أمين معلوف و{الهويات القاتلة}

انتماءات مختلفة يجب ألا تختزل بواحد يصبح أداة استعباد وحرب

غلاف «الهويات القاتلة»
غلاف «الهويات القاتلة»
TT

أمين معلوف و{الهويات القاتلة}

غلاف «الهويات القاتلة»
غلاف «الهويات القاتلة»

استرعاني موضوع الهوية مند زمن بعيد. وحاولت أن أكتب فيه بطريقة تحليلية بسيطة وهادفة، بحيث تكون الرسالة واضحة، في موضوع متشعب تحدث عنه الفلاسفة الوجوديون والمثاليون على حد سواء. وتدرجت في الكتابات حول الموضوع، عند نخبة من المفكرين والباحثين من الشرق والغرب، من حسن حنفي، إلى أدونيس، مرورًا بطه عبد الرحمن، وصولا إلى أمارثيا صن وبول ريكور. ولكنني لم أستقر إلا عند الكاتب والصحافي اللبناني، أمين معلوف، في مؤلفه المعنون بـ«الهويات القاتلة».
يدخلنا معلوف، الجامع لثقافتي الشرق والغرب، الذي نصب نفسه جسرًا بين الثقافة العربية، ونظيرتها الفرنكفونية، وصاحب «التائهون»، و«اختلال العالم»، مباشرة إلى صلب الموضوع، والغاية الأساسية التي يثيرها عصرنا، من كل بحث في موضوع الهوية. وهو أن يتجه رأسا إلى الهوية في ارتباطها بالعنف والتدمير. كيف يمكن أن تصبح كل الصراعات السائدة في هذا العالم، مرتبطة بمواضيع حول الهوية؟ لماذا أصبحت الهوية تحمل كل هذا الخطر؟ ولماذا صارت منفلتة من كل سيطرة؟ لماذا أصبحت الهويات قاتلة؟
مر على صدور هذا الكتاب، المتجاوز للهويات، سبعة عشر سنة، وما زال تحليله هذا وافيا كأن الكتاب قد كتب البارحة. حيث لا تزال الهويات إلى اليوم، قاتلة بالفعل. بل وأكثر من أي وقت مضى. فقررت ألا أضيف أي شيء، وأن أقدم قراءة في الكتاب كما هو. وأن أسافر في لغته التي يختلط فيها الأدب بالفلسفة والفن، وفي أفكاره التي يختلط فيها العلم بالتاريخ بالفلسفة، وفي أحاسيس الكاتب المتقاطعة بين الحزن والألم والأمل، على واقع أصبح فيه الإنسان عبارة عن طاقة انفجارية كبرى، لأسباب ترتبط بالهوية التي تحولت إلى وقود سريع الاشتعال، تكفي شرارة واحدة، لتحترق الأوطان، ويضيع الإنسان.
الهوية مفهوم متعدد. فلا فرد إلا وتتشكل هويته من أشياء وخصائص شتى: الدين، والعرق، واللغة، والإثنية، والأهداف، والقناعات، والطموحات، والتاريخ، وغير ذلك كثير جدا. فما الذي يحدد هويتك إذن؟ تحدده كل هذه الأشياء. كما أنك في الوقت نفسه، عنصر فريد واحد لا يمكن استبداله. فنظرة واحدة للذات، تؤكد أنني كوكب مستقل مغلق لا أشبه أي أحد آخر. لكن هذا لا يعني بأن الهوية بناء وحيد ونهائي. بل هو بناء لين قابل للتطور والتغير والتمدد. أما التهجين فلا يأتي إلا من المجتمع. فهو الذي يجعل هذه الهوية قاتلة، بسبب تربيتنا على الأعراف والعقائد، وانغراس الجراح فينا، إلى جانب الأحقاد والإهانات التي لا تنسى، وتظل تتحين الفرصة للانفجار. ويختزل كل ذلك التنوع المميز للهوية، في موقف واحد ونهائي، أساسه اللغة، أو الدين، أو العرق، بشكل مذهبي متسلط. فيتذكر المرء والجماعة آنذاك، جراحاتهم الدفينة والمنسية. وينطلقون نحو الثأر من أصدقاء الأمس أعداء اليوم. ويتوارى ذلك الإيمان بالاختلاف الذي نردده وقت السلم، ليجري اتهام من ليسوا في الجبهة نفسها، بالخيانة والمروق. هنا تصبح الهويات قاتلة، خاصة لما يظهر من بين هؤلاء، قادة انتحاريون. فكم هي كثيرة الجماعات الجريحة التي لا تزال تتحين الفرصة من أجل الثأر. آنذاك يصبح الناس سفاحين من دون أن يدروا. ويستيقظ الجميع ملقين باللائمة على الدين والعقيدة: الإسلام أو اليهودية أو المسيحية، باعتبار أن الدين، هو الدافع الأساسي نحو العنف. وعلى الرغم من أن العقيدة ليست غريبة عن هذه الأحداث، فإنه لا ينبغي لنا اتهامها. فلقد بين القرن الماضي، أن كل العقائد تظل أياديها ملطخة بالدماء. وأسوأ مآسي القرن العشرين جاءت من أطروحات لا دينية. فلا أحد يحتكر التعصب، ولا أحد يحتكر الإنسانية. أما الحركات المتطرفة التي تنصب نفسها متكلمة باسم الدين والدفاع عن الهوية، فهي نتاج عصرنا وتوتراته وانحرافاته وخيباته. حيث يتوجب أن نقلب التحليل من تأثير الدين على الشعوب، إلى تأثير الشعوب على الدين. فنحن ندين مع أجدادنا بالعقيدة نفسها. لكن يجب أن نعلم أن ممارساتنا في الدين اليوم، إذا ما قيست بمعايير الأجداد لاعتبرت شعوذة وبدعًا. لأننا نظل أبناء عصرنا أكثر من أن نكون أبناء أجدادنا. وبالتالي يظل كل اتهام للعقيدة، وكل دفاع عن الهوية باسم العقيدة، مجرد كلام لا معنى له، بل إن ذلك هو الجنون القاتل.
إن هذه النظرة التي تحدد الهوية، من وجهة نظر عقدية دينية، ليست إلا حالة عارضة تميز عصرنا. فلماذا أضحت الهوية تختزل فقط في الدين؟ ولماذا تتنافى كل المحددات الأخرى ولا يظهر إلا الدين؟ يرجع ذلك بشكل كبير، إلى الحداثة التي جرحت الكثير من الشعوب، ومن بينها الشعوب المسلمة. حيث أصبحنا نعيش الإحباط والخيبة والإهانة في كل خطوة نخطوها. مما مزق هويتنا، وجعلنا نشعر بأننا في عالم ليس عالمنا. عالم يمتلكه الآخرون ويخضع لقواعدهم. فولد هذا في أنفسنا، ذلك اليأس الذي لا نخرج منه إلا عن طريق العنف الإنتحاري. وعلى الرغم من كل عمليات الإصلاح التي قام بها العالم العربي، فإنه لم يكتب لنا النجاح، بسبب الغرب ذاته الذي كان يقف دائما حجر عثرة. وفهمنا بلغة بليغة أن الغرب لا يريد أن يشبهه أحد، ويريد فقط أن نطيعه. فأصبحنا ننظر للغرب باعتباره حصان طروادة، ونبحث لنا عن ملجأ للاختباء. هذا الإحساس هو الذي سيساهم بشكل كبير، في بعث الفكر الديني من جديد، خاصة مند خمسينات القرن الماضي. وقد عززه سقوط الشيوعية وتناقضات النموذج الغربي على الرغم من انتصاراته، وخسارة القومية الماركسية، وفشل الوطن والعرق والطبقة، في تعويض الانتماء الديني وإغراءاته. فعندما يرى المجتمع في الحداثة يدا غريبة، فهو يميل إلى رفضها وحماية نفسه منها. مما يولد رفضا قاطعا وساخطا وانتحاريا كردة فعل. هي قوة الدين وإغراءاته وقدرته على احتضان الإنسان وتقديم البدائل، ولو كان ذلك مجرد وهم. هنا أصبح المسلم الفرنسي ذي الأصول العربية، يقدم انتماءه الديني على انتمائه الفرنسي. وأصبح اليهودي ذي الأصول الألمانية، يقدم انتماءه الديني على انتمائه الألماني. فالدين حماية وحصن وأمان، اتجاه تهديدات العولمة والخوف من تمزق الهوية. وهو ملاذ وطريق يحمينا من التيه، بعدما أصبحنا نحس بأن كل العالم معرض عنا. وبالتالي فإن كل عدم فهم لهذه المعطيات، يمكن أن يأتي بنتائج كارثية. فنتجه إلى غير الأسباب. ونتهم الجماعة ونحاربها ونزيد في أحقادها وجراحاتها. آنذاك نحن نطفئ النار بوقود قابل للاشتعال.
لا يمكن تجاوز خطر الهوية إلا عن طريق خلق تبادل عادل بين الشعوب، واحترام لغاتها وعاداتها وثقافاتها، بحيث لا يشعر أحد أنه مهدد أو محتقر، إلى درجة أن يكون مضطرا لأن يواري بخجل ديانته أو لونه أو لغته. وكذلك ضبط العولمة الحالية في اتجاه واحد، لأن العالم للجميع وليس لعرق بعينه أو قومية، بحيث لا يشعر أي إنسان بنفسه مستبعدًا عن الحضارة المشتركة التي تبصر النور، والعمل بقوة على فضح عيوب العالم وتعدياته ومظالمه وانحرافاته القاتلة، والتمكن من آليات المواجهة من أجل البقاء على قيد الحياة. كما أنه يجب على الشعوب المسحوقة أن تعرف كذلك، بأن العولمة لم تعد أداة لخدمة نظام واحد ونهائي. بل أصبحت بمثابة معركة تجري فيها ألف مبارزة ومبارزة. حيث يمكن لكل فرد أن يدخل إليها مزودا بشعاراته وأسلحته. ولنأخذ الإنترنت مثالاً على ذلك. فهو على الرغم من أنه يحمل الشعار الأميركي ويسوقه، فإننا بواسطته أصبحنا نعرف العالم كما لم نعرفه من قبل. وتعرفنا على ثقافات أخرى لم نكن نحلم أن نعرفها يوما. وتأتينا النماذج كل يوم، لتؤكد أن الذين يقاتلون ضد الجوع والطغيان، قادرون على كسب المعركة. حيث يمكن لأي فكرة مهما كانت شاذة أن تصبح مقبولة. كما أنه يتوجب علينا دائما العمل على القيام بفحص دقيق لهوياتنا مع الآخرين، من أجل رؤية التشابهات، وليس دائما الانحرافات. فنظرتنا هي التي غالبًا ما تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة. ونظرتنا كذلك، هي التي تحررهم. فالمؤمن الحقيقي، هو المؤمن ببعض القيم التي يمكن تلخيصها في كرامة الإنسان. وما الباقي سوى خرافات أو أضغاث أحلام.
يختار أمين معلوف حيوان الفهد، ليماثل بينه وبين الهوية. الفهد يقتل إذا طاردناه، ويقتل إذا تركناه طليقا. والأسوأ أن نتركه في الطبيعة بعد أن نكون قد جرحناه. لكننا نستطيع أن نروض الفهد. مما يعني أنه لا يجب أن تعالج الهوية بالاضطهاد والتواطؤ. بل يجب تفحصها ودراستها بهدوء، وفهمها ثم السيطرة عليها وترويضها، إذا كنا لا نريد أن يتحول العالم إلى غابة. وإذا كنا نريد تجنب أن يصبح أطفالنا بعد خمسين عاما أو مائة عام مضطرين، أن يشهدوا مثلنا نحن العاجزين، المذابح وعمليات الطرد، وأن يخضعوا لها أحيانا، فلا بد من التماهي مع العالم الذي نحيا فيه، وفي الوقت نفسه، نتماهى مع عالمنا. يجب أن ندرك بأن هويتنا هي حصيلة انتماءات مختلفة، بدلا من اختزالها إلى انتماء واحد ينصب أداة استعباد وحرب.



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.