني ومواقف أوربان من معظم الملفات الأوروبية، فإن الزعيمين يختلفان بوضوح حول الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ إذ تصطف ميلوني ضمن الموقف الرسمي للاتحاد، بعكس حليفها اللدود في الائتلاف الحكومي الذي ينافسها على زعامة المعسكر اليميني المتطرف في إيطاليا، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني.

جدير بالذكر، أن البرلمان الأوروبي الجديد انتخب في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الماضي المالطية روبرتا متسولا، من الحزب الشعبي، رئيسة لنصف الولاية الاشتراعية حتى مطلع عام 2027. ونالت متسولا، التي كانت ترأس البرلمان السابق منذ وفاة الإيطالي دافيد ساسولي، 562 صوتاً من أصل 720، وهذا رقم قياسي لم يحصل عليه أي من الرؤساء السابقين؛ الأمر الذي يدلّ على أنها حصلت أيضاً على تأييد عدد من نواب اليمين المتطرف بجانب تأييد الكتلتين الكبريين اللتين تتوافقان عادة على توزيع المناصب القيادية في مؤسسات الاتحاد.

ولقد قالت متسولا في كلمتها قبل البدء بالاقتراع السري: «أدعوكم إلى التمسك والالتزام بمبادئنا وقيمنا التأسيسية، والدفاع عن سيادة القانون، وعن الإنسانية في الشرق الأوسط ورفض اجتياح أوكرانيا». وشددت، كما فعلت عند انتخابها للمرة الأولى، على إعطاء البرلمان الأوروبي صلاحية اقتراح التشريعات المقصورة حالياً على المفوضية.