قضية الأدب الإسلامي في عصر الحداثة.. ترف ثقافي أم محاولة للاستقصاء؟

ظهر المصطلح قبل 3 عقود وأسست له رابطة عالمية انتقلت من الهند إلى السعودية

د. حسن الهويمل  -  د. مرزوق بن تنباك  -  د. معجب العدواني
د. حسن الهويمل - د. مرزوق بن تنباك - د. معجب العدواني
TT

قضية الأدب الإسلامي في عصر الحداثة.. ترف ثقافي أم محاولة للاستقصاء؟

د. حسن الهويمل  -  د. مرزوق بن تنباك  -  د. معجب العدواني
د. حسن الهويمل - د. مرزوق بن تنباك - د. معجب العدواني

ظهر مصطلح الأدب الإسلامي قبل أكثر من ثلاثة عقود من خلال دعوة بعض الأدباء الإسلاميين إلى التفكير في إنشاء مظلة تجمع صفوفهم وترفع صوتهم وصولاً إلى تحقيق التأصيل للأدب الإسلامي، ونقد المذاهب الأدبية العالمية، ومناهج النقد الحديثة، وإيضاح ما فيها من إيجابيات وسلبيات، وتوج ذلك بإنشاء رابطة الأدب الإسلامي العالمية، اتخذت من بلكنو الهندية مقرًا لها وذلك عام 1986، ثم انتقل المقر إلى الرياض عام 2000.
«الشرق الأوسط» طرحت قضية الأدب الإسلامي ومدى صلاحية هذا التصنيف في هذا العصر الموسوم بعصر الحداثة، ودور هذا النوع من الأدب في أدلجة الأدب بعموميته، وتعويم تيارات الإسلام السياسي، وماذا يمكن أن يقدمه هذا الأدب لمجتمعات تنشد حداثتها، واستطلعت بهذا الخصوص رأي بعض الأدباء والنقاد من السعودية فكانت هذه الحصيلة.
يشدد الدكتور مرزوق بن تنباك الباحث والأكاديمي والأديب السعودي وعضو في هيئة التدريس بقسم اللغة العربية - كلية الآداب - جامعة الملك سعود، على أن المرحلة الحالية تجاوزت الدعوة لأدب إسلامي أو غيرها، لافتًا بالقول: «نحن اليوم دخلنا فيما هو أهم بكثير من الدعوة للأدب أيا كان نوعه، وأصبحنا في مرحلة البحث عن الوجود وما تراه يعصف في المحيط العربي والإسلامي، وهو لا يترك فرصة للترف الثقافي والاختلاف حول المناهج التي كانت سائدة في العقود الماضية. الفرز الكبير والتصنيفات الآيديولوجية الدينية والسياسية المعاصرة كانت أكبر من التوقف عند جنس من الأدب أو موضوعه، وقد انشغل الأدباء والمثقفون من كل طرف بما آلت إليه أحوال العرب في البلاد وأنت ترى أن هناك عددا من البلاد العربية أصبحت بلا حكومة ولا نظام مستقر وانتقل الحال من التنظير للأدب إلى الانخراط الفعلي فيما يسمى العمل الجهادي، وأسميه الفتنة الكبرى، وأصبح كل من كان ينظر له مشغولا فيما هو أكبر مما كان يدعو إليه.
وبخصوص اعتقاد دعاة الأدب الإسلامي باستمرارية مثل هذا الأدب في هذا العصر، يقول بن تنباك: «كانت الدعوة إلى الأدب الإسلامي في تلك الفترة مما يرونه ومن حقهم أن يروا ما شاءوا، وليس الاعتراض على صلاحه أو عدم صلاحه. الاعتراض كان على مبدأ تصنيف الأدب إلى إسلامي وغيره، وقد كان رأيي ينطلق من هذا المعنى. فرفضي في ذلك الوقت كان رفضًا للتصنيف من حيث المبدأ ولم أنظر للمضمون، لأن المضمون في الأدب يعبر عنه في جملته وضمن المعنى العام. وقد وجدت المعاني والمضامين الإسلامية وغير الإسلامية منذ القدم ولم يعترض النقاد على الاتجاهات أيا كان موضوعها، وإنما التصنيف هو موضوع الاعتراض. وقد وصفت بداية محاولات التصنيف تلك بأنها بدعة ونشرت ذلك في مجلة (المسلمون)، التي كانت تصدرها جامعة الإمام ويرأس تحريرها داود الشريان. في تلك الفترة قد بلغت الصحوة أوجها، ولم يستطع أحد أن يقف في طريق مدها الجارف حيث نشط دعاة الأدب الإسلامي بالندوات والمحاضرات وتأليف الكتب وتجميع المؤيدين لنظرية الأدب الإسلامي».
وبخصوص رؤيته بشأن الأدب الإسلامي وهل يعد غطاء لأدلجة الأدب، وتعويم تيارات الإسلام السياسي. ويضيف ابن تنباك: «ليس المراد هو التفتيش عن نيات الناس، المقصود أن هناك حراكا قويا للفرز، وهذا ما لم يحدث في كل العصور الإسلامية بغض النظر عن الغاية من ذلك وكان من الموضوعية ومن الرؤية النقدية المجردة أن يعترض النقد على قضية أدبية طرحت للنقاش ورأيت أن لي رأيا في هذه القضية، فحاولت أن أمارس حقي في نقد الاتجاه الذي حمل رؤية يدلس بها حتى يقبلها المجتمع وتجد من الأنصار الكثير، حيث إن ظاهر الحركة النقدية مبرر بالميل الطبيعي من الشعب المسلم الذي يحب أن يرى الإسلام وشعره، وكل ما فيه صالحا ومفيدا ونافعا وهو الشيء الذي جعل الكثير ممن له رؤية نقدية يحجم عن مناقشة دعاة الأدب الإسلامي، والأمر مفهوم من وجهة النظر الموضوعية، لكن التخصص ومعرفة بواطن الأمور يجعل المرء لا يقف مع الناس على حساب التخصص، ومعرفة المناهج التي سار عليها القدماء من النقاد الذين قبلوا مجمل الأدب إسلامية وغير إسلامية. وقد كان أدب الجاهلية قبل الإسلام هو المثل الأعلى للمسلمين ولم يناقض ذلك إسلامهم ولم يجدوا في دراسته وتفضيله على كثير من أدب المسلمين بأسا ولا ممنوعا، لا شرعا ولا عقلا، وقد كانت قصائد الجاهليين هي النموذج الأعلى في كل ما خلفه النقاد المسلمون من تراث ما زلنا نعيش عليه ونردده في كل ما يتعلق في جمال الشعر وقيمه الخالدة، كما لم تجعل النماذج الرائعة من الشعر الإسلامي القديم النقاد المسلمين يعزلونها ويخرجونها من مسار الأدب العام إلى مسارات تخصها وتنكر غيرها.
وزاد بالقول: «أما التعويم كما ذكرت، فالاتجاه الذي سلكه دعاة التصنيف المحدثون في نخل الشعر القديم وتوظيف النصوص لما يوافق رؤيتهم شيء طبيعي أن يبحثوا عما يؤيد حجتهم ورأيهم الذي يرون وهو أمر مقبول في البحوث العلمية ولا تنسى أن الشعر في القديم كان هو الأداة الفاعلة والمؤثرة، بل كان هو الصحيفة الناطقة في لسان السياسيين والمعين القوي لهم، وليس هناك حزب سياسي في تراثنا القديم إلا كان الشعر وكان الشعراء هم الذين ينشرون الدعوة لهذا الحزب أو لذاك، وقد انغمس الشعراء في القديم في الخلافات السياسية وعبر كل فريق منهم عن رأي حزبه الذي ينتمي إليه وجماعته التي يدافع عنها ومارسوا السياسة مبكرا ودافعوا عن الساسة وحطبوا في حبلهم وبرروا مواقفهم وحروبهم وانتصرت كل مجموعة من الشعراء لتيار سياسي يرون أنه يخدم مصالحهم السياسية وباختصار لا يمكن عزل الشاعر ولا الشعر عن السياسة، لأن السياسة إدارة المجتمع وهم جزء مهم من مجتمعاتهم التي يعيشون فيها ولهم رأيهم فيما يعمل الناس وما يقبلون وما يرفضون.
وحول ما يمكن أن يقدم الأدب الإسلامي لمجتمعات تنشد الحداثة، يشير الدكتور مرزوق بن تنباك إلى أن الأدب بغض النظر عن مضمونه إسلاميًا أو غير إسلامي، يقدم أشياء كثيرة ومهمة لأنه بالمردود العام هو تصور للحياة التي يعيشها المجتمع وتفاعل وجداني لا تمنع وحدانية المبدع للأدب من مشاركة المجتمع له فيما يبدع فيه، وميزة الأدب أن المبدع فرد أو أفراد والمتلقي هم الجمهور العريض الذي يتفاعل مع ما يقدمه الأديب ويستجيب سريعا معه ويتفاعل في كل ما يطرح المفكرون. الأدب أوسع العلوم الإنسانية مساحة للتفاعل الإيجابي في كل الأحوال وتأثيره كبير على العامة والخاصة وفي العصر الحديث لم يتزحزح الأدب عن مكانته التي كانت له في كل العصور. ولعل ما تراه الآن ويصلك بالناس من الشرق والغرب هو الأدب أكثر من أي شيء آخر، فالإعلام والشعر والقصة والرواية والأفلام وما على خشبة المسرح من تمثيل للحياة بكل تفاصيلها صغيرها وكبيرها وما يقبل منها وما يرفض هو في مجمله داخل ضمن الإطار الضخم الذي نسميه الأدب الكبير ولا تستغني الحداثة عما لا يستغني الناس عنه.
ومع أنني أعترض منذ القديم على تصنيف الأدب، إلا أنني لا أصادر حق المبدعين في مضامين الأدب ورسالته الإنسانية إن كان محتواه يحمل رؤية إسلامية فمن حق المبدع أن يرسم إبداعه وموضوع أدبه ولا أرى تحريم ذلك الحق ولا تجريمه، فالفكر الإسلامي ثري في تاريخه كله ومملوء بالجوانب المشرقة التي أبدعها الأدباء المسلمون والفلاسفة، ولم يحدث أن منع الناس العقل من الإنتاج الفكري من أجل أنه إسلامي، الإسلام قدم للبشرية عباقرة في كل العلوم النظرية، والأدب أهم هذه العلوم وأكثرها انتشارا في الآفاق، وقد عرف العالم أدب المسلمين وتتلمذوا على الجميل منه، وحسبك أن تعرف أن «ألف ليلة وليلة» هي أدب للمسلمين وتراث لهم، وتعرف مكانتها في التراث العالمي ولو لم يكن للاعتراض على تصنيف الأدب الإسلامي إلا أن «ألف ليلة وليلة» ستخرج منه حسب شروط منظريه لكفى ذلك سببًا للاعتراض.
ومن جانبه يرى الدكتور معجب العدواني، أستاذ النقد والنظرية المشارك في قسم اللغة العربية وآدابها - كلية الآداب - جامعة الملك سعود في الرياض، أن الإشكال ليس في كون المصطلح (الأدب الإسلامي) أطلّ علينا في عصر موسوم بالحداثة، وتهيمن عليه آفاق ما بعدها فحسب، بل في كونه مصطلحًا يتناقض أوله مع آخره، وفي كونه يصنف المنتج الإبداعي ويضعه في صندوق مغلق، ووفقًا لذلك يعارض ما هو غير إسلامي، وفي كونه منطلقًا من تفكير أحادي (غير حواري)، وغير منتم إلى أساس فكري؛ يقدس المضمون، ويهمل التركيب، ولنبدأ من المفردة الأولى (الأدب)؛ وهي مفردة تشير إلى جانب الكتابة الإبداعية التي لا تقف لدى ما هو مألوف ومعتاد في اللغة، وتسعى إلى نمو المجتمعات الإنسانية بما يتوافق مع مبادئ الحق والخير والجمال.
ويضيف: «أما المفردة الأخرى (الإسلامي) فقد وضعت في غير سياقها في حقبة سابقة؛ نتيجة جهود بعض الدعاة في ترسيخها؛ فظهر لدينا زواج إسلامي وزي إسلامي وشريط إسلامي، وغير ذلك من القوالب التي لم يسبق لها سابقة في التاريخ الإسلامي والإنساني، ولا تشي إلا برؤية أحادية، تستبعد الآخر القريب، وتقصي البعيد. وتبلورت تلك الأفكار المشتتة في اتجاه بدا جاهزًا للتطرف، وكان أكثر قابلية للصراع. وبالنظر إلى موقع رابطة الأدب الإسلامي الشبكي يمكننا تأكيد أزمة صياغة هذا المصطلح، وضعف منجزه إبداعًا ونقدًا، مع كثرة الوعود وندرة النتائج».
ويؤكد العدواني على أن وصف هذا الأدب بـ«الإسلامي» يستبعد لدى من يؤسس لذلك النظر إلى تراثنا الشعري والسردي؛ فالمعلقات أدب غير إسلامي، وكتاب «ألف ليلة وليلة» ومثله كتاب «كليلة ودمنة» والسير العربية القديمة لا علاقة لها بالأدب. وهذا يحدث نوعًا من الارتباك لدى الأجيال العربية، ويؤثر على الدارسين من الأمم الأخرى، إلى جانب خلق فجوة في تلقينا لآداب الشعوب الأخرى في شرق الأرض وغربها؛ فهل يمكن استبعاد تلقي تلك الآداب نظير تلقينا لمصطلح صيغ بصورة تهمل البعد الفني مقابل الاحتفاء بالأبعاد المضمونية.
واعتبر الدكتور معجب العدواني أن مصطلح «الأدب الإسلامي» وقع في خطأ «الجزئية» الذي يرسخ له في مبدأ القبول والرفض، وكان اتجاههم - ولا يزال - مرسخًا ملامح فكر أحادي، لا يمكن القبول به في حقل الأدب الذي يعارض الأحادية، ويدعو إلى التعددية؛ ولو عدنا إلى الحضارة العربية سنلمح الخطأ الكبير الذي وقع فيه بعض دارسي الإعجاز القرآني، وتداركه من تبعهم من الباحثين المتميزين في الثقافة العربية؛ إذ إن تقديس القرآن الكريم والرغبة في تبجيله واحترامه قاد بعض الأوائل مثل الرماني والخطابي والباقلاني إلى قولبة إعجاز القرآن في أبعاد مضمونية؛ مثل: الإخبار عن أحوال الأمم السابقة، والتنبؤ بما يقع للأمم اللاحقة، مما جعل هذا يقود إلى إشكالية كبرى في تناول درس الإعجاز؛ وتضع هذا التصور غير العلمي في وضع أخطر، ويتمثل ذلك في كون الإعجاز سيظل في بعض القرآن، وليس كله، ولذلك كان الباحثون من الأجيال اللاحقة أكثر وعيًا ومعرفة؛ فما وجدوا وسيلة أفضل في إبراز الإعجاز من التركيز على اللغة؛ فبنى القاضي عبد الجبار الأسد آبادي نظرية «الضم»، المعتمدة على أن الإعجاز يكمن في ضم الكلام إلى بعضه بصفة مخصوصة، وتلاه عبد القاهر الجرجاني صاحب نظرية «النظم»، وكلتا النظريتين تتجاوزان أزمة «الجزئية» في الإعجاز إلى مبدأ الشمولية. وهو ما يغيب عن هذا الاتجاه، ولذلك أتساءل كيف يصنف الأسد آبادي والجرجاني في منظور هذا المصطلح؟ وفي اتجاه أصحابه؟
ويرى الدكتور حسن بن فهد الهويمل، رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، والناقد والأكاديمي المعروف، وعضو مجلس أمناء مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، أن «مؤشرات الثراء تعدد الخطابات، وتنوع الاتجاهات، والعصر يتسع لكل القيم والمبادئ التي تخدم الإنسان في دنياه وأخراه. ولا يمكن مصادرة أي خطاب بهذه القطعيات. الصلاح وعدم الصلاح. الأدب الإسلامي مرتبط بالكلمة الطيبة، والقول السديد، وبقاؤه معزز ببقاء الفضيلة، والذكر الحكيم. وأخطاء المنتمين لأي خطاب - لا نحمّل المبادئ - يجب أن نفرق بين المبادئ والممارسات. وكيف لا يكون الأدب الإسلامي صالحًا، وما سواه صالح. هذه مصادرة، وإقصاء».
وبشأن مصطلح الأدب الإسلامي، وهل يعد غطاء لأدلجة الأدب، وتعويم تيارات الإسلام السياسي، يعلق الدكتور الهويمل بالقول: «لست معنيًا بصراع المفاهيم، وتطاحن (الآيديولوجيات)، أنا عربي، مسلم، لي تراثي، وقيمي».
وأضاف: «همي حماية الأدب بكل أنواعه وأشكاله من العهر، والكفر، وأدب الاعتراف الشائن. قضيتي الكلمة الطيبة، تحت أي لافتة، والحداثة عصفت بمشاهدنا، وفرقت كلمتنا وأنشأت الأحقاد، والضغائن، ثم ثوت في أرض المنشأ ليأتي (ما بعد الحداثة)».
ويشدد رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، على القول: «أنا أربأ بنفسي أن أكون بوقًا لأي طارئ. الكلمة الطيبة باقية، ما بقي الذكر الحكيم الذي تعهد الله بحفظه، وليس لدي اعتراض على المتغيرات الشكلية، والفنية، والدلالية متى استجابت لذوائقنا، وسدت حاجاتنا، وكرست وجودنا بوصفنا ننتمي إلى (حضارة عربية إسلامية)، سطعت شمسها على الغرب باعتراف المنصفين منهم، والحق ضالتنا فإذا كان في الوافد حق، فهو قضيتنا تحت أي مسمى، ليكن حداثيًا أو ليبراليًا أو ماركسيًا. ولكن ليس شرطًا أن يحمل مسماه لا بد أن نذيبه في كياننا، وأن يحمل مسمياتنا. وفي النهاية نحن جزء من الحضارة الإنسانية، وإن حرصنا على الاستقلالية، والحضور بسماتنا وخصوصياتنا. وهدفي ألا نكون متذيلين طاعمين، كاسين، نرقب المنعم المتفضل، وعندنا ما يغني، ويقيني، ومشاهدنا ترحب بكل قادم. متى ما عرف لنا حقنا، وأتاح لنا فرصة الندية، والوجود الكريم».
واعتبر الهويمل أن الفرق بينه وبين «المتحدثنين» أننا معًا رتعنا في منجزات الغير. «وأضفت المنتج لمكتسَبي متعدد المصادر». فيما أضاف غيري نفسه إلى مكتسبه، ملغيًا ذاته، متنكرًا لتراثه، معاد لعشيرته، «فأنا حداثي شعاره الأصالة، ودثاره المعاصرة، و(المتحدثن) شعاره ودثاره الحداثة».
وحول ما يمكن للأدب الإسلامي أن يقدمه لمجتمعات تنشد حداثتها، أجاب رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية بقوله: «الحداثة خطاب من مئات الخطابات، ولا يمكن إعطاؤها أكبر من حجمها. ثم إنها مصطلح انطفأ بعد ضربات مصطلح (البعديات) ما بعد الحداثة. ما بعد البنيوية سمعنا بمذاهب و(آيديولوجيات) هيمنت، ورحلت، دون أن تترك أثرًا. ومصطلح الأدب الإسلامي، مصطلح من هذه المصطلحات، لا يمكن أن يحتكر رهاناتنا، ولا أن يلغي تطلعاتنا. إنه رؤية لمجموعة من الأدباء الأكاديميين، يسعى لتكريس الكلمة الطيبة، والقول السديد. واهتمامي به لا يلغي اهتمامي بما سواه. سؤالي الملح. ما الحداثة التي تتطلبها الأمة؟، هل هي قطع الصلة بالتراث، والأصالة، والكلمة الطيبة. أم هي مجرد التجديد، والتحديث؟، مؤكدًا على أن التجديد مطلوب في كل شيء حتى في الدين. الحداثة مصطلح غربي له مكونات قد لا يكون تحقيقها في صالحنا، فلنأخذ منها ما يوافق حضارتنا العربية الإسلامية، ولننبذ ما لا يوافق مكوناتنا».



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».