حلب.. دماء وشقاء وأمل

أقدم مدن العالم وملتقى حضارات عالمية أصبحت معزولة

أحد عناصر الدفاع المدني يجمل طفلا انتشله من تحت ركام أحد المباني المدمرة في الجزء القديم من مدينة حلب اثر القصف الجوي من قبل طائرات النظام (رويترز)
أحد عناصر الدفاع المدني يجمل طفلا انتشله من تحت ركام أحد المباني المدمرة في الجزء القديم من مدينة حلب اثر القصف الجوي من قبل طائرات النظام (رويترز)
TT

حلب.. دماء وشقاء وأمل

أحد عناصر الدفاع المدني يجمل طفلا انتشله من تحت ركام أحد المباني المدمرة في الجزء القديم من مدينة حلب اثر القصف الجوي من قبل طائرات النظام (رويترز)
أحد عناصر الدفاع المدني يجمل طفلا انتشله من تحت ركام أحد المباني المدمرة في الجزء القديم من مدينة حلب اثر القصف الجوي من قبل طائرات النظام (رويترز)

على أطراف القلعة القديمة في حلب، اجتمعت «زهرة» وأسرتها داخل شقتهم التي كانت فخمة ذات يوم، لكنها الآن أصبحت في مواجهة خطوط العناصر المسلحة.
وغطت ألواح بلاستيكية النوافذ الطويلة بالداخل، في محاولة لحماية مَن بالداخل مِن نيران القناصة. وبينما دوت أصوات القذائف بالخارج، كانت زهرة (25 عامًا) والتي لم تفصح سوى عن اسمها الأول فحسب، تقلب عينيها في صورتين على هاتفها النقال. كانت الصورة الأولى لزوجها، الجندي بجيش النظام السوري ووالد طفلها الذي لم يأت للحياة بعد. وقالت زهرة بينما كانت تضع يدها على بطنها المنتفخة: «أنا في الشهر السابع». أما الصورة الثانية فكانت لزوجها أيضًا، لكنه كان ساقطًا على الأرض مضرجًا في دمائه، وبجواره جنديان آخران، حيث لقي مصرعه منذ أسبوعين. وعلقت زهرة على الصورة بنبرة تحمل قدرًا لا يستهان به من العزيمة: «أتمنى أن يلقى من فعلوا هذا المصير ذاته».
الواضح أن 4 سنوات من الحرب والقتال زادت قلوب أبناء حلب قوة وتحجرًا، وخصوصا القتال المحتدم الذي استمر طيلة الأسبوع الماضي. كانت هدنة هشة في سوريا اضطلعت بدور الوساطة فيها الولايات المتحدة وروسيا قد انهارت، لتفتح الباب أمام أسوأ موجة عنف منذ شهور. من جانبها، حامت طائرات روسية مقاتلة الأجواء، موجهة ضربات متتالية لأهداف داخل المناطق التي يسيطر عليها المسلحون. في المقابل، أطلق المسلحون وابلاً من قذائف الهاون والصواريخ المصنوعة يدويًا على أحياء سكنية مزدحمة. وقد تسببت الحرب في تأجيج توترات طائفية، وتحولت لمعركة تجري بالوكالة عن مصالح إقليمية وعالمية.
الملاحظ أن معظم القتلى من المدنيين، فقد سقط أكثر من مائتي قتيل خلال الأسبوع الماضي، كان ثلثاهم تقريبًا بالمناطق الشرقية الخاضعة لسيطرة المسلحين، بينما الباقي بالجانب الغربي الخاضع لسيطرة النظام، تبعًا لما أعلنت جماعات تراقب الوضع بالمدينة. من جهته، قال زيد الرعد الحسين، أحد كبار المسؤولين المعنيين بحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة، إن أعمال العنف «كشفت تجاهلاً فاضحًا لأرواح المدنيين».
يذكر أن حلب تعد واحدة من أقدم مدن العالم المأهولة بالسكان، واشتهرت على مدار قرون بكونها ملتقى حضارات متنوعة، مع وجود تأثيرات عثمانية وأرمينية ويهودية وفرنسية واضحة بها. اليوم، أصبح السبيل الوحيد لدخول المدينة من الجانب الذي تسيطر عليه القوات الحكومية عبارة عن طريق ضيق وعر تحده قرى مهجورة، ومواقع أمامية متفرقة للقوات الحكومية.
من جانبي، كنت أتجول برفقة مترجمي الخاص وحارس يعمل لدى الحكومة السورية. وكانت حركة المرور نشطة عبر طريق تسيطر الجماعات المسلحة على شرقه، ويسيطر مسلحو تنظيم داعش على غربه.
وكان أول مشهد من حلب وقعت عليه أعيننا الضواحي الجنوبية المدمرة، صورة تعكس دمارا هائلا، أصبحت مألوفة جراء الصراعات المتعددة المستعرة داخل البلاد.
ومثلما الحال مع الكثير من مناطق الحروب، عكست أجزاء أخرى من المدينة بعض مظاهر الحياة الطبيعية، حيث عكف ضباط مرور على تنظيم حركة السيارات، بينما تدفق أطفال تعلو وجوههم الضحكات خارجين من المدارس، وتكدس المتسوقون داخل المتاجر التي تبيع أطعمة وعطورا. وبدا الناس كأنهم محصنين على نحو ما من الانفجارات التي تعلو أصواتها في الخلفية والتي تحولت لواحد من مشاهد الحياة اليومية بالمدينة.
ومع ذلك، فإن هذا التوجه غير المهتم في ظاهره من قبل أبناء المدينة، يعكس في حقيقته شعورًا بالسأم والإنهاك في مواجهة موت قد يقع في أي لحظة بأي مكان بالمدينة، تحمله صواريخ متساقطة من السماء.
في خضم انهيار محادثات السلام السورية، تعرضت مستشفى القدس في حلب لهجوم، مساء الأربعاء. أما السوق الأثرية بالمدينة القديمة المنتمية لحقبة القرون الوسطى، والتي تعد من بين الأجمل على مستوى العالم العربي، ومصنفة كموقع تراث عالمي من قبل منظمة «اليونيسكو»، فقد أصبحت خرابًا الآن. وفي أحد الشوارع المهجورة، جلست سيدة داخل أحد الخنادق يبدو عليها الإنهاك تتحدث بزهو عن كيف أنها كانت تعمل ذات يوم على رعاية النمور داخل حديقة الحيوان بحلب. وعرضت أمامنا صورا لها برفقة أسود وثعابين ضخمة ودب ونمر شبل. وقالت إن عملها كحارسة لحديقة الحيوانات انتهى فجأة مع سيطرة عناصر مسلحة على الحديقة منذ 4 سنوات، ما دفعها للمشاركة في القتال. والآن، أصبحت مقاتلة بالخطوط الأمامية.
أما أقرب النقاط الخاصة بالمسلحين فكانت على بعد نحو مائة قدم، حسبما ذكرت، مشيرة إلى أنه على الرغم من هدوء الأوضاع الآن، فإن هذا من غير المحتمل أن يدوم. وقالت: «لا يجرؤون على الخروج سوى ليلاً. إنهم مثل الخفافيش الجبانة».
وأثناء حديث الحارسة السابقة التي أشارت لنفسها باسم روز أبو جعفر، سقطت قذيفة على مبنى مجاور، مطلقة صوت انفجار مدويا، في الوقت الذي انطلقت مركبة عبر الشارع يقودها جندي آخر. ومع ذلك، لم يهتز جفن روز، لكنها نصحت المترجم المرافق لي بضرورة الانتقال لمكان آخر.
وعلى الرغم من أن الثورة في سوريا بدأت كحركة اعتراض ضد النظام الاستبدادي لبشار الأسد، الذي حكمت أسرته سوريا طيلة 46 عامًا، فإنها أثارت توترات طائفية وأحيت مشاعر سخط تاريخية تعود لقرن مضى. كانت غالبية سكان المدينة من الأرمن قد فروا إلى أوروبا وكندا، بينما يبدي الباقون منهم تأييدًا قويًا للأسد، والذي يعدونه أملهم الوحيد في مواجهة المقاتلين الذين لن يتركوهم يعيشون في سلام.
من ناحيته، يعيش إسكندر أسد، قس بالكنيسة اليونانية الأرثوذكسية، في الميدان، وهي ضاحية تقع على الخطوط الأمامية وأصبحت شبه مهجورة الآن. قبل يوم مضى، سقطت قذيفة هاون على منزله، مخلفة وراءها فتحة كبيرة في السقف. وقال إن زوجته ظلت تبكي طوال الليل، لكنه لم يجد في نفسه طاقة تعينه على محاولة تهدئتها. وقال: «الشعور بالأسف لا يجدي شيئا. إننا بحاجة لحل. أما الأسف فلا يحل شيئا».
وقادنا الأب أسد نحو الطابق العلوي من منزله، بينما كان يتحدث عن الهدنة، قائلاً: «كانت الهدنة خطأ»، في إشارة لوقف إطلاق النار المتداعي. واستطرد بقوله: «بماذا خرجنا من هذه الهدنة؟ لقد جاء إلينا الإرهابيون الآن بأعداد أكبر وبأسلحة أكثر تطورًا. إن هؤلاء مجرد مرتزقة، وقد أتاحت لهم الهدنة الوقت لإعادة تجميع قواهم. والآن، نحن من يعاني جراء ذلك، وليس هم». بيد أنه في واقع الأمر، من الواضح أن المعاناة، وكذلك اللوم، ليسا حكرًا على مجموعة بعينها في إطار الحرب المستعرة في سوريا. كان رئيس النظام بشار الأسد، قد واجه اتهامات جديدة بالتورط في جرائم حرب بعدما تعرض مستشفى القدس، الكائن على الجانب الذي يسيطر عليه المسلحون من المدينة لضربات جوية، مساء الأربعاء قبل الماضي. بحلول الجمعة، قال عمال الإنقاذ إنهم انتشلوا 55 جثة من تحت الأنقاض، بينهم 29 من الأطفال والسيدات، بعضهن كن في حالة ولادة، تبعًا لما ذكرته إحدى الجماعات المعنية بتقديم المساعدات. من جهتها، أدانت منظمة «أطباء بلا حدود»، التي تدعم المستشفى، القصف، بوصفه عملا «فظيعا».
أما سكان المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، فأصبح خوفهم الأكبر من نمط من الصواريخ البدائية المصنوعة من أسطوانات غاز بروبان معدلة محشوة بمتفجرات وأجسام معدنية تستخدمها الجماعات المسلحة، بما في ذلك تلك التي تتلقى دعمًا أميركيًا.
الواضح أن الجانبين عصفت بهم التفجيرات، وإن كانت الطائرات النفاثة والمروحية تبقى حكرًا على جانب النظام، ما أدى لتحويل أجزاء واسعة من المناطق التي تسيطر عليها جماعات مسلحة إلى مجرد ركام.
والواضح أن الاستخفاف بأرواح المدنيين عنصر مشترك بين جميع الأطراف المتحاربة، ذلك أنه بعد الهجوم الذي تعرض له المستشفى، أمطرت صواريخ المسلحين جميع الضواحي الواقعة تحت السيطرة الحكومية في حلب، في حمى هجومية حادة خلفت عشرات القتلى. وتكدست سيارات الإسعاف والأجرة خارج مستشفى الراضي بينما هرع الأقارب الملتاعون حاملين أجساد ذويهم مضرجة بالدماء ويعلوها الغبار، وكثير منهم من الأطفال، إلى داخل قسم الطوارئ.
في اليوم التالي، استهدفت القوات الحكومية 3 منشآت طبية شرق المدينة. من جهتهم، يتهم بعض سكان الجانب الحكومي من المدينة الولايات المتحدة وحلفاءها بالغضب الانتقائي، حيث يتعمدون غض الطرف عن تجاوزات الحلفاء لهم، عن هذا، قال المبجل إبراهيم نصير، الراعي بالكنيسة المشيخية: «يتبع مجلس الأمن معايير مزدوجة، فهم لا يرون ضحايانا. ويطالبون بإقرار الديمقراطية في سوريا فقط».
من ناحية أخرى، لا يعلم أحد على وجه التحديد كم تبقى من المليونين الذين كانوا يسكنون حلب قبل اشتعال الحرب. المعروف أن كثيرين قد فروا إلى أوروبا ولبنان وأجزاء أخرى من سوريا. أما من تبقوا بالمدينة فيعتمدون على أنظمة ارتجالية لتوفير المياه والكهرباء. وقد حذر فالتر غروس، رئيس «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» في حلب من أن أي تصعيد للقتال يحمل معه احتمالات وقوع «كارثة إنسانية». وقال: «أصبح الأمر أشد وطأة بكثير هذه الأيام. وأصبح كل شخص يشعر بالوضع على نحو مختلف». وفي تعليقه على حالة الهدوء التي يبدو عليها سكان حلب في الشوارع، قال غروس الذي ينتمي إلى البوسنة: «يبدو غريبًا أن تسمع أصوات قذائف الهاون من بعيد، بينما يلعب الأطفال الكرة الطائرة خارج نافذة مكتبي، لكن الحقيقة أن الناس يحاولون العيش بطريقة طبيعية وأن يشعروا بأنهم على قيد الحياة».
والواضح أن بعض أبناء حلب عازمين على المضي قدمًا في الحياة. على سبيل المثال، في غضون ساعات من استهداف مستشفى في حلب عبر ضربة جوية، اجتمع نحو مائة شاب في أحد المطاعم لحفل زفاف. ولمعت أشعة الشمس عبر زجاج النوافذ، بينما احتشد المدعوون داخل المطعم وتناولوا أطباق الفاكهة ودخنوا النرجيلة ورقصوا الدبكة الفلكلورية الشهيرة، وقد غطت أصوات الموسيقى المرتفعة على أصوات التفجيرات التي ترددت أصداؤها من حين لآخر بالخارج.
عن ذلك، قال عمر (21 عامًا) وهو طالب إدارة أعمال وإشبين العريس: «هناك حرب، ثم هناك حياة. لدينا قلبان داخل هذه البلاد، قلب للحزن وآخر للسعادة، ولكل حدث قصته المختلفة». إلا أنه في غضون ساعة واحدة، تذكر الجميع مخاطر العيش تحت وطأة نظام الأسد القمعي، لدى ظهور فرقة من رجال الاستخبارات العسكرية خارج المطعم، وسحبهم باستا للخارج لإعلان اعتراضهم على سماحه لعملائه بالرقص والغناء في يوم شهد مثل هذا القدر الهائل من العنف والدماء.

* خدمة «نيويورك تايمز»



عودة «آلاف السودانيين» تكبح جماح الإيجارات في أحياء مصرية

سودانيات يسرن بملابسهن المميزة في شارع فيصل بمحافظة الجيزة (الشرق الأوسط)
سودانيات يسرن بملابسهن المميزة في شارع فيصل بمحافظة الجيزة (الشرق الأوسط)
TT

عودة «آلاف السودانيين» تكبح جماح الإيجارات في أحياء مصرية

سودانيات يسرن بملابسهن المميزة في شارع فيصل بمحافظة الجيزة (الشرق الأوسط)
سودانيات يسرن بملابسهن المميزة في شارع فيصل بمحافظة الجيزة (الشرق الأوسط)

انتقل نافع عبد الحي، وهو سوداني مقيم في منطقة فيصل جنوب القاهرة، إلى شقة بنصف سعر إيجار أخرى سكن فيها هو وعائلته منذ 9 أشهر، مستفيداً من تراجع أسعار إيجارات الشقق في مصر بشكل ملحوظ مع عودة آلاف السودانيين إلى بلادهم.

يقول لـ«الشرق الأوسط» إنه يدفع الآن 4500 جنيه فقط في الشهر (الدولار 48.75 جنيه)، بدلاً من 9 آلاف جنيه في الشقة الأولى، وهما في نفس المستوى، ولا يبعدان عن بعضهما سوى 2 كيلومتر فقط.

وخلال الشهور الماضية، تَقَدَّمَ الجيش السوداني في أحياء سكنية ومناطق عدة بالعاصمة الخرطوم وضواحيها على حساب «قوات الدعم السريع»، كما سيطر على مداخل 3 جسور استراتيجية في العاصمة المثلثة، وهي «الفتيحاب» و«النيل الأبيض» و«الحلفايا»، والذين يربطون ولايات أم درمان والخرطوم والخرطوم بحري، ومهدت هذه الانتصارات لعودة آلاف السودانيين.

ووصف القنصل السوداني في أسوان السفير عبد القادر عبد الله لـ«الشرق الأوسط» أعداد العائدين من مصر إلى السودان بـ«الكبيرة»، مشيراً إلى أنهم لا يملكون إحصائية دقيقة، لكن «أستطيع أن أقول إنه منذ 3 شهور العائدون إلى السودان أضعاف القادمين من السودان إلى مصر»، على حد قوله.

محل بيع ملابس سودانية في منطقة المهندسين (الشرق الأوسط)

وتوقع الدبلوماسي السوداني أن تزداد الأعداد بشكل أكبر الفترة المقبلة، قائلاً: «كلما تقدم الجيش السوداني عاد المزيد من السودانيين»، خصوصاً «في بداية العام المقبل، بعد انتهاء امتحانات الشهادة السودانية والتي تبدأ في 28 ديسمبر (كانون الأول)، وتستمر أسبوعين»، موضحاً أن «كثيراً من الأُسر تنتظر إنهاء أبنائها للامتحانات للعودة إلى السودان».

وفسّر المستشار الإعلامي السابق للسفارة السودانية في القاهرة وأمين أمانة العلاقات الخارجية في جمعية الصداقة السودانية المصرية محمد جبارة لـ«الشرق الأوسط»، عدم وجود حصر دقيق بالأعداد إلى أن بعض العائدين دخلوا مصر في الأساس بطرق غير شرعية، وعودتهم تتم دون أوراق أيضاً، أما الآخرون ممن دخلوا بشكل رسمي، فوثقت الجمعية عودة 29 ألف منهم في الفترة منذ أغسطس (آب) وحتى أكتوبر (تشرين الأول) الماضيين.

وقدّرت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أعداد السودانيين المسجلين لديها في مصر حتى 30 سبتمبر (أيلول) الماضي بـ503 آلاف و993 لاجئاً. ولا يعكس ذلك كل أعداد السودانيين الذين دخلوا مصر بعد الحرب، إذ ثمة آخرون غير مسجلين في المفوضية.

وتسبب توافد السودانيين إلى مصر وتمركزهم في مناطق محددة في رفع أسعار الإيجارات أضعافاً عدة. وتعد ضاحية فيصل، الحي الشعبي جنوب العاصمة، واحدة من نقاط تمركز الوافدين السودانيين، إذ بلغ متوسط الإيجار في المنطقة الشعبية 8 آلاف جنيه، بعدما كان 2000 جنيه قبل قدومهم، حسب السمسار أحمد عبد الرحيم.

مواطن سوداني يجلس على مقهى بفيصل تحت عبارة «تحيا مصر» (الشرق الأوسط)

تراجع متفاوت

والآن، يؤكد عبد الرحيم لـ«الشرق الأوسط»، تراجُع أسعار الشقق خصوصاً «المفروشة في الأبراج السكنية»، والتي كان يسكنها «السودانيون اللي معاهم فلوس»، مشيراً إلى أن كثيرين منهم عادوا إلى بلدهم.

يوضح السمسار: «كانوا يدفعون في الشهر 15 ألف جنيه في الشقة المفروشة، وبعد عودتهم لا تجد هذه الشقق من يسكنها بالأسعار نفسها، ما دفع أصحابها إلى تخفيض أسعارها إلى 12 و10 آلاف جنيه».

وأقرّ السمسار بأن هذه القيمة تظل مبالغاً فيها في منطقة شعبية مثل فيصل «لكن قد تنخفض أكثر مع قلة الطلب»، مُرجعاً بطء حركة تراجع الإيجارات إلى «جشع أصحاب الشقق ممن يأملون في أن يدفع المصري نفس ما كان يدفعه السوداني».

وقال السمسار السوداني حسن عبد الله، والذي يعمل على عرض الشقق على غروب بـ«فيسبوك» يضم آلاف السودانيين في مصر، لـ«الشرق الأوسط» إن الأسعار انخفضت إلى النصف تقريباً، فالشقة التي كان يعرضها بسعر 5 و4 آلاف جنيه، أصبحت معروضة بـ2000 و2500 و3000 جنيه «الشقق متوفرة مو زي قبل»، وذلك بعدما ترك الكثير من السودانيين الشقق وعادوا إلى السودان، على حد وصفه.

ومن فيصل إلى منطقتي الدقي والمهندسين الراقيتين بمحافظة الجيزة، انخفضت الأسعار كذلك بشكل ملحوظ. يقول أحمد الأسيوطي وهو حارس عقار وسمسار في الدقي لـ«الشرق الأوسط» إن إيجارات الشقق المفروشة في المنطقة تراجعت «بشكل كبير جداً»، مشيراً إلى أنها وصلت الفترة الماضية مع قدوم السودانيين، وتحديداً منذ منتصف العام الماضي إلى 70 ألف جنيه، لكنها بدأت تتراجع منذ 3 شهور إلى ما بين 40 و30 ألف جنيه، مع عودة بعض السودانيين.

أحمد الأسيوطي حارس عقار وسمسار في منطقة الدقي بالجيزة (الشرق الأوسط)

ويعود التفاوت الكبير في الأسعار بين فيصل والدقي إلى طبيعة المنطقتين من جهة، ومساحة ومستوى الشقة نفسها من جهة أخرى، إذ إن الشقق في المنطقة كبيرة في المساحة «4 غرف و3 حمامات ومستوى لوكس».

وتوقّع السمسار أن تتراجع إيجارات الشقق بشكل أكبر الفترة المقبلة، مستدلاً على ذلك أن «تحت يدي شققاً فاضية من أكثر من شهر، لا تجد من يسكنها، وكل فترة يخفض أصحابها السعر أكثر، للعثور على مستأجر».

الأمر نفسه أكده السمسار في منطقة المهندسين حمدي الصعيدي، واصفاً سوق الإيجارات حالياً بالـ«الهادئ»، في إشارة إلى كثرة المعروض مقابل المطلوب.

التأثير نفسه شهدته منطقة مدينة نصر شرق العاصمة، حيث تراجعت الإيجارات فيها إلى 20 و30 ألف جنيه، بعدما وصلت إلى 40 و50 ألف الفترة الماضية، حسب محمود محسن، وهو صاحب شقق يقوم بتأجيرها.

يقول محسن لـ«الشرق الأوسط» إن لديه شقة حالياً يعرضها بـ 22 ألف جنيه، كانت وصلت الفترة الماضية إلى ضعف هذا السعر مع كثرة الطلب على الإيجارات بقدوم السودانيين، مشيراً إلى أن مدينة نصر من مناطق جذب الوافدين من جنسيات مختلفة.

ورغم التراجع النسبي لأسعار الإيجارات في مناطق تمركز السودانيين، استبعد عضو شعبة الاستثمار العقاري في غرفة القاهرة التجارية أحمد عبد الله، أن تشهد السوق العقارية تراجعات تعود به إلى المستوى الذي كان عليه قبل قدومهم، قائلاً لـ«الشرق الأوسط»، إنه لا يتوقع انخفاضاً في أسعار الإيجارات بوجه عام بفعل التضخم وعوامل أخرى، «ومع ذلك ففي بعض المناطق التي شهدت تراجعاً مؤثراً في أعداد الجالية السودانية، من المتوقع أن ينخفض الطلب».

وتابع: «في كل الأحوال، الأرجح هو ألا تنخفض أسعار الإيجارات إلا إذا حدث تراجع كبير في الطلب مقارنة بالمعروض، وهو ما يعني مغادرة عدد كبير من الإخوة السودانيين».

محل سوداني في حي فيصل ينوي مغادرة مصر قريباً (الشرق الأوسط)

وسبق أن علق رئيس الحكومة الدكتور مصطفى مدبولي، على أزمة الإيجارات قائلاً إن الأسعار ارتفعت، لكن الحكومة لا تستطيع التدخل في سوق العقارات الذي يحتكم لـ«العرض والطلب»، متوقعاً آنذاك أن تكون «أزمة الإيجارات في مصر مسألة مؤقتة».

وخلال 6 شهور على حد أقصى، سيعود الشاب السوداني نافع عبد الحي إلى السودان، بعد شفاء قدمه التي خضعت لعملية جراحية مؤخراً، مشيراً إلى أن والديه عادا بالفعل، وأن «كثيراً من الوافدين السودانيين في مصر عاد منهم على الأقل شخص، يطمئن على الأوضاع هناك، قبل أن تتبعه بقية الأسرة».

واتفق معه توكل أحمد، وهو سوداني جاء إلى مصر مع عائلته قبل نحو 9 شهور، ويستعد للمغادرة في غضون أيام، قائلاً لـ«الشرق الأوسط» إن السودانيين يفضلون العودة بمجرد الاطمئنان على استتباب الأمن في مناطقهم بسبب ارتفاع تكلفة المعيشة في مصر، فضلاً عن عدم توافر وظائف وأعمال لهم، وهو ما أكده أيضاً أمين أمانة العلاقات الخارجية في جمعية الصداقة المصرية السودانية محمد جبارة.