أكثر من 700 رواية عربية في السنة.. طوفان يربك الجميع

«ملتقى الرواية العربية» الأول في بيروت بحضور 33 أديبًا

جانب من المؤتمر
جانب من المؤتمر
TT

أكثر من 700 رواية عربية في السنة.. طوفان يربك الجميع

جانب من المؤتمر
جانب من المؤتمر

أكثر من 700 رواية عربية باتت تصدر في السنة الواحدة. الروائيون الذين بلغ عددهم نحو 33 أديبًا اجتمعوا في بيروت طوال أربعة أيام، وشاركوا في جلسات «ملتقى الرواية العربية» الأول، الذي نظمته «الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية - أشكال ألوان»، ناقشوا خلال ثماني جلسات، عددًا من المحاور، لمواكبة هذه الظاهرة. لم يخفِ الحاضرون أن معرفتهم بالرواية العربية، رغم أنها ميدانهم وساحتهم، تبقى جزئية. قال رشيد الضعيف: «لا أجرؤ على التحدث عن الرواية العربية بعد أن أصبحت قارة، كما قال الروائي حسن داود، وإنما أتحدث عما أعرف، وعن العينة التي استطعت الاطلاع عليها، وهي ليست بالقليلة»، مذكرًا بأن النقد بدوره بلغ كمًا هائلاً تصعب الإحاطة به «فهو ليس فقط البعض اليسير الذي نراه في الصحف اليومية، وإنما عشرات آلاف الدراسات الجامعية التي تصدر بالعربية، وبمختلف لغات العالم».
الرواية إذن، تتجاوز أهلها، والمعنيين بأمرها. الطوفان يغرق الجميع، ويربك المتابعين، ويجعلهم أعجز من أن يحيطوا حتى بالأنواع التي يمكن أن تندرج تحت مصطلح «رواية». كان لافتًا تعليق الأديبة الفلسطينية ليانة بدر التي اعتبرت هذا الانفجار المحموم أشبه بفعل انعتاق حين قالت: «في فلسطين يكتب الرواية من له علاقة بها، ومن ليس له علاقة، إنها تتحول إلى فعل حرية. إنها رغبة في التعبير تتناسب عكسيًا أو تأتي ردة فعل على حياتنا المحافظة والمنغلقة على نفسها». وشرحت بدر أن الحائط الذي يحاصر الناس ويقطع الأوصال، وتكبيل الحركة، كما تصغير المساحات، التي يمكن أن يتحرك فيها المرء في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أعادت الناس إلى ما يشبه الحالة الريفية، بحيث بالكاد يخرج الأهالي من بيوتهم لقضاء حاجاتهم ويعودون سريعًا، خشية أي طارئ يمكن أن يحدث في أي لحظة. عن هذا السجن الفلسطيني وكيف ينعكس على كتابتها الرواية قدمت بدر مداخلة مؤثرة، كانت تستحق أن تُسمع، معتبرة أن هذا السجن الفلسطيني المقطع الأوصال، هو ما تتم محاولة تعميمه على كل المنطقة العربية في الوقت الراهن.
في الجلسة ما قبل الأخيرة، مع ليانة بدر قدمت المصرية ميرال الطحاوي خلاصة دراسة لها مثيرة حول استخدام الجسد في التراث العربي، وصولاً إلى الثورة المصرية، كوسيلة للتعبير وأداة للقمع في الوقت نفسه. واعتبرت أن النساء اللواتي كتبن أدبًا اعتبر إباحيًا في السنوات الأخيرة لم يستخدمن ذلك بمعنى التعبير عن الإثارة والمتعة بقدر استخدامهن الجسد أداة اعتراضية. وعن سبي النساء واستعبادهن واسترقاقهن في الحروب القديمة تحدثت الطحاوي وصولا إلى التحرش الجنسي الذي ظهر مع بداية الثورة المصرية كوسيلة لتطويع المحتجات. في موضوع مشابه كان أيضًا للحائز على البوكر التونسي شكري المبخوت مداخلة حاول فيها التمييز بين البذءاة في الأدب المكشوف، والتعبير الفني الموظف جماليًا وموضوعيًا، مفرقًا بين الاثنين، معتبرًا أن أصعب مشكلة تواجه الكاتب هي التغلب على الموروث».
الإشكاليات التي طرحها الأدباء والناشرون وناقشوها في جلساتهم التي صادف وقوعها خلال عطلة الفصح الشرقي كثيرة، والمداخلات منها ما جاءت شيقة، خصوصًا حينما تتأتى من تجربة المتحدث بعيدًا عن التنظير، وهو ما حاول غالبية المتدخلين فعله. حائز آخر على البوكر وهو أحمد السعداوي، انطلق من تجربته الخاصة، ليتكلم عن صعوبة الكتابة الروائية الأدبية في زمن الميديا ووسائل التواصل التي تغرق الكاتب، وتفرض عليه نوعًا من الصخب دون أن تترك له فرصة للتأمل. ليخلص في النهاية إلى أن «الكتابة الأدبية أو المتفوقة هي نوع من الحرب ضد الفراغ»، الذي تحدثه كل هذه الأجهزة التكنولوجية الضاجة بالنصوص والأخبار والقصص التي «لا نملك رفاهية التعامل معها كجثة باردة» قابلة للتشريح، كما يجدر بالروائي أن يتعامل عادة، مع المادة الأولية.
كما اتفقت الآراء على أن عدد الروايات الهائل، أصبح عائقًا أمام فهم الرواية العربية والتحدث عنها كجنس أدبي، كان ثمة شكوى مبطنة من تردي المستوى، أو تحول بعض الروايات إلى ما يشبه «إعادة إنتاج للواقع»، كما قال الروائي محمود الورداني الذي رأى أن «الرواية تزداد تورطًا بالواقع، وهو ما يجعلها تسجيلاً للحياة اليومية، بدل أن تكون إعادة إنتاج لها». كان ثمة آراء لروائيين تحدثوا عن اتكاء غالبية الروايات على جزء من سيرهم الذاتية، أو خلط بين سيرهم وسير آخرين، مما يبقي عناصر التخييل والفانتازيا قليلة.
الروائية السورية مها حسن، مهتمة كما الروائيين الذين تعاني بلدانهم من حروب واضطرابات وأحداث دموية يصعب تجاوزها، بوقوع الروايات بمحظور تسطير الوقائع، ونقل حوادث لم تتكشف أبعادها بعد. وهي ترى أن غالبية الروايات السورية التي كتبت بعد الثورة مصابة بهذه اللوثة، وأن ما يُكتب الآن لا بد أنه يأتي متسرعًا، لا سيما أنه يُسجل من قلب الحدث».
ولم يغب الناشرون عن الملتقى، حيث أدلت الناشرة المصرية فاطمة البودي بشهادتها شاكية من القرصنة التي بلغت حدًا مذهلاً، حتى باتت جودة المقرصن تجعل تمييزه عن الأصيل شبه مستحيل. ومما ذكرته أن الكتب التي تطبعها هي ودور أخرى، باتت نسخها المزورة تباع تحت مكاتب الدور، وأمام أعين الناشرين الذين لا يملكون سلطة الاعتراض أو الاحتجاج، وليس أمامهم سوى أن يتفرجوا ويتحسروا.
هل صار العرب هم أهل الرواية في مطلع القرن الحادي والعشرين لكثرة ما كتبوا ودبجوا، الجواب جاء بـ«لا». فالكثرة لا تعني الجودة، لكنها تستدعي النقاش والتساؤل، حتى وإن بدت الإجابات عصية وأحيانا محرجة جدًا. فالملتقى الذي نقلت وقائعه مباشرة على شبكة الإنترنت لمن كان يريد أن يتابع، جرى في قاعة صغيرة، بحضور من شاركوا في الجلسات، ولم يكن لقاء كبيرًا، يستجلب الجماهير الغفيرة.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.