بعد نحو 3 أعوام من المفاوضات التي تجري غالبها «خلف أبواب مغلقة»، بين كل من الولايات المتحدة الأميركية من جانب، والاتحاد الأوروبي من جانب آخر، بهدف تأسيس «أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم»، لا تزال قضية «اتفاقية الشراكة التجارية والاستثمار عبر الأطلسي» تشهد جدلا متزايدا على جانبي المحيط، بل إن الأمر وصل إلى حد أن غالبية الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى ترجيح كفة الرفض الشعبي للاتفاقية رغم حماس قادة الدول لإتمامها، ورغم ما يراه هؤلاء القادة من فوائد يعتقدون بأنها ستعم على الطرفين.
وفي أحدث مظاهر الرفض الشعبي المتزايد، تظاهر أكثر من نحو 20 ألف شخص في مدينة هانوفر الألمانية أمس السبت بحسب ما أكدته بيانات لشرطة المدينة، حاملين الشعارات المناهضة للاتفاقية، وذلك عشية وصول الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى ألمانيا على رأس وفد من شركات بلاده للمشاركة في افتتاح أضخم معرض صناعي على مستوى العالم اليوم (الأحد)، وهو معرض «هانوفر الدولي»، في محاولة لفتح آفاق وأسواق جديدة أمام حركة التجارة الأميركية، وسط أجواء الركود التي تسيطر على العالم بشكل عام منذ أشهر طويلة.
ولا تعد مظاهرات هانوفر ضد الاتفاقية هي الأكبر من نوعها، ولا بلغت حتى لحظات كتابة هذا التقرير أقصى مداها.. حيث شهدت العاصمة الألمانية برلين في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مظاهرات حاشدة مضادة لذات الاتفاق، وشارك بها نحو ربع مليون ألماني، بحسب أغلب التقديرات.
وبحسب ما هو معلن من كل من البيت الأبيض الأميركي والمستشارة الألمانية، فمن المقرر أن يلتقي أوباما مع المستشارة أنجيلا ميركل، ومن المؤكد أن يجري مناقشة الاتفاقية التي شهدت نحو 13 جولة من المفاوضات منذ إطلاق فكرتها في صيف عام 2013، تحديدا في شهر يونيو (حزيران)، خصوصا أن المناسبة ستجمع الجانب الأميركي مع قائدة أقوى اقتصاد أوروبي على وجه العموم، والتي يعني قرارها «الحاكم» بطبيعة الأمور تمرير أكثر سلاسة للاتفاقية.
وقبل ساعات من بدء زيارته، واصل أوباما دفاعه عن المشروع في حديثه لصحيفة «بيلد» الألمانية اليومية، معتبرا أنه «أحد أفضل السبل لتحفيز النمو واستحداث وظائف»، مشددا على أنه «سيعزز التجارة وينشئ فرص عمل في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي».
ويدفع الجانب «الرسمي» الألماني في اتجاه إتمام الاتفاقية بدوره، وقال شتيفن سيبرت، المتحدث باسم ميركل الجمعة «إن ألمانيا تعد التوصل إلى اتفاق طموح مشروعا أساسيا في العلاقات عبر الأطلسي». وأيضا تضغط الأوساط الاقتصادية الألمانية، التي ستربح من التصدير.وأكد اتحاد الصناعة أنه «لن يكون بعد الآن رابحون وخاسرون». فيما يعلق رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، والذي التقاه أوباما قبل ساعات، بقوله إن «اتفاق الشراكة سيعود بالمليارات على اقتصاداتنا».
ويسعى أوباما من جانب، والأطراف الأوروبية من المؤيدة من الجانب الآخر، إلى إتمام الاتفاق في أقرب وقت ممكن، استغلالا لوجود أوباما على رأس الإدارة الأميركية.. حيث إن مستقبل الاتفاقية مع خليفة الرئيس الأميركي - أيا من كان - «يبدو غامضا»، في ظل إبداء أغلب المرشحين لانتقادات علنية للمشروع.
وبينما كان المفوض الأوروبي السابق كارل دي غوشت، يرجح في مثل هذا الوقت من العام الماضي أن يتم الانتهاء من المفاوضات بنهاية 2015، وإبرام الاتفاقية مع مطلع العام الحالي، إلا أن تزايد الأصوات المعارضة للاتفاقية يجعل من إنجازها أمرا غير يسير على كل الأطراف، بل إنها قد تدخل في تعقيدات تجعلها بعيدة المنال خلال العام الحالي برمته.
رغم أن أنصار الاتفاقية يؤكدون بكل ثقة أن خفض التعريفات الجمركية ومواءمة القواعد ستمنح الشركات على الجانبين دفعة هي بحاجة إليها في ظل الشكوك التي تحيط بالاقتصاد العالمي؛ إلا أن جهات أوروبية حقوقية وبيئية تعارض بشدة التوقيع على الاتفاقية.
ويدفع المؤيدون لإبرام الاتفاقية إلى أنها ستؤدي إلى قيام أكبر منطقة تجارة حرة في العالم تضم 28 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بعدد سكان يبلغ 800 مليون نسمة. وتضغط إدارة الرئيس أوباما من أجل التوصل إلى هذه الاتفاقية على أساس أنها ستعزز النمو الاقتصادي على جانبي المحيط الأطلسي، من خلال إلغاء الرسوم والحواجز الجمركية بينهما. وكانت الأزمة المالية العالمية التي حدثت في عام 2008 أحد المحركات القوية التي دفعت إلى محاولات تفعيل تلك الشراكة بين جانبي الأطلسي.
وخلال العام الماضي، أشار تقرير اقتصادي بريطاني إلى أن إزالة التعريفات الجمركية بين الطرفين، وتوحيد الأطر القانونية المنظمة للتجارة، يمكن أن يحقق مكاسب كبيرة بالنسبة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وخلص البحث إلى أن اتفاقية تجارية من هذا النوع ستدفع بـ119 مليار يورو كل عام إلى شرايين اقتصاد الاتحاد الأوروبي، فيما ستعود في الوقت ذاته على الولايات المتحدة بنحو 95 مليار يورو.
لكن النقابات العمالية، والقوميين، وجماعات حماية البيئة، نظمت مظاهرات عنيفة ضد الاتفاقية. وبينما تؤكد النقابات أن الاتفاقية ستؤدي إلى خفض الأجور والإضرار بمصالح العاملين، وإغراق الأسواق الأوروبية بالبضائع الأميركية، فإن الجمعيات البيئية ترى محاذير تدخل في إطار «المحظورات الأوروبية»، خاصة في ما يتعلق بالسماح بـ«تداول حر» للمحاصيل الأميركية «المعدلة وراثيا»، أو اللحوم التي جرت معاملتها بطرق غير مسموح بها في الأراضي الأوروبية ذات المعايير الصارمة في هذا الصدد. كما تخشى منظمات حقوقية من تدهور المعايير الاجتماعية التي عرفتها أوروبا.
ويشكك منتقدو الاتفاقية في العائدات الربحية للاتفاقية، ويقولون إن الجزء المتعلق بـ«تسوية المنازعات بين المستثمرين والدولة» يهدد الديمقراطية. وأيضا فإن القطاع المالي يشهد قلقا واسعا من إبرام الاتفاقية، حيث يرى هؤلاء المعارضون أنه إذا تم تضمين الخدمات المالية في الصفقة فلا بد من تقديم تنازلات على مستوى القوانين المالية المنظمة، وهو ما قد يؤثر سلبًا على الاستقرار المالي.
كما شهدت المفاوضات أيضا جوانب أخرى، مثل المخاوف بشأن «صناعة السينما الأوروبية»، التي قد تتأثر نتيجة الإنتاج الهوليوودي.. وتضغط المفوضية الأوروبية لاستثناء القطاع السمعي البصري من المفاوضات بناء على الاعتراض الفرنسي بهذا الصدد.
وأظهر مسح نشرت نتائجه بنهاية الأسبوع الماضي، تراجع التأييد الشعبي بين الأميركيين والألمان خلال الأعوام الأخيرة لاتفاقية التجارة الحرة التي يتفاوض بشأنها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
وبحسب المسح الذي أجرته مؤسسة «بيرتلسمان فاوندشن»، الألمانية فإن واحدا من كل 3 ألمان يرفض الاتفاقية. كما تشير النتائج إلى أن الحماس الأولي للاتفاقية تراجع، حيث كانت نسبة التأييد الشعبي في ألمانيا للاتفاقية عند الإعلان عنها لأول مرة في عام 2013 تصل إلى 55 في المائة تقريبا، في حين كانت نسبة المعارضة واحد من بين كل 4 ألمان.
أيضا تراجعت نسبة تأييد الاتفاقية في الولايات المتحدة إلى 15 في المائة، مقابل أكثر من 50 في المائة عام 2014.
والسبب الرئيسي لتراجع التأييد في ألمانيا هو الخوف من تخفيف شروط ومعايير سلامة المنتجات وحماية المستهلك، وزيادة العبء على العمال، في حين يشكو الأميركيون من نقص المعلومات حول الاتفاقية المنتظرة.
ولا يشعر الألمان الذين شملهم المسح بأن الاتحاد الأوروبي يتجاوب مع الانتقادات الموجهة إلى مشروع الاتفاقية، حيث قال 48 في المائة منهم إن موقفه ناتج عن الإعلان عن تفاصيل المشروع كما هو، في حين قال 30 في المائة إنهم لا يشعرون بتوافر المعلومات الكافية عن الاتفاقية.
وقال آرت دي جويس، المسؤول في مؤسسة برتلسمان فاوندشن، إن تأييد الاتفاقية يتراجع في ألمانيا «أكبر دولة مصدرة في العالم»، بحسب وكالة الأنباء الألمانية. محذرا من أن «أي ضعف في قوة ألمانيا التجارية سيعني ليس فقط تراجع القوة الاقتصادية لألمانيا، وإنما أيضا تراجع سوق العمل؛ نظرا لأن التجارة تعد محركا رئيسيا للاقتصاد الألماني».
الشراكة عبر الأطلسي.. تحمس «القادة» وامتعاض شعبي متزايد
أوباما وميركل متعجلان لإبرام الاتفاق قبل «المستقبل الغامض»
آلاف المعارضين لاتفاقية الشراكة عبر المتوسط تظاهروا أمس في مدينة هانوفر الألمانية عشية وصول الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى المانيا (أ.ف.ب)
الشراكة عبر الأطلسي.. تحمس «القادة» وامتعاض شعبي متزايد
آلاف المعارضين لاتفاقية الشراكة عبر المتوسط تظاهروا أمس في مدينة هانوفر الألمانية عشية وصول الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى المانيا (أ.ف.ب)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة



