نزاع الصحراء.. و«فزاعة أبريل»

هدفها الرئيسي خلق مزيد من «الفوضى الخلاقة» في شمال أفريقيا

نزاع الصحراء.. و«فزاعة أبريل»
TT

نزاع الصحراء.. و«فزاعة أبريل»

نزاع الصحراء.. و«فزاعة أبريل»

عقب التصريحات التي أدلى بها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في مخيمات جبهة «البوليساريو» بتندوف (جنوب غربي الجزائر) مطلع شهر مارس (آذار) الماضي، وعبر فيها عن «تفهّمه لغضب الشعب الصحراوي بسبب احتلال أراضيه»، وأثارت غضب المغرب، تساءل محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب الأسبق في تصريحات صحافية «من يقف وراء الرجل، الذي لا يتصرف إلا وفق توجيهات معينة، وذلك منذ توليه الأمانة العامة للأمم المتحدة؟».
واستبعد بن عيسى، الذي كان أيضًا سفيرًا للمغرب في واشنطن أيام الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون (1993 - 1999)، أن تكون تصريحات بان مجرد «فلتة لسان» أو «رد فعل» على طلب الرباط تأجيل زيارته للمنطقة إلى وقت لاحق، وهي الزيارة التي قام بها بداية مارس الماضي، وشملت موريتانيا والجزائر ومخيمات «البوليساريو»، بل رأى أن لكلام الأمين العام الأممي «خلفيات أعمق على الرباط أن تستعد لها». وحمل تساؤل بن عيسى – آنذاك - رسالة واضحة مفادها «فتش عن أميركا!».
سرعان ما كشف الخطاب الذي ألقاه العاهل المغربي الملك محمد السادس في القمة الخليجية - المغربية في العاصمة السعودية الرياض يوم الأربعاء 20 أبريل (نيسان) الحالي، عن أحدث تطورات نزاع الصحراء، عما سماه «ازدواجية الخطاب بين التعبير عن الصداقة والتحالف، ومحاولات الطعن من الخلف»، في إشارة واضحة إلى واشنطن.
وذهب ملك المغرب بعيدًا حينما قال لقادة دول الخليج بأن «الأمر بلغ إلى شن حرب بالوكالة باستعمال الأمين العام للأمم المتحدة كوسيلة لمحاولة المسّ بحقوق المغرب التاريخية والمشروعة في صحرائه، من خلال تصريحاته المنحازة، وتصرّفاته غير المقبولة بشأن الصحراء المغربية».
و«إن المشكلة تبقى مطروحة مع المسؤولين بالإدارات التي تتغير بشكل مستمر، في بعض هذه الدول». وهو كلام عده المراقبون تلميحًا لإدارة الرئيس باراك أوباما الذي شهدت العلاقات المغربية - الأميركية في عهده توترًا غير مسبوق.
في سياق ذلك، أوضح العاهل المغربي أنه «مع كل تغيير (في الإدارة الأميركية) يجب بذل الكثير من الجهود لتعريفهم بكل أبعاد ملف الصحراء المغربية، وبخلفياته الحقيقية، وتذكيرهم بأن هذا النزاع، الذي دام أزيد من أربعين سنة خلف الكثير من الضحايا، وتكاليف مادية كبيرة، وبأن قضية الصحراء قضية كل المغاربة، وليست قضية القصر الملكي لوحده». ومضى قائلا لحلفائه الخليجيين «المخططات العدوانية التي تستهدف المس باستقرارنا متواصلة ولن تتوقف. فبعد تمزيق وتدمير عدد من دول المشرق العربي، ها هي اليوم تستهدف غربه. وآخرها المناورات التي تحاك ضد الوحدة الترابية لبلدكم الثاني المغرب».
وتابع محمد السادس «هذا ليس جديدًا. فخصوم المغرب يستعملون كل الوسائل، المباشرة وغير المباشرة، في مناوراتهم المكشوفة.. ويحاولون حسب الظروف، إما نزع الشرعية عن وجود المغرب في صحرائه، أو تعزيز خيار الاستقلال وأطروحة الانفصال، أو إضعاف مبادرة الحكم الذاتي، التي يشهد المجتمع الدولي بجديتها ومصداقيتها». وخلص إلى القول إنه «مع التمادي في المؤامرات، أصبح شهر أبريل - الذي يصادف اجتماعات مجلس الأمن حول قضية الصحراء - فزّاعة ترفع أمام المغرب، وأداة لمحاولة الضغط عليه أحيانا، ولابتزازه أحيانا أخرى».
* قصة «فزاعة أبريل»
في أبريل 2013 قدمت واشنطن لمجلس الأمن الدولي مقترح قرار يدعو لتوسيع صلاحيات بعثة «مينورسو» في الصحراء لتشمل وضعية حقوق الإنسان فيها. وردّ المغرب، مستاءً، بإلغاء المناورات العسكرية السنوية المشتركة مع الولايات المتحدة المعروفة باسم «الأسد الأفريقي» التي جرت العادة على تنظيمها في الجنوب المغربي.
بعض الجهات في واشنطن لمحت إلى أن مسودة المقترح الأميركي «ليست قرارًا استراتيجيًا» انطلق من البيت الأبيض أو البنتاغون أو حتى الخارجية، ووصفته بأنه «خطوة منعزلة» من سوزان رايس، المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة آنذاك ومستشارة الأمن القومي حاليًا، التي تربطها علاقة صداقة متينة بكيري كيندي رئيسة «مركز روبرت كيندي للعدالة وحقوق الإنسان»، المتعاطفة مع أطروحة «البوليساريو» المدعومة من الجزائر، والداعية إلى انفصال الصحراء عن المغرب. لكن مصادر أخرى رأت أن ما حدث يجسّد حالة انقسام في الإدارة الأميركية إزاء نزاع الصحراء، مشيرة إلى أن وزير الدفاع – آنذاك - تشاك هيغل استاء من خطوة رايس. بل إن أوساطا كثيرة في واشنطن مطلعة على ملف نزاع الصحراء قالت حينذاك «إن ثمة استياءً في واشنطن إزاء مشروع القرار الأميركي لا سيما أن رايس لم تأخذ الضوء الأخضر من البيت الأبيض، وأن جون كيري وزير الخارجية لم يكن أيضا على علم بخطوتها». وهذا مع العلم أن كيري كان وقّع قبل سنوات من توليه حقيبة الخارجية الأميركية عريضة تطالب بإجراء استفتاء تقرير المصير في الصحراء بيد أن موقعه الآن كمسؤول في الإدارة يفرض عليه التحفظ. وبالتالي، استبعدت الأوساط ذاتها أن تكون لكيري أي علاقة بخطوة رايس، معتبرة أنها كانت مستقلة تمامًا عن القرار الاستراتيجي الأميركي، وأنها «مجرد سوء فهم وانعدام تنسيق» بين دواليب الإدارة الأميركية.
في حينه دارت عجلة الدبلوماسية المغربية بسرعة. وحسب معلومة حصلت عليها «الشرق الأوسط» فإن المغرب عندما علم بخطوة رايس سأل واشنطن رسميًا «هل ما جرى في الأمم المتحدة خطوة تمثل الإدارة الأميركية أم أنها مجرد خطوة منفردة؟». وجاء الجواب أن مشروع القرار الذي اقترحته رايس سيعاد النظر فيه، وأن المغرب سيظل حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، وأن الموقف الرسمي الأميركي يدعم مبادرة الحكم الذاتي التي قدّمها المغرب سنة 2007. التي سبق لمجلس الأمن أن وصفها بأنها «ذات مصداقية وجدّية».
وبالفعل تراجعت واشنطن عن مشروع قرارها، وخرجت العلاقات المغربية - الأميركية من عنق الزجاجة، لكن نار رماد المقترح الأميركي لم تنطفئ تمامًا. ثم جاءت القمة الأميركية - المغربية في واشنطن يوم 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 محاولة إصلاح الكسر الذي طال مرآة العلاقات بين البلدين. وسمع ملك المغرب في البيت الأبيض من الرئيس أوباما إشادة كبيرة بالعلاقات الاستراتيجية بين الرباط وواشنطن، وثناء على ريادته في تعزيز الديمقراطية ببلده ودفعه بالتقدم الاقتصادي والتنمية البشرية خلال العقد الأخير.
رغم ذلك لم تختف «الفزاعة»، وما أن حل أبريل 2014 حتى أجرى الملك محمد السادس اتصالا هاتفيا بالأمين العام للأمم المتحدة قيل في البداية إنه يدخل ضمن الاتصالات والمشاورات الدائمة بين العاهل المغربي والأمين العام، لكنه في الحقيقة كان اتصالا من أجل وضع النقاط على الحروف، وضبط تجاوزات رصدتها الرباط في التقرير السنوي للأمين العام حول قضية الصحراء، والتنبيه إلى زلات محتملة يمكن أن تكون كارثية على مسار القضية فتقوض جهود الأمم المتحدة الهادفة إلى إيجاد حل سياسي مقبول من أطراف النزاع. وقال بيان صدر عن الديوان الملكي المغربي يوم 12 أبريل 2014 إن ملك المغرب أثار انتباه بان كي مون إلى ضرورة الاحتفاظ بمعايير التفاوض كما جرى تحديدها من طرف مجلس الأمن، والحفاظ على الإطارات والآليات الحالية لانخراط منظمة الأمم المتحدة، وتجنب المقاربات المنحازة والخيارات المحفوفة بالمخاطر.
ولعل ما أثار حفيظة المغرب إزاء مشروع تقرير أبريل 2014 أنه عد نزاع الصحراء «قضية تصفية استعمار» من منظور مجلس الأمن، بينما ترى الرباط أن مهمة مجلس الأمن ليست تصفية الاستعمار بل تصفية النزاعات الإقليمية التي تؤثر على الأمن والسلم العالميين، وأعطت مثالا على ذلك قضيتي تصفية الاستعمار في جزر الفولكلاندز وجبل طارق غير المطروحتين على مجلس الأمن. كذلك انتقدت الرباط تقرير الأمين العام لقوله: إنه إذا لم يحصل تقدم لجهة إيجاد حل لنزاع الصحراء في غضون عام 2015، فإن المجلس سيكون مطالبا بإيجاد تصوّر آخر بشأن ذلك. وقال مصدر مغربي مسؤول آنذاك لـ«الشرق الأوسط» إن هذا المعطى المتضمن في التقرير يطرح عدة تساؤلات من بينها أن الأمين العام ومبعوثه الشخصي كريستوفر روس تحدثا عن «مقاربة جديدة للتعاطي مع الملف» من ضمنها الزيارات المكوكية التي أعلن عنها روس، بيد أنهما لم يعبدا الطريق لهذه المقاربة حتى تطبق على أرض الواقع، بل حكم عليها بالوأد قبل ولادتها.
ويومها طرحت الرباط سؤالاً هو «ما طبيعة التقدم المنتظر بشأن ملف نزاع الصحراء في عام 2015، وذلك في سياق الظروف التي كانت وما زالت تعيشها الجزائر؟»، في تلميح لمرض الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والانتخابات الرئاسية التي كانت آنذاك على الأبواب. وعدت أجل 2015 بأنه مقاربة غير ذات موضوع وغير واقعية نظرًا لكونها لا تأخذ الواقع الحالي للمنطقة بعين الاعتبار. وتوقف المراقبون آنذاك عند نقطة أساسية تتعلق بأسس التفاوض، قالوا: إنها ليست بيد الأمين العام بل بيد مجلس الأمن نظرًا لكونه هو من قرر في 2007 إطلاق المسلسل السياسي التفاوضي الحالي. وأشاروا إلى أن لدى المغرب حرصًا شديدًا على المحافظة على هذا المسلسل الهادف إلى تحقيق تسوية سلمية للنزاع، وأن الرباط إذا لاحظت وجود بعض «الانزلاقات والمخاطر التي تهدد هذا المسلسل» ستثير الانتباه لذلك. وبعدها ساد اعتقاد في العاصمة المغربية أن الأمانة العامة للأمم المتحدة لا يمكن لها أن تتعامل باستخفاف مع هذا المسلسل وتمضي من خلال ذلك إلى المجهول، ولكن بمرور الأيام ثبت أنها مضت في ذلك بلا تردد.
* مطلوب تعامل مسؤول
رأى المغرب آنذاك أن الظرف الأمني والتهديدات التي تعرفها المنطقة تتطلب تعاملاً مسؤولاً ورصينا مع هذه الأمور. كما تتطلب مشاورات وتفكيرًا قبل الإقدام على أي خطوة قد تزيد في إضعاف السياق الإقليمي الذي يعاني أصلا من الضعف. وقال مصدر مسؤول مطلع لـ«الشرق الأوسط» إن الاتصال الهاتفي الذي أجراه الملك محمد السادس يوم السبت 12 أبريل 2014 مع بان جاء من منطلق المسؤولية نظرًا لأنه «إذا كان هناك طرف استثمر في المسلسل السياسي التفاوضي لحل نزاع الصحراء فهو المغرب». وشدد على أنه «ليس صدفة أن انطلاق المسلسل تصادف مع إطلاق الرباط مبادرة الحكم الذاتي الموسع في الصحراء، وبالتالي فإن المغرب إذا لاحظ بعض الانزلاقات والمخاطر التي تهدد المسلسل السياسي، سيثير الانتباه إلى ذلك». وهو ما جرى أيضا في المكالمة الهاتفية بين الملك محمد السادس وبان يوم 12 أغسطس (آب) 2012. إلى جانب رسائل كتابية. وخلص المصدر المسؤول إلى أن «ثمة انزلاقات تضمنها تقرير الأمين العام كان ضروريًا إثارة الانتباه إليها وتوضيحها»، وأن الملك محمد السادس تحدث في اتصاله الهاتفي مع بان بكل صراحة، ولمح إلى إمكانيات إنهاء مهام بعثة الأمم المتحدة «مينورسو» فوق التراب المغربي ما لم تصحح تلك الانزلاقات: «نظرا لأن (مينورسو) استنفدت المهام التي قامت من أجلها أي الإشراف على وقف إطلاق النار، والإشراف على عملية تحديد هوية من يحق لهم المشاركة في الاستفتاء بالصحراء، وهي عملية وصلت إلى طريق مسدود، وباءت بالفشل منذ زمن مضى».
واستطاع المغرب أن يتجاوز أيضا «فزاعة أبريل» 2014. ذلك أن قرار مجلس الأمن راعى التحفظات التي أبداها الملك محمد السادس خلال مكالمته الهاتفية مع بان كي مون. ومرت الأيام، وفي يوم 22 يناير (كانون الثاني) 2015. أبلغ بان العاهل المغربي في اتصال هاتفي أن «مينورسو» ستواصل عملها في احترام تام لمهمتها الحالية. وقال بان، وفق بيان للديوان الملكي المغربي آنذاك: «إنه أخذ، كما ينبغي، تعاليق وملاحظات المغرب (بشأن مهمة مينورسو)، وأعطى ضمانات بخصوص حيادية وموضوعية نزاهة مسؤولي الأمم المتحدة المكلفين تسيير المهمة الأممية». وذكر البيان أنه على أساس التوضيحات المعبر عنها والضمانات المقدمة، أكد الملك محمد السادس للأمين العام التزام الرباط بدعم عملية التسهيل التي يقودها المبعوث الشخصي للأمين العام (الأميركي كريستوفر روس)، وتعاونهما مع المسؤولين المعينين لهذا الغرض من طرف الأمين العام. وإثر ذلك، استأنف روس مهامه بزيارة المنطقة ابتداء من 11 فبراير (شباط) 2015، بعدما كان المغرب قد سحب ثقته منه في 17 مايو (أيار) 2012، عقب استنتاج الحكومة المغربية مفارقات في تصرفاته «تتمثل في تراجعه عن المحددات التفاوضية التي سطرتها قرارات مجلس الأمن، وسلوكه أسلوبًا غير متوازن ومنحازا في حالات كثيرة».
وكان وزير الخارجية المغربي آنذاك سعد الدين العثماني قد أبلغ باريس وواشنطن انزعاج بلاده من روس، وعبر للأمين العام عن «هواجس الرباط»، بخصوص تحدث آخر تقرير لروس عن «خروقات اقترفها المغرب في حق بعثة تنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية». إذ ورد في تقرير صادر عن الأمين العام للأمم المتحدة حول الصحراء في 17 أبريل 2012، قدّم إلى مجلس الأمن، أن اتصالات بعثة الأمم المتحدة مع مقر الأمم المتحدة في الصحراء الغربية قد «اخترقت»، وأضاف أن «عوامل كثيرة قوضت قدرة البعثة على مراقبة الوضع ونقل تقارير ثابتة عنه». وكان روس اتهم المغرب بوضع العراقيل في طريق المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة منذ اتفاق وقف إطلاق النار بين «البوليساريو» والمغرب عام 1991 و«التجسس» على بعثة الأمم المتحدة.
وهكذا، مرّت فزاعة أبريل 2015، ولكن لترتفع حدتها في أبريل 2016 بسبب زيارة بان كي مون للمنطقة وأدائه دوره كما اتفق. واليوم، ثمة قناعة في الرباط أن قرار بان زيارة المنطقة في الوقت الذي حدّده لها، مستثنيا المغرب، ليس اعتباطيًا. كما أن الكلمات التي اختارها في تصريحاته هي كلمات من الماضي تجاوزتها قضية الصحراء.
وجاء مشروع القرار الأخير الذي اقترحته واشنطن على مجلس الأمن، مطالبة فيه بعودة أنشطة بعثة «مينورسو» بشكل كامل بعدما تعطلت نتيجة طرد المغرب موظفيها المدنيين، وإمهال الرباط والمنظمة الدولية أربعة أشهر للاتفاق على هذا الأمر، ليؤكد أن «فزاعة أبريل» المستعملة ضد المغرب «فزاعة أميركية» 100 في المائة، وأن تحركات بان - كما ترى الرباط - تدخل ضمن دور الكومبارس الذي يقوم به خدمة لأجندة واشنطن، التي قال العاهل المغربي في قمة الرياض إنها تروم «استهداف أمننا الجماعي.. والمسّ بما تبقى من بلداننا التي استطاعت الحفاظ على استقرارها وأنظمتها، وأقصد هنا دول الخليج والمغرب والأردن التي تشكل واحة أمن وسلام لمواطنيها، وعنصر استقرار في محيطها». وهذا قبل أن يضيف «إننا نواجه الأخطار والتهديدات نفسها على اختلاف مصادرها، فالدفاع عن أمننا ليس فقط واجبا مشتركا بل هو واحد لا يتجزأ».
يذكر أنه سبق للملك محمد السادس أن وجه انتقادات حادة للأمم المتحدة والدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، في خطاب ألقاه يوم 6 نوفمبر 2014، بمناسبة الذكرى الـ39 لـ«المسيرة الخضراء السلمية» التي استرجع المغرب بواسطتها الصحراء التي كانت تحتلها إسبانيا، وطالبها بموقف واضح من نزاع الصحراء. وقال: «في الوقت الذي يؤكدون أن المغرب نموذج للتطور الديمقراطي، وبلد فاعل في ضمان الأمن والاستقرار بالمنطقة، وشريك في محاربة الإرهاب، فإنهم في المقابل، يتعاملون بنوع من الغموض مع قضية وحدته الترابية». وأكد أن مبادرة الحكم الذاتي هي أقصى ما يمكن أن تقدمه بلاده في هذا الشأن، في إشارة إلى محاولات خلفها عدة أطراف تسعى لإقصاء الحل السياسي المقترح من قبل المغرب، وهو ما تأكد اليوم مع ظهور المقترح الأميركي الجديد.
هل سيظهر غدًا في واشنطن من سيقول: إن المقترح الأميركي أيضا «خطوة منعزلة» لسامانتا باور، المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة، ولا تدخل ضمن الاستراتيجية الرسمية الأميركية، كحال خطوة سوزان رايس التي قدمت عام 2013 مشروع قرار يهدف إلى توسيع مهام «مينورسو» لتشمل مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء.
المشروع الأميركي الأخير أدى إلى انقسام في مجلس الأمن إذ أعربت فرنسا وإسبانيا عن رفضهما القاطع له. واعتبرت باريس أن المبادرة الأميركية قد تؤجج – في حال تبنيها – الصراع في منطقتي الساحل والصحراء. وعليه، عملت باريس ومدريد وداكار (سلطات السنغال) على تعديل مشروع القرار الأميركي وتخفيف حدته، احترامًا للمغرب، لا سيما أن الرباط أعلنت أن قرارها القاضي بطرد العناصر المدنية في بعثة «ينورسو» قرار سيادي لا رجعة فيه.
ولكن كيفما كان قرار مجلس الأمن (كان منتظرًا أن يصدر مساء أمس الجمعة)، يرى مراقبون في الرباط أنه آن الأوان لوضع حد لهذه «الفزاعة الأميركية» التي غدت «مسرحية مملة» لكثرة تكرارها. وهم يرون أن هدفها الرئيسي خلق مزيد من «الفوضى الخلاّقة» التي بشرت بها قبل سنوات وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس، وزعزعة استقرار منطقة شمال أفريقيا، التي تعرف تدهورًا أمنيًا وتوترات متنوعة.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».