من التاريخ: الحرب البريطانية ـ الأميركية 1812

الرئيس جيمس ماديسون
الرئيس جيمس ماديسون
TT

من التاريخ: الحرب البريطانية ـ الأميركية 1812

الرئيس جيمس ماديسون
الرئيس جيمس ماديسون

شهد عام 1812 اندلاع واحدة من أغرب الحروب في التاريخ الحديث هي «الحرب البريطانية الأميركية». ولقد اندلعت في وقت كانت أوروبا غارقة في الحروب النابليونية المتتالية، بعدما سيطرت فرنسا على مساحات شاسعة من القارة، وكانت تعد لغزو روسيا، ووسط هذا الجهد العسكري وجّهت بريطانيا جيوشها إلى أميركا الشمالية مرة أخرى بعد حرب استقلال الولايات المتحدة.
وواقع الأمر أن بريطانيا لم تكن الدولة التي أعلنت هذه الحرب بل كان وراء الإعلان الكونغرس الأميركي عندما صوت مجلس الشيوخ لصالح الحرب بغالبية 19 صوتًا مقابل 13 عارضوها. وفي مجلس النواب جاءت النتيجة أيضًا بالغالبية 79 صوتًا مقابل 49. وعلى الرغم من ذلك، فإن السلوك البريطاني كان السبب الرئيسي وراء إعلان الأميركيين الحرب، وذلك بسبب إقدام بريطانيا على تفتيش السفن التجارية الأميركية المتوجهة إلى فرنسا، وفرض رسوم جمركية على البضائع الخاصة بها، فضلاً عن تحرشات ممتدة مع البحرية الأميركية انتهت في إحدى المرات بضرب فرقاطة أميركية وقتل ثلاثة من طاقمها، والقبض على عدد من المجندين البريطانيين الهاربين من التجنيد.
استمر هذا السلوك البريطاني المتغطرس المُغطى بدوافع حربية ضد فرنسا، وهو ما أدخل الدولتين في حرب ممتدة استمرت قرابة السنتين.
من الثابت أن الرئيس الأميركي (يومذاك) جيمس ماديسون، الذي يعد من أبرز المشاركين في كتابة الدستور الأميركي، لم يكن راضيًا عن هذه فكرة الحرب لأنه كان يرى أن الدولة الأميركية ما زالت فتية وتفتقر إلى القدرات العسكرية لمواجهة أقوى الجيوش العالمية، ناهيك بأن جيشها النظامي لم يكن مستعدًا للحرب.
غير أن الضغوط من النخبة الحاكمة كانت قوية ومدفوعة بفكرة التوسّع شمالاً في كندا البريطانية ونحو الغرب على حساب السكان الأصليين (الهنود الحمر)، الذين كانت بريطانيا تدعمهم بالسلاح. وهو ما دفع الرئيس المغلوب على أمره إلى توجيه رسالة إلى الكونغرس يدق فيها طبول الحرب التي لم تكن بلاده قادرة عليها في حقيقة الأمر.
أما الجانب البريطاني فقد كان جهده العسكري منصبًا على القارة الأوروبية، ومع ذلك استطاع أن يحشد الجيش تلو الآخر لمحاربة الولايات المتحدة، خصوصا أن مرارة الهزيمة العسكرية إبان «حرب الاستقلال الأميركي» كانت لا تزال عالقة في الأذهان والوجدان على حد سواء. ولذا، رأت لندن أن هذه فرصة سانحة لها للاستيلاء على أجزاء من الولايات المتحدة ومحاصرتها عبر تحالف قوي مع قبائل السكان الأصليين، الذين بدأوا ينظمون صفوفهم تحت قيادة قائدهم الفذ تيكومسي، زعيم قبائل الشاووني، فيما يشبه الكونفدرالية الهندية المنظمة. وكانت فرص الانتصار وأطماع المكسب وراء توجيه الجهد العسكري البريطاني المكثف نحو الولايات المتحدة.
وكما كان الرئيس ماديسون يتوقع، بدا الجيش الأميركي لبعض الوقت عاجزًا عن تحقيق النصر. وبدأ ذلك واضحًا من خلال الحملات الثلاث التي أقرها لانتزاع كندا من أيدي البريطانيين الذين لم يجلوا عنها بعد «حرب الاستقلال»، إذ انتهت الحملات الثلاث بالفشل التام بسبب القيادة العسكرية الهزيلة وسوء خطوط التموين والاتصالات المتقطعة. أيضًا كان الجهد الحربي للهنود الحمر حاسمًا في ترجيح كفة البريطانيين، وهكذا حققت القوات البريطانية انتصارات حاسمة معظمها بفضل قيادتها العسكرية الرشيدة ممثلة بالجنرال إيزاك بروك Brock، ولكن بروك سرعان ما قُتل في آخر المعارك (معركة كوينزتون هايتس)، وباتت القوات البريطانية تعاني أيضًا من فقر القيادات كنظيرتها الأميركية تمامًا، لا سيما أن كبار الجنرالات البريطانيين كانوا يحاربون مع القائد الكبير آرثر ويلينغتون في القارة الأوروبية ضد فرنسا.
رغم الهزائم الأميركية المتتالية، فإن الأميركيين توجهوا نحو المعارك البحرية في البحيرات الكبرى التي تفصل بين كندا والولايات المتحدة خاصة بحيرة إري Erie، حيث استطاعت البحرية الأميركية أن تهزم الأسطول البريطاني المرابط هناك، وهو ما أتاح لها إنشاء خطوط تموين وضخ مستمر للقوات من البحيرات، فاضطر البريطانيون للانسحاب نحو الشمال. هذا القرار أدى ذلك لخلافات بين تيكومسي والقيادة البريطانية، إذ أصر الأول على الصمود ومواجهة القوات الأميركية التالية، بينما رفض البريطانيون هذا الطرح من الأساس، وتركوه ليواجه مصيره وحده. وبالنتيجة قتل القائد الهندي الأحمر وتفتت وحدة تحالفه القتالي، وخسر البريطانيون حليفًا قويًا كان قادرًا على إدارة دفة الحرب لصالحهم.
مع هذا فشلت القوات الأميركية تباعًا في الاستيلاء على مدينتي مونتريال وكيبيك الكنديتين بسبب ضعفها وانقساماتها. ولكن في المقابل، لم تكن بريطانيا قادرة على الدفع بثقلها الحربي لحسم هذه الحرب بسبب انشغالها بالجبهة الأوروبية. وهذا ما وفر للأميركيين فرصة تجهيز جيشهم بصورة أفضل تحت قيادات شابة.
في هذه الأثناء، ظل الرئيس الأميركي محتاطًا من خطورة انتهاء الحرب الأوروبية الوشيكة بعد هزيمة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، لأن هذا كان سيعني تفرغ بريطانيا لمحاربة الولايات المتحدة. ولذا وافق على بدء مفاوضات مع لندن، تأجلت بعض الشيء بسبب غطرسة البريطانيين وشعورهم بضرورة تعزيز وجودهم العسكري في أميركا من أجل السيطرة على المفاوضات وتوجيه مسارها لصالحهم. وهنا أسهمت الانتصارات المحدودة للبحرية الأميركية على نظيرتها البريطانية في تقوية عزيمة الأميركيين للمواجهات المقبلة.
بعدها دفعت لندن حملة تلو أخرى، ونقلت الحرب من البحار وكندا إلى قلب الولايات المتحدة، وشنت حملة عسكرية قوية في الشرق الأميركي استطاعت احتلال العاصمة واشنطن، وأحرقتها تمامًا في مشهد مأسوي لم يتكرّر في تاريخ الولايات المتحدة. وعندها اضطرت الحكومة الأميركية للانسحاب معيدة إلى الأذهان انسحاب الكونغرس من فيلادلفيا إبان «حروب الاستقلال» ضد العدو نفسه. وهكذا بدأت الولايات المتحدة تواجه تعقيدات كثيرة، وهي انحسار قوتها العسكرية وتمركزها في الشمال مع انهيار العاصمة، فضلاً عن حالة اقتصادية متردية لوجود البحرية البريطانية قبالة السواحل الأميركية الشرقية ومحاصرتها للبلاد. أما العامل الأهم فكان بداية ظهور توجه خاصة في الولايات الشمالية الشرقية التي كانت ضد الحرب - يطالب بالانسحاب من الاتحاد الأميركي.
وهنا لعب القدر دوره من خلال معركتين حربيتين فاصلتين غيرتا مجرى الحرب: الأولى عندما استطاعت البحرية الأميركية المرابطة في خليج بلاتسبورغ (في بحيرة شامبلان بشمال ولاية نيويورك) صد الهجوم البحري البريطاني الذي كان كفيلاً بفتح باب التموين والإمداد للجيوش المتتالية لغزو الولايات المتحدة من الشرق. والثانية كانت حول حصن ماكهنري في مدينة بولتيمور، إذ صمد هذا الحصن البحري أمام الهجمات البريطانية المتتالية، فأوقف أي تقدم بريطاني ودفع البريطانيين للانسحاب من هذه المنطقة بحريًا، وأنهى إمكانية التموين والإمدادات لقواتهم تمامًا.
وتزامن مع ذلك تحرك سريع من قبل الولايات المتحدة لتعزيز وجودها العسكري لمواجهة القوات البريطانية، بما جعل في استطاعتها أن وقف أي تقدم بريطاني نحو الغرب. وكانت آخر المحاولات البريطانية الجادة محاولة غزو الجنوب الأميركي من نيو أورليانز (ولاية لويزيانا)، عندما بعثت بحملة قوامها أكثر من خمسة آلاف جندي، لكن واشنطن أرسلت على الفور قائدًا شرسًا - تولى الرئاسة الأميركية بعد ذلك - هو الجنرال آندرو جاكسون، الذي أفلح بتنظيم الصفوف وحشد الجيش اللازم من الميليشيات المختلفة من الهنود والعبيد والمواطنين، واستطاع صد المحاولة البريطانية لعبور نهر الميسيسيبي، وألحق هزيمة ساحقة بالبريطانيين.
كانت نتيجة هذه التحركات العسكرية موافقة بريطانيا على إنهاء الحرب، متخلية عن الشروط التي كانت وضعتها في مطلع المفاوضات بالاستيلاء على الشمال الشرقي الأميركي وإقامة دولة الهنود الحمر في الغرب، ووقعت «اتفاقية غنت» بين الدولتين لتعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب وتضع نهاية لهذه الحرب الغريبة.
مشهد هذه الحرب يعيد إلى الأذهان خطورة الاندفاع نحو إعلان حرب لا تستطيع الدولة التي تعلنها الانتصار فيها إلا بشق الأنفس، ولكن هذه الحرب كانت في واقع الأمر السبب الرئيسي الذي دفع الساسة الأميركيين للعمل على إنشاء جيش نظامي قوي وأسطول بحري قادر على حماية الدولة بشكل منظم، وهي العقيدة السياسية التي لم تحد عنها الولايات المتحدة حتى اليوم. كذلك أوضحت هذه الحرب خطورة الاعتماد على قادة مفلسين عسكريًا، كما عُدت تقويضًا للأطروحة السياسية الدائرة في الأوساط الأكاديمية التي تزعم أن «الديمقراطيات لا تحارب بعضها»، فهذا مثال على أن الديمقراطيات تحارب بعضها لو أن السياسة الدولية تخرجها من نمط التحالف الذي شاهدناه في القرن العشرين.
ورغم سعي الجميع لمحاولة نسيان هذه الحرب غير الضرورية والغريبة فالطريف فيها أنها شهدت كتابة النشيد الوطني الأميركي على أيدي أحد الصحافيين الأميركيين أثناء متابعته معركة فورت ماكهنري، إذ كتب قصيدة تقرر تلحينها لتصبح النشيد الوطني الأميركي، الذي ينتهي بكلمات «أرض الأحرار وموطن الشجعان».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.