المؤرخ والشاعر عبد الله العثيمين يلحق بركب الخالدين

أسفه على واقع الأمة المعاصر كان يشكّل غمّه وقلقه

مشهد من مهرجان الغضا في عنيزة التي تغزل الراحل دائما برباها وبساتينها
مشهد من مهرجان الغضا في عنيزة التي تغزل الراحل دائما برباها وبساتينها
TT

المؤرخ والشاعر عبد الله العثيمين يلحق بركب الخالدين

مشهد من مهرجان الغضا في عنيزة التي تغزل الراحل دائما برباها وبساتينها
مشهد من مهرجان الغضا في عنيزة التي تغزل الراحل دائما برباها وبساتينها

احتفى به مجتمعه تكريمًا واحترامًا، وظلّ استحقاقًا يتجدّد، فهو في الشعر ناصية، وفي التاريخ ثبتٌ وموضوعيّة، وفي التحقيق العلمي أستاذ، وفي الوطنيّة إباء ورمز، وفي معيار البساطة مقياس لا يتغيّر، وهو المرجع المعتمد والثقة في التاريخ المعاصر للجزيرة وفي سيرة الموحّد (الملك عبد العزيز) نهل من ثلاثيّة أصيلة ؛ مدرسة ابن صالح في بلدته، وفقه شقيقه الشيخ محمد بن عثيمين، وتخصص أستاذه د. عبد العزيز الخويطر، وتنفّس عبر رئات وطنية ثَلَاث: من العروبة بمفهومها القومي الذي لا يتجزّأ، ومن فلسطين بإصرار العودة الكاملة للأرض المغتصبة، ومن مسقط رأسه عنيزة بعاطفته وخلجات نفسه، وثار في إبداعه الشعري على ثلاثية الجهل والتخلّف والانهزام، وتدثّر بثلاثة لُحُف: البساطة والموقف والإباء، وله من رصيد التأليف ثلاثون ديوانًا وكتابًا، حظي تاريخ وطنه وحياة فارس التوحيد (الملك المؤسس) بالنصيب الأوفى منها، لكنه منذ صغره، وبعد اغتصاب فلسطين وثورة الجزائر، القضيّتين اللتين وعاهما بوجدانه، كان يروح ويغدو وفي حلقه غُصّة يتجرّعها قهرًا وألـمًا من وضع محيطه العربي، قال قبل ستين عامًا نثرًا وشعرًا، يُـقرأ فيه واقع اليوم:
يا أخي، إن كبّلوا الأحرار ظلمًا بالسلاسل
ورموا في السجن عسفًا كلّ قومي مناضل
ورأيت الشِّيب والأطفال تُرمى بالقنابل
ورأيت الطغمة الحمراء تغتال الأرامل
ومضى يُمعن بالإرهاب سفّاحٌ مُخاتل
لا تخف فالحكم حكم الفرد والإرهاب زائل
كان الراحل - المولود عام 1936 - أستاذا للتاريخ في «جامعة الملك سعود بالرياض»، وصار عضوًا في مجلس الشورى، وأمينًا لـ«جائزة الملك فيصل العالمية» التي ودّعته بإجلال يليق به في حفلها الأخير في الشهر الماضي، وكان كثيرًا ما يفاجئ محفلها بقصيدة من نظمه تناسب الموقف لتقديم أحد الفائزين، وتُطابق أبياتُها الحدث والظرف، وتلتزم قافيتُها بذكر اسم راعي الحفل أو بالإيماء للشخصيّة المكرّمة، وتكون من الجزالة والرقّة ما يجعلها حِليـة من حُلي الحفل وخريدة مشوّقاته، لكنه لم يتمكّن مرّة من الإتيان بما يريد قوله، فنظم قصيدة ًمطلعها:
لو يرحم الشعر أمثالي لوافاني
بما تودّون من قولٍ وتبياني
لأرسم اللوحة النشوى، مجنحةً
معبّرًا عن أحاسيسي ووجداني
لكنّ شيطانه استعصى وفرّ على
شهباء عاصفة من مربط الجان
وهو، مع هيئته الوقورة متيّمٌ بحب وطنه وعشيرته، ومسكون بأزمات أمته، حاضر البديهة، عفوي التعامل، بسيط المظهر والمسكن والمأكل، لا تغادره الكلمة المرحة ولا القصيدة المازحة، يحبكها فصيحة، أوينظمها تفعيلة، أويقولها نبطية، وإن شاءها فتارة قوميّة، وأخرى وجدانيّة، وثالثة حميميّة.
ارتوى - كما سبق - من معين شقيقه (الشيخ محمد العثيمين المتوفّى عام 2001) وتأثّر به، وحافظ على إرثه وتراثه، وصار مجمعَ الأسرة من بعده، والأمينَ على سمات الزهد والصلاح في سمعته، والتزم في عدد من كتاباته بتوضيح ما نُسب للوهابية من مفاهيم مغلوطة (وكان الموضوع عنوان رسالته للدكتوراه 1972)، وألّف وترجم في تاريخ الدولة السعودية، واؤتمن على تدوين سيرة الملك المؤسّس، وعلى رصد قصة توحيد هذا الكيان، وعمل على تفنيد بعض أخطاء المؤرخين والمستشرقين بشأن تأسيسه، وقد غلبت تاريخيّتُه شاعريّتَه، حتى صار المجتمع ينظر إليه مؤرّخًا أكثر منه أديبًا وشاعرًا، مع أن الشعر عنده هو الأساس منذ أن ترجم له كتاب «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس قبل ستة وخمسين عامًا.
حظي مسقطُ رأسه - عُنيزة بالقصيم - بنسبة من قصيده الوجداني الجميل، وخصّها بكثير من كتاباته، ولا غرابة في الأمر، فهو ينظر إليها نظرة المُغرم الوَلِه، يفضّلها لإجازاته، فهو لا يكاد يغادرها حتى ينازعه الشوق للعودة إليها، ولا أخالُه يغيب عنها مهما كانت الأسباب، ولا يقارنها بضيْعات لبنان، ولا يبادلها بريف «أدنبره» التي درس فيها، فهو يتغزّل دومًا برُباها وبساتينها، ويستمدّ منها كثيرًا من الصور الذهنية الزاهية المختزنة في ذاكرته منذ الصغر عن النشأة والطفولة فيها، والعادات والتقاليد، ويحفظ ما قيل فيها وعنها من أشعار، وإن سُئل عن فنونها فهو الخبير بضروبها وعَروضها وأوزانها، وبجلسات الحوطي والناقوز والسامري، وهي التي اشتهرت بصنوف وألوان تراثية برعت فيها وطوّرتها وأجادت تطبيقاتها، وقد يشارك أحيانًا في الترنّم بـفن (اللعبونيّات) وقد خصّص لعنيزة كتابه الثامن والعشرين «أنت يا فيحاءُ مُلهمتي» (أصدره مركز ابن صالح الاجتماعي بعنيزة قبل اثني عشر عامًا)، وبثّ فيه مشاعر لا تغيض ولا تنقطع، مستذكرًا مراتع الصبا ومرابع الشباب، ومستعيدًا ذكريات مدرسته ومدرّسيه وأقرانه، وحلقات الكتاتيب والمدارس الرائدة في التعليم الحديث، وأسواق المدينة وحياتها، وأيام العيد فيها، وندوات الثقافة الرائدة وديوانيّاتها، ونزهات النفود، وكثبان الرمال، وغابات الغضا، ووادي الرمة، ومنتديات السمر، عبّر عن ذلك في كثير من مقالاته وقصائده، وكان من أشهر مطوّلاته عنها، تلك التي كتبها - ولم تكن الأقدم - عند عودته من البعثة عام 1972 قال فيها:
حبيبتي، أنت يا فيحاءُ، ملهمتي
ما خطّـه قلمي شعرًا، وما كتبا
وبعد ؛ يقصر المقام عن تعداد مؤلّفاته التاريخية وقراءة شعره، لكنّ من يتجوّل في دواوينه العشرة، وفي كتبه الثلاثين، يجد أن القضية العربية قاسم مشترك استحوذ على همّه الأكبر منذ الصغر وحتى اليوم، وأن أسَفَه على واقع الأمة المعاصر يشكّل غمّه وقلقه، وأن تطلّعه للإصلاح الاجتماعي في الوطن العربي كان الشاغل الأبلغ لخاطره، في شعر وجداني أصيل وكتابات لا تنقصها الفصاحة والصراحة، عبّر فيها عن خلجات النفوس المكلومة بالواقع العربي الأليم، أظلّه الله في ظلّه.



«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد
TT

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان. وصدر الكتاب حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة «آفاق عالمية» بالقاهرة.

يقول الشاعر، في كلمته التي كتبها خصوصاً بمناسبة صدور هذه الترجمة العربية الأولى لقصائده، إن «هذا الحدث المبهج» أعاد إلى ذاكرته تلك الأيام التي تعرف فيها للمرة الأولى إلى الشعراء العرب فصار أسيراً لسحرهم ومغامراتهم الشعرية مثل امرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي... وغيرهم.

ويذكر أفضال أن لمسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية علاقة خاصة باللغة والثقافة العربيتين، وهذا هو السبب في أن الترجمات الأردية للشعراء والكتّاب العرب تحظى بشعبية كبيرة لدى القراء الباكستانيين وخاصة الأسماء المشهورة مثل أدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وفدوى طوقان، فضلاً عن الروائيين نجيب محفوظ والطيب صالح ويوسف زيدان.

وأشار إلى أنه حين كان طالباً في الجامعة الأميركية ببيروت في الفترة من سنة 1974 إلى 1976، أتيحت له فرصة ثمينة للتعرف المباشر إلى الثقافة العربية التي وصفها بـ«العظيمة»، وهو ما تعزز حين سافر إلى مصر مرتين فأقام بالقاهرة والإسكندرية والسويس ودمياط، حيث لا يمكن له أن ينسى مشهداً ساحراً وهو التقاء النيل بالبحر المتوسط في منطقة اللسان بمدينة رأس البر التابعة لدمياط. وضمن سياق القصيدة التي تحمل عنوان الكتاب يقول الشاعر في مستهل مختاراته:

«اخترع المغاربة الورق

الفينيقيون الحروف

واخترعت أنا الشعر

اخترع الحب القلب

صنع القلب الخيمة والمراكب

وطوى أقاصي البقاع

بعت أنا الشعر كله

واشتريت النار

وأحرقت يد القهر».

وفي قصيدة بعنوان «الهبوط من تل الزعتر»، يرسم الشاعر صورة مثيرة للحزن والشجن لذاتٍ مُمزّقة تعاني الفقد وانعدام الجذور قائلاً:

«أنا قطعة الغيم

المربوطة بحجر

والملقاة للغرق

ليس لي قبر عائلي

من أسرة مرتزقة

عادتها الموت

بعيداً عن الوطن».

ويصف تجليات الحرب مع الذات والآخرين في نص آخر بعنوان «لم يتم منحي حياة بكل هذه الوفرة»، قائلاً:

«وصلتني أنهاري عبر صفوف الأعداء

فشربت دائماً بقايا حثالات الآخرين

اضطررت إلى التخلي عن موسم فارغ للأمطار

من ترك وصية لي

لأعرف ما إذا كان

هو نفسه الذي كانت تحمله امرأة بين ذراعيها وهي تتوسل إلى الخيالة

والتي بقيت طوال حياتها

تحاول حماية وجهها

من البخار المتصاعد من خياشيم الخيل

لا أعرف ما إذا كان

هو نفسه

الذي ربطته أمه في المهد».

وتتجلى أجواء السجن، نفسياً ومادياً، والتوق إلى الحرية بمعناها الإنساني الشامل في قصيدة «إن استطاع أحد أن يتذكرني»؛ حيث يقول الشاعر:

«حل الشتاء

صدر مجدداً الإعلان

عن صرف بطاطين صوف للمساجين

تغير طول الليالي

وعرضها ووزنها

لكنّ ثمة حُلماً يراودني كل ليلة

أنه يتم ضبطي وأنا أهرب من بين القضبان

أثناء تغير الفصول

في الوقت الذي لا يمكن أسره بمقياس

أقرأ أنا قصيدة».

وأفضال أحمد سيد شاعر ومترجم باكستاني معاصر، ولد في 26 سبتمبر (أيلول) 1946 في غازي بور التابعة لمقاطعة أتربرديش بالهند، قبل تقسيم الهند وباكستان وبنغلاديش؛ حيث بدأ فيها أيضاً حياته المهنية بالعمل في وزارة الزراعة الائتلافية هناك وعند تقسيم باكستان وبنغلاديش 1971، انتقل مع أسرته إلى مدينة كراتشي الباكستانية.

بدأ أفضال كتابة الشعر 1976 وأصدر 5 مجموعات شعرية هي «تاريخ منتحل» 1984، «خيمة سوداء» 1986، «الإعدام في لغتين» 1990، «الروكوكو وعوالم أخرى» 2000، ثم أصدرها مجمعة باعتبارها أعماله الشعرية الكاملة 2009 بعنوان «منجم الطين»، كما أصدر في مطلع 2020 كتاباً يضم قصائده الأولى في الغزل.

وتمثل أغلب قصائده طفرة نوعية في قصيدة النثر الأردية التي ما زالت تعاني من الرفض والتهميش إلى حد كبير لحساب فن الغزل بمفهومه الفارسي والأردي التقليدي الذي ما زال مهيمناً بقوة في شبه القارة الهندية.

ترجم أفضال أعمالاً عن الإنجليزية والفارسية وهو من أوائل من ترجموا لغابرييل غارثيا ماركيز وجان جينيه، كما أصدر في مطلع 2020 ترجمته لمختارات من الشعر الفارسي.

درس أفضال أحمد سيد ماجستير في علم الحشرات بالجامعة الأميركية ببيروت بين عامي 1974 و1976، وذلك في بعثة علمية من الحكومة الائتلافية الباكستانية، فشهد الحرب الأهلية اللبنانية في أثناء إقامته هناك.

يعمل حالياً أستاذاً مساعداً في جامعة حبيب بكراتشي، وهو متزوج من الشاعرة الباكستانية البارزة تنوير أنجم.