من التاريخ: الحرب البريطانية ـ الأميركية 1812

الرئيس جيمس ماديسون
الرئيس جيمس ماديسون
TT

من التاريخ: الحرب البريطانية ـ الأميركية 1812

الرئيس جيمس ماديسون
الرئيس جيمس ماديسون

شهد عام 1812 اندلاع واحدة من أغرب الحروب في التاريخ الحديث هي «الحرب البريطانية الأميركية». ولقد اندلعت في وقت كانت أوروبا غارقة في الحروب النابليونية المتتالية، بعدما سيطرت فرنسا على مساحات شاسعة من القارة، وكانت تعد لغزو روسيا، ووسط هذا الجهد العسكري وجّهت بريطانيا جيوشها إلى أميركا الشمالية مرة أخرى بعد حرب استقلال الولايات المتحدة.
وواقع الأمر أن بريطانيا لم تكن الدولة التي أعلنت هذه الحرب بل كان وراء الإعلان الكونغرس الأميركي عندما صوت مجلس الشيوخ لصالح الحرب بغالبية 19 صوتًا مقابل 13 عارضوها. وفي مجلس النواب جاءت النتيجة أيضًا بالغالبية 79 صوتًا مقابل 49. وعلى الرغم من ذلك، فإن السلوك البريطاني كان السبب الرئيسي وراء إعلان الأميركيين الحرب، وذلك بسبب إقدام بريطانيا على تفتيش السفن التجارية الأميركية المتوجهة إلى فرنسا، وفرض رسوم جمركية على البضائع الخاصة بها، فضلاً عن تحرشات ممتدة مع البحرية الأميركية انتهت في إحدى المرات بضرب فرقاطة أميركية وقتل ثلاثة من طاقمها، والقبض على عدد من المجندين البريطانيين الهاربين من التجنيد.
استمر هذا السلوك البريطاني المتغطرس المُغطى بدوافع حربية ضد فرنسا، وهو ما أدخل الدولتين في حرب ممتدة استمرت قرابة السنتين.
من الثابت أن الرئيس الأميركي (يومذاك) جيمس ماديسون، الذي يعد من أبرز المشاركين في كتابة الدستور الأميركي، لم يكن راضيًا عن هذه فكرة الحرب لأنه كان يرى أن الدولة الأميركية ما زالت فتية وتفتقر إلى القدرات العسكرية لمواجهة أقوى الجيوش العالمية، ناهيك بأن جيشها النظامي لم يكن مستعدًا للحرب.
غير أن الضغوط من النخبة الحاكمة كانت قوية ومدفوعة بفكرة التوسّع شمالاً في كندا البريطانية ونحو الغرب على حساب السكان الأصليين (الهنود الحمر)، الذين كانت بريطانيا تدعمهم بالسلاح. وهو ما دفع الرئيس المغلوب على أمره إلى توجيه رسالة إلى الكونغرس يدق فيها طبول الحرب التي لم تكن بلاده قادرة عليها في حقيقة الأمر.
أما الجانب البريطاني فقد كان جهده العسكري منصبًا على القارة الأوروبية، ومع ذلك استطاع أن يحشد الجيش تلو الآخر لمحاربة الولايات المتحدة، خصوصا أن مرارة الهزيمة العسكرية إبان «حرب الاستقلال الأميركي» كانت لا تزال عالقة في الأذهان والوجدان على حد سواء. ولذا، رأت لندن أن هذه فرصة سانحة لها للاستيلاء على أجزاء من الولايات المتحدة ومحاصرتها عبر تحالف قوي مع قبائل السكان الأصليين، الذين بدأوا ينظمون صفوفهم تحت قيادة قائدهم الفذ تيكومسي، زعيم قبائل الشاووني، فيما يشبه الكونفدرالية الهندية المنظمة. وكانت فرص الانتصار وأطماع المكسب وراء توجيه الجهد العسكري البريطاني المكثف نحو الولايات المتحدة.
وكما كان الرئيس ماديسون يتوقع، بدا الجيش الأميركي لبعض الوقت عاجزًا عن تحقيق النصر. وبدأ ذلك واضحًا من خلال الحملات الثلاث التي أقرها لانتزاع كندا من أيدي البريطانيين الذين لم يجلوا عنها بعد «حرب الاستقلال»، إذ انتهت الحملات الثلاث بالفشل التام بسبب القيادة العسكرية الهزيلة وسوء خطوط التموين والاتصالات المتقطعة. أيضًا كان الجهد الحربي للهنود الحمر حاسمًا في ترجيح كفة البريطانيين، وهكذا حققت القوات البريطانية انتصارات حاسمة معظمها بفضل قيادتها العسكرية الرشيدة ممثلة بالجنرال إيزاك بروك Brock، ولكن بروك سرعان ما قُتل في آخر المعارك (معركة كوينزتون هايتس)، وباتت القوات البريطانية تعاني أيضًا من فقر القيادات كنظيرتها الأميركية تمامًا، لا سيما أن كبار الجنرالات البريطانيين كانوا يحاربون مع القائد الكبير آرثر ويلينغتون في القارة الأوروبية ضد فرنسا.
رغم الهزائم الأميركية المتتالية، فإن الأميركيين توجهوا نحو المعارك البحرية في البحيرات الكبرى التي تفصل بين كندا والولايات المتحدة خاصة بحيرة إري Erie، حيث استطاعت البحرية الأميركية أن تهزم الأسطول البريطاني المرابط هناك، وهو ما أتاح لها إنشاء خطوط تموين وضخ مستمر للقوات من البحيرات، فاضطر البريطانيون للانسحاب نحو الشمال. هذا القرار أدى ذلك لخلافات بين تيكومسي والقيادة البريطانية، إذ أصر الأول على الصمود ومواجهة القوات الأميركية التالية، بينما رفض البريطانيون هذا الطرح من الأساس، وتركوه ليواجه مصيره وحده. وبالنتيجة قتل القائد الهندي الأحمر وتفتت وحدة تحالفه القتالي، وخسر البريطانيون حليفًا قويًا كان قادرًا على إدارة دفة الحرب لصالحهم.
مع هذا فشلت القوات الأميركية تباعًا في الاستيلاء على مدينتي مونتريال وكيبيك الكنديتين بسبب ضعفها وانقساماتها. ولكن في المقابل، لم تكن بريطانيا قادرة على الدفع بثقلها الحربي لحسم هذه الحرب بسبب انشغالها بالجبهة الأوروبية. وهذا ما وفر للأميركيين فرصة تجهيز جيشهم بصورة أفضل تحت قيادات شابة.
في هذه الأثناء، ظل الرئيس الأميركي محتاطًا من خطورة انتهاء الحرب الأوروبية الوشيكة بعد هزيمة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، لأن هذا كان سيعني تفرغ بريطانيا لمحاربة الولايات المتحدة. ولذا وافق على بدء مفاوضات مع لندن، تأجلت بعض الشيء بسبب غطرسة البريطانيين وشعورهم بضرورة تعزيز وجودهم العسكري في أميركا من أجل السيطرة على المفاوضات وتوجيه مسارها لصالحهم. وهنا أسهمت الانتصارات المحدودة للبحرية الأميركية على نظيرتها البريطانية في تقوية عزيمة الأميركيين للمواجهات المقبلة.
بعدها دفعت لندن حملة تلو أخرى، ونقلت الحرب من البحار وكندا إلى قلب الولايات المتحدة، وشنت حملة عسكرية قوية في الشرق الأميركي استطاعت احتلال العاصمة واشنطن، وأحرقتها تمامًا في مشهد مأسوي لم يتكرّر في تاريخ الولايات المتحدة. وعندها اضطرت الحكومة الأميركية للانسحاب معيدة إلى الأذهان انسحاب الكونغرس من فيلادلفيا إبان «حروب الاستقلال» ضد العدو نفسه. وهكذا بدأت الولايات المتحدة تواجه تعقيدات كثيرة، وهي انحسار قوتها العسكرية وتمركزها في الشمال مع انهيار العاصمة، فضلاً عن حالة اقتصادية متردية لوجود البحرية البريطانية قبالة السواحل الأميركية الشرقية ومحاصرتها للبلاد. أما العامل الأهم فكان بداية ظهور توجه خاصة في الولايات الشمالية الشرقية التي كانت ضد الحرب - يطالب بالانسحاب من الاتحاد الأميركي.
وهنا لعب القدر دوره من خلال معركتين حربيتين فاصلتين غيرتا مجرى الحرب: الأولى عندما استطاعت البحرية الأميركية المرابطة في خليج بلاتسبورغ (في بحيرة شامبلان بشمال ولاية نيويورك) صد الهجوم البحري البريطاني الذي كان كفيلاً بفتح باب التموين والإمداد للجيوش المتتالية لغزو الولايات المتحدة من الشرق. والثانية كانت حول حصن ماكهنري في مدينة بولتيمور، إذ صمد هذا الحصن البحري أمام الهجمات البريطانية المتتالية، فأوقف أي تقدم بريطاني ودفع البريطانيين للانسحاب من هذه المنطقة بحريًا، وأنهى إمكانية التموين والإمدادات لقواتهم تمامًا.
وتزامن مع ذلك تحرك سريع من قبل الولايات المتحدة لتعزيز وجودها العسكري لمواجهة القوات البريطانية، بما جعل في استطاعتها أن وقف أي تقدم بريطاني نحو الغرب. وكانت آخر المحاولات البريطانية الجادة محاولة غزو الجنوب الأميركي من نيو أورليانز (ولاية لويزيانا)، عندما بعثت بحملة قوامها أكثر من خمسة آلاف جندي، لكن واشنطن أرسلت على الفور قائدًا شرسًا - تولى الرئاسة الأميركية بعد ذلك - هو الجنرال آندرو جاكسون، الذي أفلح بتنظيم الصفوف وحشد الجيش اللازم من الميليشيات المختلفة من الهنود والعبيد والمواطنين، واستطاع صد المحاولة البريطانية لعبور نهر الميسيسيبي، وألحق هزيمة ساحقة بالبريطانيين.
كانت نتيجة هذه التحركات العسكرية موافقة بريطانيا على إنهاء الحرب، متخلية عن الشروط التي كانت وضعتها في مطلع المفاوضات بالاستيلاء على الشمال الشرقي الأميركي وإقامة دولة الهنود الحمر في الغرب، ووقعت «اتفاقية غنت» بين الدولتين لتعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب وتضع نهاية لهذه الحرب الغريبة.
مشهد هذه الحرب يعيد إلى الأذهان خطورة الاندفاع نحو إعلان حرب لا تستطيع الدولة التي تعلنها الانتصار فيها إلا بشق الأنفس، ولكن هذه الحرب كانت في واقع الأمر السبب الرئيسي الذي دفع الساسة الأميركيين للعمل على إنشاء جيش نظامي قوي وأسطول بحري قادر على حماية الدولة بشكل منظم، وهي العقيدة السياسية التي لم تحد عنها الولايات المتحدة حتى اليوم. كذلك أوضحت هذه الحرب خطورة الاعتماد على قادة مفلسين عسكريًا، كما عُدت تقويضًا للأطروحة السياسية الدائرة في الأوساط الأكاديمية التي تزعم أن «الديمقراطيات لا تحارب بعضها»، فهذا مثال على أن الديمقراطيات تحارب بعضها لو أن السياسة الدولية تخرجها من نمط التحالف الذي شاهدناه في القرن العشرين.
ورغم سعي الجميع لمحاولة نسيان هذه الحرب غير الضرورية والغريبة فالطريف فيها أنها شهدت كتابة النشيد الوطني الأميركي على أيدي أحد الصحافيين الأميركيين أثناء متابعته معركة فورت ماكهنري، إذ كتب قصيدة تقرر تلحينها لتصبح النشيد الوطني الأميركي، الذي ينتهي بكلمات «أرض الأحرار وموطن الشجعان».



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.