ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف باسم الإسلام

في قراءة للباحث والخبير الفرنسي جيل كيبيل

ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف باسم الإسلام
TT

ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف باسم الإسلام

ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف باسم الإسلام

ما هي المحطات التي شهدها تطوّر الفكر الإسلاموي المتشدد - الملقب بـ«الجهادي» - في فرنسا ومن أين استقى مصادره؟ مواضيع تطرّق إليها الدكتور جيل كيبيل، الباحث الفرنسي البارز، خلال المؤتمر الذي نظمه «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» في العاصمة الأميركية واشنطن، متحدثًا عن تجربته مع الجهاديين وعن كتابه الجديد حول تطوّر الإرهاب في فرنسا بعنوان Terreur dans l›Hexagone أي (الإرهاب داخل السداسي).
تحدث الدكتور جيل كيبيل، الباحث والخبير الفرنسي في شؤون الشرق الأوسط والإسلام والإرهاب، خلال المؤتمر المشار إليه أعلاه، عن ثلاث مراحل في تاريخ التطرّف الحركي الإرهابي باسم الإسلام. فقال: «تجلّت أولاها في أفغانستان بين أعوام 1979 - 1997»، وهو عصر سماه عصر «الجهاد المسلح» الذي نشأ عن نظرية المتشدد الفلسطيني عبد الله عزام، بتمويل خليجي ودعم أميركي وحماية باكستانية. ووفق كيبيل «ترجم الجهاد في أفغانستان، عبر النصر الذي تحقق في فبراير (شباط) 1989. حين انسحب الجيش الأحمر السوفياتي من كابُل بعد عشر سنوات من الحرب. إلا أن أحدًا لم يتنبّه إلى حقيقة ما حدث حينها، حيث إنه في 14 فبراير أصدر آية الله روح الله الخميني فتوى أدان فيها الكاتب سلمان رشدي حتى الموت»، وإذا بالاهتمام كله ينصب بهذا الاتجاه على حساب واقعة جيو-سياسية مرت مرور الكرام، على حد قوله.
بعد هذا النصر على الاتحاد السوفياتي، عاد عدد كبير ممن كانوا يقاتلون في أفغانستان إلى أوطانهم، منها الجزائر أو مصر، على سبيل المثال، وهناك حاولوا تكرار النموذج الأفغاني. كذلك ذهب البعض الآخر إلى البوسنة والهرسك في محاولة لتغيير مسار الحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة وتحويلها نحو ما يعتبرونه «الجهاد»، غير أن محاولتهم باءت بالفشل. وفي عام 1997. تمكنت السلطات العسكرية أو المدنية في الجزائر ومصر من قلب ميزان القوى لصالحها. وكانت النتيجة أنه جرى التخلي عن هذا «الجهاد» الذي سرعان ما صوّب سِهامه باتجاه العدو القريب، أي أنظمة العالم الإسلامي، ليدخل بذلك مرحلة ثانية.
وهكذا، حسب كيبيل، بدأت المرحلة الثانية التي قادها تنظيم «القاعدة»، وعلى رأسه مفكره أيمن الظواهري، ولقد ركزت هذه المرحلة على «العدو البعيد» أي دول الغرب. وبلغت هذه المرحلة ذروتها في اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة الأميركية. وكانت الفكرة الأساسية منها أنه من خلال ضرب العدو، وإظهار ضعفه، سيُتاح المجال أمام المسلمين لكي يتخلوا عن خوفهم ويتمرّدوا على حكامهم. غير أن هذه الاستراتيجية القائمة على استعراض القوة، وشن هجمات متكرّرة، لم تؤدِّ إلى التأثير المتوخى كما لم تنجح في حثّ الجماهير المسلمة على الانتفاض والتمرد، كما يقول الباحث.
لاحقا، كما يستطرد كيبيل: «بدأنا نشهد ظهور المرحلة الثالثة التي يمكن أن نردّ بداياتها الفكرية إلى يناير (كانون الثاني) من عام 2005. حين نشر المهندس السوري - الإسباني (أبو مصعب السوري) بيانه المؤلف من 1600 صفحة على الإنترنت، داعيًا إلى المقاومة الإسلامية العالمية». ويتابع أن «أبو مصعب السوري» تحدث عن «جهاد» يناقض تماما «الجهاد الهرمي» الذي اتبعه أسامة بن لادن، الذي كان يسدّد ثمن دروس الطيران وبطاقات السفر، وما إلى ذلك لأتباعه والمقاتلين معه، مُبشِّرا عوضا عن ذلك بـ«الجهاد القائم من أسفل إلى أعلى»، وقال هذا «الجهاد الذي لم تعد الولايات المتحدة فيه الهدف المنشود الأول إنما أوروبا، أي نقطة ضعف الغرب». واعتبر أن اللاعب الأساسي فيه هو الشباب الأوروبي المسلم الذي يكنّ كرها كبيرًا للغرب، وبالتالي ارتأى أنه سيكون من السهل تلقينه العقائد المتطرفة وتدريبه عسكريًا وإيلاؤه مسؤولية تنظيم حملات توعية وتلقين عقائدي.
ويضيف الباحث «اعتبر مُبتكر هذا النوع الجديد من التطرف الإرهابي المتزيي زي الإسلام، الذي انشق عن بن لادن، أن مهاجمة القارة العجوز قد تنجح في التسبب في نشوب حرب أهلية من خلال استخدام الأشخاص الذين لم يتمكنوا من التأقلم في مجتمعاتهم، ومن خلال إنشاء مخيمات تدريب في بلاد الشام». و«اليوم يظن البعض أن أبو مصعب السوري توفي. إنما لا أحد يعلم ذلك» وفق كيبيل، الذي يستطرد أنه بغض النظر عما إذا كان قد توفي أم لا، فذلك غير مهم لأن كتاباته لا تزال تنتشر في عالم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي حيث لا يوجد كاتب محدَّد ولا جهة ناشرة معروفة.
وفي الوقت نفسه، شهدت الظروف حينها تطوّرين مهمّين. «كان أولها إنشاء موقع (يوتيوب)، في 14 فبراير 2005، الذي افتُتِحَ معه عصر الجيل الثالث من هذا التطرف، مع الفيديوهات والصور وما إلى ذلك» بحسب كيبيل، ما أحدث تغييرًا جذريًا في الإسلام الراديكالي الذي اتخذ منحى جديدًا وحقق نجاحا كبيرًا. ومن ثم اندلعت «الثورات العربية» التي زعزعت استقرار الكثير من الأنظمة الإقليمية وأسقطت بعضها الآخر، إنما في الوقت نفسه لم تكن قادرة على إرساء الديمقراطية، ما عدا في تونس. كما أن الفوضى العارمة التي تلتها، أدت إلى نشوء مستنقعات عنف وتطرّف على مقربة من أوروبا، قصدها الشباب الأوروبي، على غرار مهدي نموش، للتدرب بكلفة لم تتعد التسعين يورو. وهكذا، بدأت توصيات «أبو مصعب السوري» تُترجم على أرض الواقع، وهي تتجلى بحرفيتها اليوم من خلال ما نشهده من تطرف وإرهاب باسم الإسلام في سوريا والعراق، ومن نشوء «داعش» وهجمات استهدفت أوروبا.
وذكر كيبيل أنه في سياق هذه التحولات نتيجة تفاعلات كتابات «أبو مصعب السوري» والتطورات القتالية والسياسية في بلاد الشام، ظهر كتابه الجديد Terreur dans l’ Hexagone. وقال: إنه خلال السنوات العشر ما بين أحداث العنف في ضواحي باريس في خريف 2005 والهجوم على مطبوعة «شارلي إيبدو» في يناير 2015، عرفت فرنسا ظهور تصدّعات اجتماعية جديدة. فالجيل الشاب الذي ولد في فرنسا من أهل هاجروا بعد فترة الاستعمار كان له رمزية أساسية في هذه التطورات. هذا الجيل الذي نشأ في المدن الفرنسية ويحمل الجنسية الفرنسية وجد سبيلاً جديدًا للتعبير عن مبادئه الضائعة من خلال الإنترنت، فأخذ يبحث عن نموذج إسلامي كامل مقتبس عن إسلام متشدد يحث على الانفصال عن «الغرب الكافر». وساهمت الأدوات الرقمية المتاحة أمامه والمراجع المتطرفة خارج حدوده الوطنية في نشوء حاجز صلب بين ما اعتبر أنه «مُحلَّل» وما اعتبر أنه «مُحرَّم»، ما ساهم بدوره في تعزيز قوة الشبكات الإرهابية النشطة في العالم الرقمي كما على أرض الواقع.
ومن خلال الشبكات الاجتماعية تمكَّن الجيل الثالث من مسلمي فرنسا من الاتصال المباشر مع موجة المرحلة الثالثة (من التطرّف الحركي الإرهابي باسم الإسلام)، التي بدأت تتكون أيضًا عام 2005 أي نفس سنة ظهور بيانات «أبو مصعب السوري». أضف إلى ذلك التغيرات التي شهدتها الأحياء الشعبية الفقيرة والتغيّرات في الأجيال المسلمة الفرنسية وصعود الآيديولوجيات المتطرفة. هذا التفاعل أدى إلى نشوء تجمعات متطرفة خرج منها إرهابيو فرنسا بعدما استهوتهم أرض المعارك في سوريا والعراق التي استقطبت خلال العام 2015 وحده نحو 800 شخص قتل نحو 100 منهم، من دون ذكر أولئك على غرار محمد مراح ومهدي نموش وشريف وسعيد كواشي وحميدي كوليبالي وسيد أحمد غلام الذين ارتكبوا هجمات إرهابية في أوروبا أو حاولوا ارتكاب عمليات إرهابية قبل إن يتم اعتقالهم. وللعلم، فإن الحالات التي ارتكبت أكبر المجازر، على غرار محمد مراح وكواشي وكوليبالي وعبد السلام وأباعود، تتشارك كلها تاريخًا إجراميًا متشابهًا إلى حد ما، وسبق لهؤلاء جميعًا أن سجنوا بتهم السرقة أو الأعمال الإجرامية، وكان التلقين الذي حصلوا عليه في زنزاناتهم أساسيا في تحويل هؤلاء المجرمين إلى إرهابيين يقتلون باسم الدين.
أخيرًا، يعتبر كيبيل أن «إرث الماضي الاستعماري والوضع الاقتصادي لفرنسا ساهما في التهميش» الذي شجع هؤلاء على الجنوح نحو التطرف والإرهاب. إذ إنه يشير إلى أن كثيرين من الشباب «لم يكن قادرا على الحصول على وظيفة بعد تخرجه من المدرسة، التي أخذت بدورها تفقد مصداقيتها في نظرهم بما أنها لم تكن قادرة على تأمين فرص العمل لهم، كما أنها عجزت عن تطبيق القيم العلمانية الفرنسية التي تنادي بها على الكثير من الشباب المحرومين».
وحقًا، فإن الوضع اليوم بات أشبه بدوامة مغلقة، كما أن الإرهاب ليس أمرًا وراثيًا، بل هو نتيجة عملية طويلة جرى فيها تخطي مثاليات اليمين المتطرّف ومثاليات اليسار المتطرف، ليجري الحديث عن «أسلمة التطرّف» كما يقول البعض.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.