دي ميستورا.. «سلطة بلا مخالب»

طموحات روسيا ومحاذير أميركا تحاصران مهمة المبعوث الدولي إلى سوريا

دي ميستورا.. «سلطة بلا مخالب»
TT

دي ميستورا.. «سلطة بلا مخالب»

دي ميستورا.. «سلطة بلا مخالب»

قضيتان سهلا على مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا ستافان دي ميستورا مهمته، خلافًا للمبعوثين الدوليين اللذين سبقاه، وهما ظهور تنظيم داعش، الذي يعدّ خصمًا لكل الأطراف المتقاتلة في سوريا، وتمدّده، والانخراط الدولي المباشر في الأزمة السورية، لا سيما من قبل القطبين الأميركي والروسي.
غير أن التعويل على الانخراط الدولي الذي راهن عليه سلفاه كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي، اتضح، بعد 22 شهرًا على انطلاق مهمة دي ميستورا، أنه غير حاسم. فاتفاق روسيا والولايات المتحدة على الخطوط العريضة لن يكون كافيًا لإيقاف حمام الدم إذا تجاهل الطرفان التفاصيل، بينها تلك المتعلقة بمصالح واحتياجات السوريين وطموحاتهم، ولن يكون ناجعًا إذ استُثنيت آراء أطراف أخرى مؤثرة في الأزمة السورية، بينها الدول الإقليمية. وهكذا برزت عقبات جديدة أمام دي ميستورا، الذي لم يبالغ بطموحاته منذ توليه المهمة الأكثر تعقيدًا في القرن الحالي، وكان واقعيًا في السعي لتحقيق إنجازات محدودة، تتسع تدريجيًا من إدخال المساعدات إلى فك الحصار في المناطق، وصولاً إلى تحقيق اتفاقات لوقف إطلاق النار، والبدء بالعملية السياسية.
بُعيد تسلمه مهمة المبعوث الدولي لحل النزاع السوري، قال ستافان دي ميستورا في مقابلة مع الـ«بي بي سي» إن الحديث عن خطة سلام «سيكون طموحًا». لم يبالغ دي ميستورا آنذاك بطموحاته، فهو يعرف تعقيدات المشهد السوري، ولعبة «شد الحبال» الدولية تجاه الأزمة. أعطى نفسه فرصة لتحقيق إنجازات، بطريقة متدرجة، نجح في بعضها، وفشل في الحفاظ على بعض الإنجازات. لكنه استطاع، إلى حد ما، تخفيض منسوب الدم المسال على مساحة البلاد، على الأقل في الهدنة التي رعتها الأمم المتحدة في 27 فبراير (شباط) الماضي قبل انهيارها في الشمال، وصمودها في الجنوب وفي ريف دمشق، وإدخال المساعدات إلى 7 مناطق من أصل 18 منطقة محاصرة، وفتح النقاش مجددًا على تسويات محتملة، أجبرت النظام على التنازل في بعض الملفات، قبيل انعقاد جلسات «جنيف 3».
والواقع أن النجاح المحدود في تحقيق إنجازات، يعود إلى أن الأمم المتحدة، «سلطة بلا مخالب». فهي مظلة دبلوماسية، بينما دبلوماسيوها «عراة بلا قوة»، كما قال مساعد الأمين العام للأمم المتحدة جيفري فيلتمان، في معرض وصفه لحاله بعد انتقاله إلى مهمة دبلوماسية دولية، تلت مهمته بصفته سفيرا في الخارجية الأميركية.
في يوليو (تموز) 2014. اختار بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة ستافان دي ميستورا، الدبلوماسي الإيطالي - السويدي المخضرم، ليكون مندوب الأمم المتحدة إلى سوريا خلفا للأخضر الإبراهيمي الذي استقال من منصبه في 31 مايو (أيار) الماضي.
وجاء اختيار دي ميستورا، بعدما واجهت الأمم المتحدة تحديًا كبيرًا في اختيار مندوب جديد بعد استقالة الإبراهيمي بعدما يقرب من عامين من الجهود الفاشلة لإنهاء الصراع في سوريا.
وخطا الإبراهيمي الخطوة نفسها التي خطاها الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان، الذي استقال من المنصب نفسه في أغسطس (آب) 2012 بعد فشل جهوده في التوصل إلى اتفاق بين النظام السوري والمعارضة لوقف إطلاق النار وتطبيق بنود اتفاقية جنيف الأولى في 2012.
وتضاءلت احتمالات التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض وسط تصاعد أعمال العنف والقتال. وواجهت منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي عدة انتقادات واتهامات بالفشل في توحيد الجهود لإنهاء الحرب السورية، خصوصا بعد اعتراض روسيا والصين على أربعة قرارات لمجلس الأمن ضد حكومة النظام السوري.
لكن مجيء دي ميستورا، تزامن مع تغيرات دراماتيكية في الأزمة السورية. فبعد أقل من شهرين، أعلن تنظيم داعش عاصمته، وتمدّد على مساحات واسعة في شمال سوريا وشرقها، وهو ما استدعى توحيد الجهود لضربه، والإعلان عن توسيع «التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب»، بقيادة الولايات المتحدة، ضرباته إلى سوريا في 21 سبتمبر (أيلول) 2014.
* إقرار بالصعوبات
في بدايات مهمته، وخلال اجتماع تشاوري لوزراء خارجية الجامعة العربية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، قدم دي ميستورا عرضا لرؤيته للوضع السوري بعد زيارته دمشق. واعترف دي ميستورا بأنه ليس لديه مشاريع كبرى في الوقت الراهن فيما يتعلق بالأزمة السورية، موضحا أن أولوياته تتركز في 3 نقاط، هي الحد من مستوى العنف، وتأمين وصول المساعدات الإنسانية، وتعزيز العملية السياسية. وقال ميستورا: «سأكون واقعيا في طموحاتي. سأركز على تقليل العنف وتعزيز المساعدات الإنسانية ودفع عملية سياسية شاملة لكل السوريين داخل وخارج سوريا»، وأضاف: «لقد عانى السوريون كثيرا خلال السنوات الثلاث الماضية، وعلينا التفكير في أفكار مبتكرة عبر عملية سياسية شاملة».
وحول اتفاقات جنيف، قال دي ميستورا: «اتفاقات جنيف هي الإطار العام لعملي، لكن التغيرات على أرض الواقع يحب ألا نغفلها». وأشار إلى تردي الأوضاع الإنسانية محذرا من ضعف توافر الأموال لعمليات الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية.
وأكد المبعوث الأممي إلى سوريا، أن استخدام القوة العسكرية ضد تنظيم داعش لا يكفي، وأن هناك حاجة لعملية سياسية، مشيرا إلى أن الجميع يدرك ذلك بمن فيهم الرئيس السوري بشار الأسد.
لاحقًا، وبعد انعقاد ثلاث جلسات من حوار جنيف، أقر دي ميستورا مجددًا بالفشل، مطالبًا الأطراف المعنية بالأزمة بالتدخل مرة جديدة. فقد طالب مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا قبل أيام بتدخل أميركي - روسي «عاجل» وعلى أعلى مستوى لإنقاذ محادثات السلام السورية. وأضاف أن «المحادثات لن تكون ذات معنى إلا في حال عودة وقف إطلاق النار إلى المستوى الذي كان عليه في فبراير ومارس (آذار) الماضيين. وقال مبعوث الأمم المتحدة إن «خلافات كبيرة ما زالت قائمة بين الحكومة السورية وجماعة المعارضة الرئيسية في رؤيتهما لانتقال سياسي في سوريا على الرغم من بعض القواسم المشتركة».
وفي وثيقة من سبع صفحات أصدرها في ختام جولة من المحادثات استمرت أسبوعين قال دي ميستورا إن «الجانبين يتشاركان الرأي في أن الإدارة الانتقالية قد تشمل أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومستقلين وآخرين»، مشيرًا إلى أن الجولة القادمة من المحادثات السورية ستعقد في مايو المقبل.
* خلافات متواصلة
الواقع أن التطورات على المشهد السوري، لم تساهم في تقريب وجهات نظر الحل، على ضوء اختلافات في وجهات النظر بين موسكو وواشنطن، كما يجمع الخبراء.
يقول سفير لبنان السابق في واشنطن الدكتور رياض طبارة، إنه «لا توافق كاملاً بين واشنطن وموسكو حول الملف السوري»، معربًا عن اعتقاده أن «هناك خلافات على تقاسم الحل النهائي بدليل أن كلا من الطرفين يساند أطرافًا في سوريا». ويوضح في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن روسيا «تمتلك طموحات واسعة في سوريا، لم يوافق عليها الأميركيون، ما يعني أن الصورة النهائية للحل، لم تتبلور»، ويشرح: «تطمح روسيا إلى أن يكون لديها موطئ قدم في المنطقة، وتحلم بأن تعيد لنفسها أدوارًا لعبتها في السابق إبان فترة روسيا القيصرية وزمن الاتحاد السوفياتي، وخصوصًا تثبيت موطئ قدم لها في المياه الدافئة في البحر المتوسط»، لافتًا إلى أن «البلد الوحيد الذي يمكن أن يعيد روسيا إلى المتوسط، هو سوريا، وتطمح لأن تستحوذ على منطقة تمتد من جنوب دمشق إلى الساحل السوري، بوصفه عمقا استراتيجيا لها في المنطقة، تفاوض منها على الحل السياسي في سوريا»، بينما «لم يقتنع الأميركيون بهذا الحل على حساب منطقة تهمهم».
هذه النقطة، تبدو محل إجماع لدى المراقبين، إذ يشير الباحث السياسي المتخصص في الشؤون الروسية الدكتور نسيب حطيط، إلى أن الأميركيين «لن يرضوا بأن تكون روسيا اليوم شريكًا لهم في المنطقة التي يتمتعون فيها بنفوذ منذ 30 سنة، بعد السبات الروسي وانهيار الاتحاد السوفياتي»، في وقت «سنحت الأزمة السورية لروسيا بفرصة أن تكون ندا للأميركيين في منطقة يحتكرون سياستها منذ 3 عقود».
ويوضح حطيط في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن الحالة السورية «وفرت للروسي فرصة تثبيت نفوذه في المياه الدافئة، وهي الفرصة الأخيرة التي بقيت له، بعد فقدانها في ليبيا، وفقدان السيطرة على باب المندب، وبالتالي سيتمسك بها حرصا على مصالحه». ويضيف: «لكن ذلك تواجهه عقبات إقليمية، كما أميركية، ذلك أن تركيا مثلاً تتوجّس من النفوذ الروسي حول حدودها في سوريا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقًا، وهو ما يدفعها إلى تحريك جبهات في مناطق حيوية بالنسبة للروس في سوريا وأرمينيا وغيرها».
من هنا، يرى حطيط «أننا أمام مشكلة مركبة تتمثل في دول تحاول الحفاظ على مصالحها، وتسعى لحفظ حصتها، ومشكلة دولية أخرى تتمثل في الطموحات الصينية، إذ يعتقد أن الصين ستتدخل بوصفها عاملا إضافيا في المنطقة للحفاظ على مصالحها، بعدما تبين بالنسبة لها أن الجميع يختبئ وراء الحل السياسي لتثبيت مصالحه، وترى أن هناك مشكلات في أفريقيا، حيث المصالح الحيوية للصين، تلوح في الأفق، لمحاصرة مصالحها، إثر ظهور مؤشرات على ترحيل أزمة الإرهاب من الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا، بدل القضاء عليها هنا، بدليل ما قاله الروس الأسبوع الماضي عن طرح ورقة جديدة تتحدث عن تحالف (داعش) والقاعدة في ليبيا الذي يمكن أن يسقط أفريقيا».
* معضلة «داعش»
ومع أن «داعش» شكل نقطة التقاء بين جميع الأطراف المعنية بالأزمة السورية حول ضرورة محاربته، فإن هذا الاتحاد، لم يقد إلى اتفاق نهائي يفرض توحيد الجهود للقضاء عليه، انطلاقًا من حل سياسي وإيقاف الاستنزاف الناتج عن المعارك الجانبية. وهنا يرى سفير لبنان السابق في واشنطن الدكتور رياض طبارة أن «داعش» «قرّبت المسافات لقتالها، لكنها لم تقرب التوجهات التالية وهي الحل النهائي للأزمة السورية»، مؤكدًا أن «الحل النهائي يفتح باب تصنيف المجموعات بين إرهابي وغير إرهابي، فضلاً عن أن قتال (داعش) يحتاج إلى مقاتلين في الميدان، يتطلب إما أن ينزل الأميركيون قوة ضاربة لقتال التنظيم، وإما البحث عمن يحارب التنظيم فعليًا على الأرض».
ووسط هذه التأكيدات، يضيء حطيط نقطة نزاع تجاه التنظيم، فيقول: «الإعلان عن عدو مشترك أمام التحالف الدولي، الذي يحظى بإجماع بالمنطق الإعلامي، لا يُطبق حرفيًا بالمعطى الميداني، بالنظر إلى تقارير غربية تحدثت عن أن المدد الداعشي قرب الحدود التركية لا يزال مستمرا»، مشيرًا إلى أن «أثير وسائل التواصل الاجتماعي الذي تتحكم به الإدارات الغربية، ما زال مفتوحًا بمجمله». وعليه: «فهناك تفاوت بالرؤى وبالآلية حول قتاله»، رغم أن تقارير دولية تحدثت أخيرًا عن تقويض قدرته على جذب المقاتلين، وانخفاض نسبة التجنيد والتواصل إلى مستويات تقارب الـ10 في المائة فقط، عما كانت عليه في ربيع 2015. ويضيف حطيط: «بالمعطى العام، هناك تعاون روسي أميركي، لكن بالتفاصيل ومستقبل ما بعد (داعش)، لا تزال الاختلافات قائمة».
* التدخل الروسي
بدا أن تفعيل النقاش الأميركي - الروسي حول سوريا، كان محفزًا لإطلاق الحل السياسي، وذلك بعد التدخل الروسي بغرض تحقيق توازن عسكري في الميدان، بعد تدهور القوة العسكرية للنظام السوري، وانحسار نفوذه عن رقعة كبيرة من الميدان في الشمال، وتحديدًا في إدلب وريف حلب، وصولاً إلى ريف اللاذقية الشمالي. وعليه دعا دي ميستورا إلى اجتماعات «جنيف 3» التي بدت كقطعة سكر، وضعها المبعوث الدولي على مائدة وفدي النظام والمعارضة كطعم لإحضارهم إلى الطاولة، قبل أن يتضح أنها مجرد طعم، بحسب تعبير المعارض السوري ميشال كيلو.
وبينما يجدد حطيط تأكيده أنه «حتى اللحظة لم ينضج الحل النهائي لما بعد (داعش)، يقول طبارة: «ما فعّل النقاش الأميركي - الروسي، أن بوتين وجد الوقت المناسب للتدخل، وذلك بعدما فشلت أميركا في احتواء (داعش)، واستمراره في التمدد، بالتزامن مع تفاقم أزمة اللاجئين إلى أوروبا، وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا، فتدخل بذريعة محاربة (داعش)، بينما ظهر أن الأهداف تتمثل في تثبيت موطئ قدم له في سوريا». ويضيف: «التدخل الروسي، فتح باب النقاش المباشر بين واشنطن وموسكو على الشأن السوري، لكن غياب التصور النهائي للحل، لم يوصل إلى آخر النفق، لذلك فشلت محادثات جنيف مرة أخرى، وبدلا من أن نصبح في جنيف 15، أوقف دي ميستورا العد، وأعطى الجلسات أرقامًا ضمن إطار الجولة الثالثة من المحادثات».
وينتقد طبارة ما أسماه «تسرع دي ميستورا»، قائلاً: «أتصور أن دي ميستورا على عجلة من أمره لعقد اللقاءات أكثر من اللازم، فعقد اجتماعات من غير وجود قاعدة لها، ما جعلها خطوة غير ناجعة». ويضيف: «الاجتماعات يجب أن تستند إلى أرضية ثابتة، تقوم على اتفاقات على المستوى الدولي وهي مفقودة حتى الآن، وهو ما يضع مصداقية اجتماعات جنيف على المحك، ومن شأنه أن يهدد الاتفاقات المتفرقة لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية».
بالفعل، قاد الفشل في محادثات جنيف الأخيرة، إلى انهيار جزئي للاتفاق الأميركي - الروسي لوقف إطلاق النار في سوريا، وذلك إثر تصعيد عسكري شهدته المنطقة الشمالية، دفع ثمنه المدنيون في مناطق سيطرة المعارضة والنظام في حلب الأسبوع الماضي. وبات اتفاق الهدنة على المحك، إذ انهار في الشمال، من غير الاعترافات بانهياره، بينما حافظ على مستويات مرتفعة من الصمود في الجنوب وحول دمشق، ما خلا خروقات في معارك مع أطراف لا يشملها اتفاق الهدنة.
اليوم ينتظر انعقاد الجلسات الجديدة في مايو من «جنيف 3». لكن الشكوك تحيط بإمكانية نجاحه، في حال بقيت وجهات النظر الروسية - الأميركية متباعدة، بالنظر إلى أن الدولتين تمثلان أكبر التأثيرات بالملف السوري.
* مهام دولية في سوريا خلال خمس سنوات
لم ينجح أربعة مراقبين ومبادرين للبحث عن حل سياسي في سوريا، سبقوا دي ميستورا إلى مهمته.
ففي العام 2012، وصل الفريق محمد أحمد الدابي إلى سوريا. وقبل أن يصل واجه تغطية إعلامية غير مشجعة، ورد فعل من المعارضة السورية غير مشجع أيضا. أما الثاني، فكان الجنرال النرويجي روبرت مود، الذي عين قائدا لقوات المراقبة الدولية، ثم أخذ نصيبه من الغموض: هل هي قوات مراقبة؟ أم حفظ سلام؟ هل هو قائد عسكري؟ أم مبعوث دبلوماسي أيضا؟
في البداية، طلب زيادة عدد القوات، ثم طلب تجميد طلبه، ثم أعلن تجميد عمل القوات، ثم انسحب.
وكان الثالث المناوب الجنرال السنغالي أبو بكر غاي، الذي خلف الجنرال النرويجي، لكنه، لم يكن مبعوثا شخصيا، واكتفى بمنصب ممثل الأمين العام وقائد قوات المراقبة، بعد أن انخفضت من 500 إلى 150 فقط، ثم إلى صفر.
وكان الثالث الرئيسي كوفي أنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، تفاءل، وقدم خطة من 6 نقاط. وبعد 6 أشهر، بدأ يشتكي الدول الكبرى للصحافيين، في مؤتمراته الصحافية. ومما قال: «آن الأوان لتزيد الدول الكبرى الضغط على الأطراف السورية المختلفة.. آن الأوان للتحرك، أكرر: آن الأوان لنتحرك.. الآن»، وحذر من استفحال الأزمة في سوريا، و«احتمال انتشارها إلى الدول المجاورة». وتمكن أنان من عقد مؤتمر جنيف 1 الذي بات أساسًا للمحادثات السورية.
بعد أنان، كان المبعوث الرابع جزائريا، هو الأخضر الإبراهيمي. الذي راهن على الدول الكبرى، التي خيبت أمله. وراهن على مؤتمر جنيف 2 في عام 2014 لتطبيق إعلان «جنيف1» في عام 2012. وانهار «جنيف2» بعد جولتين فقط.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.