في «السعودية 2030»: أين تذهب هذا المساء؟

في «السعودية 2030»:  أين تذهب هذا المساء؟
TT

في «السعودية 2030»: أين تذهب هذا المساء؟

في «السعودية 2030»:  أين تذهب هذا المساء؟

في عام 1987 كنتُ أدرسُ في معهد بالعاصمة البريطانية لندن، سألني معلم اللغة الإنجليزية: لو كنتُ في السعودية، أين أذهب هذا المساء؟
عقدت لساني الحيرة، قلت: ربما عليك أن تبقى في منزلك! قال مستغربًا: ماذا بشأن عطلة نهاية الأسبوع، هل يمكنني الذهاب إلى المسرح، أو السينما؟ ماذا يعرض الـ«برودواي» في الرياض؟ قلت: ليس لدينا «برودواي»، ولا وجود لصالات سينما أو مسرح.. لذلك يتعين عليك أن تبقى في البيت وتشاهد قنوات التلفزيون أو أفلام الفيديو، إذا أحببت.
لم يكن الجواب شافيًا، فجميع الطلاب من جنسيات مختلفة رأوا فيه «حالة» تحتاج إلى نقاش، أحدهم سأل: كيف لبلد ثري ونفطي ألا يمتلك مجالاً لتوفير البهجة لأبنائه؟
بالأمس، وضع الأمير محمد بن سلمان يده على الجرح، قال في حواره مع «العربية»، وهو يشرح «رؤية السعودية 2030»، إن المواطن السعودي يتمتع بدخل مرتفع مقارنة بالدول الأخرى، ولكن «المشكلة لا توجد الأدوات التي يستطيع أن ينفق بها هذا الدخل بشكل ينعكس على رفاهيته في الحياة».
وأضاف: «نجد دولا أخرى أقل منا بكثير في مستوى الدخل والوضع الاقتصادي، لكن المستوى المعيشي جيد، لأن (المواطن) لديه فرص ترفيهية جيدة، ولديه فرص ثقافية جيدة، وبيئة جيدة تجعله ينفق الدخل الضعيف الذي لديه، ويستمتع به».
الأمير محمد بن سلمان تحدث عن سعي الحكومة لتحويل الترفيه والثقافة رافدين مهمين لتحسين مستوى معيشة السعودي خلال فترة قصيرة.. وقال: «نعاني شحًا في الخدمات الثقافية في السعودية»، وأكد أن «الترفيه والثقافة سيكونان رافدين مهمين جدًا، في تغيير مستوى معيشة السعودي، خلال فترة قصيرة».
أهمية هذا الكلام أنه يؤكد أن الثقافة والترفيه يمكن أن يسهما في تحسين مستوى معيشة الناس، وبالتالي فإن غيابهما يساهم بصورة غير مباشرة في غياب البهجة عن المجتمع.
هل من المعقول أن مواطن هذه البلاد الشاسعة، التي يمتلك كل فرد فيها (ما معدله) خطين للهاتف الجوال وجهازا رقميا واتصالا مباشرا بشبكة الإنترنت ويملك دخلاً معقولاً وطاقة شبابية هائلة، لا يستطيع أن يكون سعيدًا؟
هل نتصور بلادنا، وهي من أكثر بلدان العرب استهلاكًا للسينما ولديها صناعة سينمائية رصينة ولديها جميع عناصر الإبداع الفني، وليس فيها صالة سينما واحدة؟
أين يذهب الشاب هذا المساء.. إذا لم يجد وسائل الترفيه الممتع، ومراكز الثقافة، وصالات العروض الفنية والتشكيلية والمسرحية والاستعراضية؟
أصبحت الشوارع والطرقات أكثر الأماكن التي ينساب فيها هذا النهر الكبير من الشباب.. يقودون سياراتهم، ويحرقون الطاقة، ويرفعون الضغط العصبي على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم، ومعه يرتفع منسوب الإحباط والشعور بعدم الرضا.
كذلك، فإن الحديث عن الرؤية الثقافية التي تستوعب التاريخ الحضاري لهذه البلاد الممتد عبر الأزمان للتعبير عن مختلف الثقافات والحضارات التي مرّت على البلاد، ولا يتوقف فقط عند التاريخ الإسلامي، رغم أهميته، يمثل بعدًا جديدًا في تحديد هوية الإنسان وتكوينه الثقافي والحضاري، هذا الهوية التي تربطه بالعالم وتشده للحضارة الإنسانية أينما وجدت، وتستدعي اتصاله وتواصله، وليس انفصاله وقطيعته، مما يحتم أن يكون شريكًا في التاريخ والتراث والحضارة البشرية ومتفاعلاً معها.
بعد هذه «الرؤية»، نرجو ألا يطول الجواب عن السؤال المحرج: أين تذهب هذا المساء؟



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.