التيه ومأزق البحث عن الهوية

التطبيع والتعايش بين الأديان والقوميات في رواية فلسطينية

التيه ومأزق البحث عن الهوية
TT

التيه ومأزق البحث عن الهوية

التيه ومأزق البحث عن الهوية

يقتضي تحليل رواية «والتيه والزيتون» للروائي الفلسطيني أنور حامد المقيم بلندن حاليًا أن نتوقف عند بعض التقنيات التي يعتبرها مسلمات أساسية في الكتابة الإبداعية فهو يفرق بين الروائي والراوي ولا يعتبرهما شخصًا واحدًا، فالأول مجرد ناقل محايد للأحدث بينما الثاني مشارك في صناعتها، لكن تبرئة ذمة الروائي لا تلغي إمكانية تلمس رؤيته الفنية والفكرية في صياغة العمل الأدبي برمته.
يدعي الكاتب أيضًا أن هذه الرواية هي من صنع الخيال لكنه يستدرك حضور الواقع فيها بعد تمثله، وإعادة صياغته من جديد وكأنه يريد القول إن أحداث الرواية منبثقة من الحيز الضبابي الفاصل بين الحقيقة والخيال.
قد يتبادر إلى الذهن أن البطل الرئيس في هذه الرواية هو الراوي منير حمدان الذي يأتي من لندن إلى حيفا لإحياء أمسية ثقافية وحفل توقيع لروايته الجديدة لكننا نكتشف لاحقًا أن جمال أبو سالم، ضابط الأمن في المطار، سوف يختطف من الراوي جزءًا كبيرًا من بطولته، تمامًا كما تختطف زوجته أمل قسمًا كبيرًا من الأضواء المسلطة على حبيبته سمر آخذين بنظر الاعتبار أن الهيكل المعماري للرواية يقوم على هذه الشخصيات الأربع تقريبًا، دون أن نقلل من أهمية الشخصيات الثانوية المؤازرة التي كانت تظهر وتختفي على مدار النص الروائي.
يراهن أنور حامد في رواياته الست على الثيمات الحساسة التي تحتاج إلى نوع من المجازفة التي لا يقدم عليها إلا كتاب شجعان من طراز غسان كنفاني وأميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، ولعل سؤال الهوية هو أبرز ثيمة من ثيمات النص المتعددة، فهو يتوزع على جميع الشخصيات تقريبًا لكننا آثرنا الاكتفاء بردود فعل الشخصيات الأربع المشار إليها سلفًا على سؤال الهوية، وطبيعة الانتماء لهذا الطرف أو ذاك.
تتوفر الرواية على حبكة قوية لكن هذه القوة تهتز في بعض الأحيان بسبب سلوك الشخصيات النسائية، وبالذات سمر وأمل وسلوى اللواتي يقفزن على الواقع العربي المعروف بثوابته الدينية والاجتماعية والأخلاقية. وبغية تتبع تطور الشخصيات، ونمو الأحداث لا بد لنا من إمساك خيط الحبكة من أوله. فحينما يصل الراوي منير حمدان إلى مطار تل أبيب يستجوبه ضابط الأمن جمال أبو سالم الذي يتحدث بلغة عربية سليمة، ثم يختم جوازه ويتمنى له إقامة ممتعة في إسرائيل. لم يتوارَ جمال تمامًا، بل سيظهر في المحاضرة، ويطلب من منير أن يوقع له الرواية التي سيقرأها في يوم واحد، ثم يطلب مقابلته من جديد، ويأخذه إلى المنزل، بعد أن منعوه من دخول نادٍ خاص مقتصر على الأعضاء، وهناك يتعرف على زوجته أمل، المسلمة السنية التي تعد أطروحة الدكتوراه عن موضوع «الأدب النسائي العربي». وسوف يكون للطرفين (أمل وجمال) دور في تطور الأحداث وتفاقمها، خصوصًا بعد أن نعرف أن جمال درزي والدروز، كما هو معروف، لا يجدون حرجًا في الالتحاق بالجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية التي تفتك بالفلسطينيين.
لم يبدأ أنور حامد روايته بداية تقليدية من وصول منير إلى مطار تل أبيب وإنما استهلها بلقاء هذا الراوي مع سمر القارئة الشغوفة التي قرأت كل رواياته، وحاولت أن تحضر بعض أمسياته في يافا ورام الله العام الماضي لكنها فشلت لذلك أصرت على لقائه هذه المرة وأخبرته بأن «هوايتها المفضلة هي السباحة عارية على شاطئ حيفا في ساعات الفجر الأولى». لا شك في أن هذه الجملة مثيرة وتكشف عن جرأة صاحبتها المتحررة التي تمتلك شخصية قوية تريد أن تتمرد على الأسرة والقبيلة والمجتمع. ولا تجد ضيرًا في ممارسة الحب مع منير الذي يكبرها بثلاثين عامًا، وتريد أن تتزوجه وتسافر معه إلى لندن، خصوصًا أن والدها رفض تزويجها من شخص مسيحي تقدم لخطبتها. ترى، هل يمكن تصديق هذا السلوك الجنوني على المستويين الفني والواقعي علما بأنها مهندسة معمارية وتنحدر من عائلة فلسطينية مسلمة لا تستطيع أن تتجاوز الثوابت الأخلاقية المعروفة بحجة نزوة عابرة؟ تتكرر هذه اللقاءات الإيروسية غير مرة إلى أن يضبطها الوالد وهي تتسلل من غرفتها في أول الفجر فيمنعها من الخروج من المنزل أو الذهاب إلى العمل حتى يعود هذا الضيف الثقيل إلى منفاه.
على الرغم من أن شخصية أمل الفلسطينية المسلمة التي تحدت الأعراف الاجتماعية واقترنت بجمال أبو سالم، ضابط الأمن الدرزي، وقبلت أن تعيش مغتربة ومعزولة عن أهلها وأهل زوجها في آنٍ معًا، إلا أنها انفتحت كثيرًا على منير وجازفت بحياتها الأسرية مرات كثيرة بطريقة لا يقبل بها العقل والمنطق، ولعل محاولتها الأخيرة بتهريبه إلى الضفة هي خير دليل على تهورها الذي سيفضي بها إلى الطلاق وتقويض حياتها الأسرية.
تفاجئنا الناشطة سلوى بحجابها وعدم مصافحتها للرجال أول الأمر لكنها تطلب من منير لاحقًا أن يأتيها بكأس من الجعة، ثم تقبله قبل أن تغادر الفندق تاركة إياه يترجح بين الدهشة والذهول. كان على الروائي أو الراوي نفسه أن يفلتر مواقف النساء الثلاث على الأقل، وأن يجعل تمردهن في حدوده المعقولة التي لا تثير استغراب القارئ العربي الذي يعرف سلفًا البئر الفلسطينية وغطاءها.
لم يشعر منير بالدونية وهو يتمشى في شوارع إسرائيل، لأن جوازه البريطاني قد منحه الإحساس بالندية على العكس من جمال الدرزي، الذي منعوه من الدخول إلى النادي الخاص على الرغم من بطاقته الأمنية وإخلاصه التام لوظيفته. فمأزق الهوية يمتد من أمل المغتربة في تل أبيب، إلى جمال الدرزي، وإلى كل الفلسطينيين الذين تعايشوا مع اليهود في إسرائيل.
حاول أنور حامد أن يتوقف عند معظم القضايا الإشكالية مثل التطبيع، وطمس الهوية التاريخية لبعض المدن الفلسطينية، وملاحقة الناشطين وما إلى ذلك. ولقد نجح فعلاً في الإحاطة بعدد غير قليل من الموضوعات الحساسة أو المسكوت عنها مثل التعايش بين الأديان والقوميات خصوصًا حينما تكون الأوضاع هادئة.
تعالج الرواية في جانب منها النظرة الفوقية لبعض الفلسطينيين من سكان المدن تجاه الناس البسطاء من سكان القرى والأرياف في قلنسوة والمثلث ومدن الضفة برمتها، ويكفي أن نقتطف من حديث والد سمر الجمل الآتية التي يقول فيها: «شفتيهم على شواطئ تل أبيب، بدخلوا بالبحر بأواعيهن، وبيقعدوا يتغدو عالشط بيتركوا وراهن مزبلة!» (ص151). وعلى الرغم من نبرته الانتقادية اللاذعة، فإننا لا نستطيع أن نشكك في وطنيته فهو فلسطيني حتى النخاع وهناك كثير من المواقف التي تؤكد صحة ما نذهب إليه.
لا يفلح الراوي في اختراق الحدود كي يلتقي بأمه المريضة التي دخلت في مرحلة الغيبوبة ولم تعد تتذكر أحدًا. وحينما واجهت الأم مصيرها المحتوم قررت أمل أن تهربه إلى الضفة مهما كانت النتائج، لكن زوجها جمال كان يلاحقها وقبل أن يصلا إلى معبر «جبارة» قرب مستوطنة عناب حدث ما لا تحمد عقباه، إذ صفعها بقوة أمام منير وحذره من التدخل، لأنه سبب كل المصائب.
وقبل أن يعود الراوي إلى بلده تكتب له سمر على «الماسنجر» بصيغة استفهامية مفادها: «هل فعلاً صدقت أنني أحببتك؟»، ثم نكتشف أنها كانت تحب مجازاته، وكانت مبهورة بكتاباته وجنونه وفوضاه لا غير!



انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

* أكاديمي وناقد من العراق.