من التاريخ: الحرب البريطانية ـ الأميركية 1812

الرئيس جيمس ماديسون
الرئيس جيمس ماديسون
TT

من التاريخ: الحرب البريطانية ـ الأميركية 1812

الرئيس جيمس ماديسون
الرئيس جيمس ماديسون

شهد عام 1812 اندلاع واحدة من أغرب الحروب في التاريخ الحديث هي «الحرب البريطانية الأميركية». ولقد اندلعت في وقت كانت أوروبا غارقة في الحروب النابليونية المتتالية، بعدما سيطرت فرنسا على مساحات شاسعة من القارة، وكانت تعد لغزو روسيا، ووسط هذا الجهد العسكري وجّهت بريطانيا جيوشها إلى أميركا الشمالية مرة أخرى بعد حرب استقلال الولايات المتحدة.
وواقع الأمر أن بريطانيا لم تكن الدولة التي أعلنت هذه الحرب بل كان وراء الإعلان الكونغرس الأميركي عندما صوت مجلس الشيوخ لصالح الحرب بغالبية 19 صوتًا مقابل 13 عارضوها. وفي مجلس النواب جاءت النتيجة أيضًا بالغالبية 79 صوتًا مقابل 49. وعلى الرغم من ذلك، فإن السلوك البريطاني كان السبب الرئيسي وراء إعلان الأميركيين الحرب، وذلك بسبب إقدام بريطانيا على تفتيش السفن التجارية الأميركية المتوجهة إلى فرنسا، وفرض رسوم جمركية على البضائع الخاصة بها، فضلاً عن تحرشات ممتدة مع البحرية الأميركية انتهت في إحدى المرات بضرب فرقاطة أميركية وقتل ثلاثة من طاقمها، والقبض على عدد من المجندين البريطانيين الهاربين من التجنيد.
استمر هذا السلوك البريطاني المتغطرس المُغطى بدوافع حربية ضد فرنسا، وهو ما أدخل الدولتين في حرب ممتدة استمرت قرابة السنتين.
من الثابت أن الرئيس الأميركي (يومذاك) جيمس ماديسون، الذي يعد من أبرز المشاركين في كتابة الدستور الأميركي، لم يكن راضيًا عن هذه فكرة الحرب لأنه كان يرى أن الدولة الأميركية ما زالت فتية وتفتقر إلى القدرات العسكرية لمواجهة أقوى الجيوش العالمية، ناهيك بأن جيشها النظامي لم يكن مستعدًا للحرب.
غير أن الضغوط من النخبة الحاكمة كانت قوية ومدفوعة بفكرة التوسّع شمالاً في كندا البريطانية ونحو الغرب على حساب السكان الأصليين (الهنود الحمر)، الذين كانت بريطانيا تدعمهم بالسلاح. وهو ما دفع الرئيس المغلوب على أمره إلى توجيه رسالة إلى الكونغرس يدق فيها طبول الحرب التي لم تكن بلاده قادرة عليها في حقيقة الأمر.
أما الجانب البريطاني فقد كان جهده العسكري منصبًا على القارة الأوروبية، ومع ذلك استطاع أن يحشد الجيش تلو الآخر لمحاربة الولايات المتحدة، خصوصا أن مرارة الهزيمة العسكرية إبان «حرب الاستقلال الأميركي» كانت لا تزال عالقة في الأذهان والوجدان على حد سواء. ولذا، رأت لندن أن هذه فرصة سانحة لها للاستيلاء على أجزاء من الولايات المتحدة ومحاصرتها عبر تحالف قوي مع قبائل السكان الأصليين، الذين بدأوا ينظمون صفوفهم تحت قيادة قائدهم الفذ تيكومسي، زعيم قبائل الشاووني، فيما يشبه الكونفدرالية الهندية المنظمة. وكانت فرص الانتصار وأطماع المكسب وراء توجيه الجهد العسكري البريطاني المكثف نحو الولايات المتحدة.
وكما كان الرئيس ماديسون يتوقع، بدا الجيش الأميركي لبعض الوقت عاجزًا عن تحقيق النصر. وبدأ ذلك واضحًا من خلال الحملات الثلاث التي أقرها لانتزاع كندا من أيدي البريطانيين الذين لم يجلوا عنها بعد «حرب الاستقلال»، إذ انتهت الحملات الثلاث بالفشل التام بسبب القيادة العسكرية الهزيلة وسوء خطوط التموين والاتصالات المتقطعة. أيضًا كان الجهد الحربي للهنود الحمر حاسمًا في ترجيح كفة البريطانيين، وهكذا حققت القوات البريطانية انتصارات حاسمة معظمها بفضل قيادتها العسكرية الرشيدة ممثلة بالجنرال إيزاك بروك Brock، ولكن بروك سرعان ما قُتل في آخر المعارك (معركة كوينزتون هايتس)، وباتت القوات البريطانية تعاني أيضًا من فقر القيادات كنظيرتها الأميركية تمامًا، لا سيما أن كبار الجنرالات البريطانيين كانوا يحاربون مع القائد الكبير آرثر ويلينغتون في القارة الأوروبية ضد فرنسا.
رغم الهزائم الأميركية المتتالية، فإن الأميركيين توجهوا نحو المعارك البحرية في البحيرات الكبرى التي تفصل بين كندا والولايات المتحدة خاصة بحيرة إري Erie، حيث استطاعت البحرية الأميركية أن تهزم الأسطول البريطاني المرابط هناك، وهو ما أتاح لها إنشاء خطوط تموين وضخ مستمر للقوات من البحيرات، فاضطر البريطانيون للانسحاب نحو الشمال. هذا القرار أدى ذلك لخلافات بين تيكومسي والقيادة البريطانية، إذ أصر الأول على الصمود ومواجهة القوات الأميركية التالية، بينما رفض البريطانيون هذا الطرح من الأساس، وتركوه ليواجه مصيره وحده. وبالنتيجة قتل القائد الهندي الأحمر وتفتت وحدة تحالفه القتالي، وخسر البريطانيون حليفًا قويًا كان قادرًا على إدارة دفة الحرب لصالحهم.
مع هذا فشلت القوات الأميركية تباعًا في الاستيلاء على مدينتي مونتريال وكيبيك الكنديتين بسبب ضعفها وانقساماتها. ولكن في المقابل، لم تكن بريطانيا قادرة على الدفع بثقلها الحربي لحسم هذه الحرب بسبب انشغالها بالجبهة الأوروبية. وهذا ما وفر للأميركيين فرصة تجهيز جيشهم بصورة أفضل تحت قيادات شابة.
في هذه الأثناء، ظل الرئيس الأميركي محتاطًا من خطورة انتهاء الحرب الأوروبية الوشيكة بعد هزيمة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، لأن هذا كان سيعني تفرغ بريطانيا لمحاربة الولايات المتحدة. ولذا وافق على بدء مفاوضات مع لندن، تأجلت بعض الشيء بسبب غطرسة البريطانيين وشعورهم بضرورة تعزيز وجودهم العسكري في أميركا من أجل السيطرة على المفاوضات وتوجيه مسارها لصالحهم. وهنا أسهمت الانتصارات المحدودة للبحرية الأميركية على نظيرتها البريطانية في تقوية عزيمة الأميركيين للمواجهات المقبلة.
بعدها دفعت لندن حملة تلو أخرى، ونقلت الحرب من البحار وكندا إلى قلب الولايات المتحدة، وشنت حملة عسكرية قوية في الشرق الأميركي استطاعت احتلال العاصمة واشنطن، وأحرقتها تمامًا في مشهد مأسوي لم يتكرّر في تاريخ الولايات المتحدة. وعندها اضطرت الحكومة الأميركية للانسحاب معيدة إلى الأذهان انسحاب الكونغرس من فيلادلفيا إبان «حروب الاستقلال» ضد العدو نفسه. وهكذا بدأت الولايات المتحدة تواجه تعقيدات كثيرة، وهي انحسار قوتها العسكرية وتمركزها في الشمال مع انهيار العاصمة، فضلاً عن حالة اقتصادية متردية لوجود البحرية البريطانية قبالة السواحل الأميركية الشرقية ومحاصرتها للبلاد. أما العامل الأهم فكان بداية ظهور توجه خاصة في الولايات الشمالية الشرقية التي كانت ضد الحرب - يطالب بالانسحاب من الاتحاد الأميركي.
وهنا لعب القدر دوره من خلال معركتين حربيتين فاصلتين غيرتا مجرى الحرب: الأولى عندما استطاعت البحرية الأميركية المرابطة في خليج بلاتسبورغ (في بحيرة شامبلان بشمال ولاية نيويورك) صد الهجوم البحري البريطاني الذي كان كفيلاً بفتح باب التموين والإمداد للجيوش المتتالية لغزو الولايات المتحدة من الشرق. والثانية كانت حول حصن ماكهنري في مدينة بولتيمور، إذ صمد هذا الحصن البحري أمام الهجمات البريطانية المتتالية، فأوقف أي تقدم بريطاني ودفع البريطانيين للانسحاب من هذه المنطقة بحريًا، وأنهى إمكانية التموين والإمدادات لقواتهم تمامًا.
وتزامن مع ذلك تحرك سريع من قبل الولايات المتحدة لتعزيز وجودها العسكري لمواجهة القوات البريطانية، بما جعل في استطاعتها أن وقف أي تقدم بريطاني نحو الغرب. وكانت آخر المحاولات البريطانية الجادة محاولة غزو الجنوب الأميركي من نيو أورليانز (ولاية لويزيانا)، عندما بعثت بحملة قوامها أكثر من خمسة آلاف جندي، لكن واشنطن أرسلت على الفور قائدًا شرسًا - تولى الرئاسة الأميركية بعد ذلك - هو الجنرال آندرو جاكسون، الذي أفلح بتنظيم الصفوف وحشد الجيش اللازم من الميليشيات المختلفة من الهنود والعبيد والمواطنين، واستطاع صد المحاولة البريطانية لعبور نهر الميسيسيبي، وألحق هزيمة ساحقة بالبريطانيين.
كانت نتيجة هذه التحركات العسكرية موافقة بريطانيا على إنهاء الحرب، متخلية عن الشروط التي كانت وضعتها في مطلع المفاوضات بالاستيلاء على الشمال الشرقي الأميركي وإقامة دولة الهنود الحمر في الغرب، ووقعت «اتفاقية غنت» بين الدولتين لتعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب وتضع نهاية لهذه الحرب الغريبة.
مشهد هذه الحرب يعيد إلى الأذهان خطورة الاندفاع نحو إعلان حرب لا تستطيع الدولة التي تعلنها الانتصار فيها إلا بشق الأنفس، ولكن هذه الحرب كانت في واقع الأمر السبب الرئيسي الذي دفع الساسة الأميركيين للعمل على إنشاء جيش نظامي قوي وأسطول بحري قادر على حماية الدولة بشكل منظم، وهي العقيدة السياسية التي لم تحد عنها الولايات المتحدة حتى اليوم. كذلك أوضحت هذه الحرب خطورة الاعتماد على قادة مفلسين عسكريًا، كما عُدت تقويضًا للأطروحة السياسية الدائرة في الأوساط الأكاديمية التي تزعم أن «الديمقراطيات لا تحارب بعضها»، فهذا مثال على أن الديمقراطيات تحارب بعضها لو أن السياسة الدولية تخرجها من نمط التحالف الذي شاهدناه في القرن العشرين.
ورغم سعي الجميع لمحاولة نسيان هذه الحرب غير الضرورية والغريبة فالطريف فيها أنها شهدت كتابة النشيد الوطني الأميركي على أيدي أحد الصحافيين الأميركيين أثناء متابعته معركة فورت ماكهنري، إذ كتب قصيدة تقرر تلحينها لتصبح النشيد الوطني الأميركي، الذي ينتهي بكلمات «أرض الأحرار وموطن الشجعان».



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».