قوات مشتركة من شرطة مدينة «كان» وأخرى من «حامية الألب البحرية» ستقوم خلال أيام، وعلى نحو مفاجئ، بمناورة كبيرة تشمل التدخل السريع لشن هجوم واسع على قصر المهرجانات في مدينة «كان». هذا سيكون تحسبًا لهجوم إرهابي لا تتوقع السلطات أن يقع، لكن عليها أن تفترض احتمال وقوعه على أي حال ومعرفة السبيل الأفضل للتدخل وحماية الأرواح البريئة.
> في السنوات السابقة كانت هناك حسابات، لكن لم يكن هناك ذلك الهجوم الشرس في قلب باريس، ولم يكن وقع بعد الهجوم الأخير في بروكسل. لكن كانت هناك رقابة مسبقة ورقابة آنية وتفتيش حقائب وسواها. المشاهدون الأبرياء عاشقو السينما الذين سيحاولون أن ينسوا بعض آلام هذا العالم سيتعرضون إلى تفتيش أدق كلما دخلوا صالات العروض أو قصر المهرجان أو الفنادق الكبيرة أو سواها. وعناية خاصة لقوى الاستخبارات لرصد أي تحرك مريب.
> الناقد العربي الذي سيحضر هذا المهرجان تم تمحيصه من قبل وصوله. المهرجان يعرّف الناقد للسلطات وتاريخه ويرسم له دائرة خضراء حوله. الناقد الجديد ربما كان عرضة لأسئلة أكثر ولو أن كليهما سيبقى عرضة لمراقبة صامتة ومستترة. لكن - وحسب الأصول - كذلك غالبية المشاركين من أي جنسية أخرى.
> السؤال المفترض هو: هل يستدعي المهرجان هذه المخاطرة؟ أليست الحياة أثمن من أن تتعرض لاحتمالات كهذه؟ إذا كانت الأفلام مصنوعة للحياة لماذا نراهن على الموت؟ هذا السؤال الثالث هو ما على الإرهاب أن يطرحه على نفسه لكنه لا يفعل كونه توقف عن طرح الأسئلة منذ أن وجد أن حياة الآخرين، أيًا كانوا، لا تساوي شيئًا. أرواح حلال موتها.
> لكن إذا ما كان المهرجان وأفلامه يستحقون المخاطرة أم لا فإن الجواب مختلف. إذا كان لا بد لك حضور المهرجان سواء لأسباب مهنية أو لمجرد أنك تريد الاشتراك في هذا الحفل الكبير، أمر له علاقة بالضرورة وحجمها. معظمنا سيجد الدوافع لحضور هذا المهرجان أو سواه للأسباب المهنية التي من أجلها يخاطر صحافيون ومصوّرون بحياتهم في كل موقع حرب وقلاقل من بوركينا فاسو إلى أفغانستان.
> إنه نوع من الالتزام أساسًا، لكن علاوة عليه هو التزام آخر بالوقوف صفًا واحدًا ضد هذا الإرهاب. لا يمكن العكوف عن الحضور لمجرد أنه يشكل تهديدًا على الحياة الفردية أو الشاملة وإلا انتصر هو وانهزمنا نحن. نجح في قلب المعايير وإرجاع عقارب الساعة الحضارية إلى حيث يريد إرجاعها.
> في الحصيلة الأخيرة، نجاح المهرجان هو نجاح الإنسان والحياة والتقدم ضد عدو مشترك لكل الناس.
بشير الديك، كاتب القصّة والسيناريو لعدد كبير من الأفلام المصرية طوال العقود الأربعين الماضية، الذي توفي في اليوم الأخير من العام الراحل، 2024، كان أحد السينمائيين الخارجين عن قوانين السينما التقليدية في النصف الأول من سنوات مهنته. لكن على الرغم من أنه في النصف الثاني وقّع على أعمال كثيرة من التي يمكن وصفها بالتقليدية، ومن بينها 6 أفلام من بطولة نادية الجندي، فإنه واظب على معالجة نصوصه باحتراف يجمع بين حكايات تحمل مضامين تنتمي إلى نزعة جادة وتنشد ميزانيات كبيرة.
لعل حقيقة أن نادية الجندي كانت تصبو دوماً إلى أدوار تخلّدها وأفلام تحافظ عبرها على مكانتها لعب بشير الديك دوراً في تلبية هذه الرغبات عبر حكايات تشويقية في المقام الأول، وشخصية رئيسية مضخّمة وذلك في أفضل نصوص ممكنة ضمن التوليفة التجارية.
بدأ هذا التعاون على نحوٍ ثلاثي: بشير الديك يكتب، ونادر جلال يُخرِج ونادية الجندي تلعب دور البطولة. هذه الأفلام هي «الإرهاب» (1989)، و«شبكة الموت» (1990)، و«عصر القوّة» (1991)، ومن ثَمّ «مهمّة في تل أبيب» (1992)، و«الشطّار» (1993)، ولاحقاً «امرأة هزّت عرش مصر» (1995).
اتجاهان
بعد بدايات متفاوتة الأهمية من بينها «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمي (1979)، و«دعوني أنتقم» لتيسير عبّود (1979)، و«الأبالسة» لعلي عبد الخالق (1980) التحق الديك ببدايات المخرج الراحل محمد خان عبر 6 أفلام هي «الرغبة» (1980)، و«موعد على العشاء» (1981)، و«طائر على الطريق» (1981)، و«نص أرنب» (1983)، و«يوسف وزينب» (1984) و«الحرّيف» (1984) وكلها من أفضل ما حققه خان.
تعامُل الديك مع الموضوعات الجادة التي عرفتها تلك الأفلام سمح له بكتابة واحد من أفضل أعماله وهو «سواق الأتوبيس»، الذي حققه الراحل عاطف الطيب سنة 1982، وكلاهما لاحقاً تعاونا على تحقيق فيلم مهم (أكثر مما كان جيداً) آخر هو «ناجي العلي» (1992). لجانبهما فيلم ثالث هو «ضد الحكومة» (1992) من بطولة أحمد زكي ولبلبة.
في تقييم كتابات بشير الديك تتداخل بعض العناصر التي يمكن إيجاز هذا التقييم عبرها.
من ناحية، حاول دوماً التطرّق صوب قضايا مهمّة تطرح قصصاً ذات جانبٍ وطني مثل «مهمّة في تل أبيب»، الذي دار حول جاسوسة مصرية تعمل لصالح إسرائيل، ومن ثَمّ تندم فتطلب منها الاستخبارات المصرية (ممثلة بكمال الشناوي)، العمل لحساب مصر وتنجح. «ناجي العلي» ينضم إلى هذا النحو من الأعمال.
في ناحية أخرى، لم يتأخر عن كتابة ما كان سائداً في الثمانينات والتسعينات من اتجاه صوب الحديث عن مراكز قوى في الشارع المصري والصراع بين الأخيار والأشرار. هذه الموجة لم تعرف بداية ونهاية محدودتين فتاريخها عريق يعود لعقود سابقة، لكنها عرفت في تلك الفترة تدافعاً بين المخرجين للحديث عن تلك المراكز في حارات القاهرة (في مقابل الكثير من صراع الخير والشر على ساحلَي بور سعيد والإسكندرية في أفلام الخمسينات والستينات) في أجواء ليست بعيدة عن الخط الذي وضعه نجيب محفوظ وشخصياته.
مخرجون عديدون حقّقوا هذه الأفلام التي شُكّلت حكاياتها من صراع القوى في الشارع المصري مثل أشرف فهمي («الأقوياء»، 1982)، وأحمد السبعاوي («السلخانة» 1982 و«برج المدابغ» 1983) وكمال صلاح الدين («جدعان باب الشعرية» 1983). لكن من مزايا ما كتبه بشير الديك في هذه الأعمال التي لاقت رواجاً جماهيرياً إنه كتب ما هو أعمق في دلالاته من قصص المعلّم الشرير ضد سكان منطقته وأزلامه الذين يتصدّون للأبرياء إلى أن يخرج من رحم تلك الحارة من يواجههم جميعاً.
بداية من «نصف أرنب» توّجه الديك إلى حكاية تشويقية ذات طابع بوليسي، وفي «سوّاق الأتوبيس» وقف مع ابن المدينة في موضوع حول تفتت المجتمع مادياً. أما في «الحرّيف» فنقل اهتمامه إلى الوسط المهمّش من سكان القاهرة وأحلامهم ومتاعبهم الشخصية.
هموم المجتمع
ما يجمع بين هذه الأعمال هموم تسلّلت إلى عدد كبير من كتابات بشير الديك السينمائية.
في مقابلة تمّت بين المخرج عاطف الطيب وبيني بعد مشاهدة فيلمه النيّر «سواق الأوتوبيس»، سألت المخرج عن كيف بدأ التفكير في تحقيق «سوّاق الأتوبيس». أجاب: «بدأت الفكرة في جلسة صداقة مع بشير الديك ومحمد خان. وكنا نتحدث بشأن همومنا وطموحنا الخاص لصنع سينما أخرى مختلفة، وكانت الظروف الحياتية نفسها تجمعنا كلنا تقريباً. فقد كنت أشعر في ذلك الوقت بالذنب إزاء فيلمي الأول (يقصد «الغيرة القاتلة»، 1982)، الذي اضطُرِرت فيه إلى الاعتماد على سيناريو مأخوذ عن أصل أدبي (أجنبي) رغم إيماني الدائم بضرورة الكتابة المباشرة للسينما. اقترح محمد خان وبشير الديك فكرة وُضع لها عنوان: (حطمت قيودي)، تدور حول عائلة مهدّدة بالضياع نتيجة فقدان الأب للورشة التي أسسها وبحْثُ الابن، سائق الأتوبيس، عن مخرج من الأزمة بلا جدوى وأعجبتني الفكرة، خصوصاً أنني أميل كثيراً إلى الدراما التي تدور في نطاق عائلة. وبدأنا بالفعل في تطوير الفكرة خلال الكتابة وتبادل الآراء. وكنا كلما نتعمق في الموضوع تتضح لنا أهمية الفكرة التي نريد التعبير عنها. في الكتابة الثانية للسيناريو، وصل الفيلم إلى ما أصبح عليه».
كتب بشير الديك نحو 60 فيلماً ومسلسلاً تلفزيونياً، معظمها جمع هذه الصفات المجتمعية على نحو سائد أو مخفف. هذا ما جعله أحد أبرز كتاب السيناريو في مصر في حقبة كان للسينما البديلة والمستقلة عن السائد دور فاعل في نهضة الفيلم المصري عموماً.
مع الطيّب وخان ورضوان الكاشف ورؤوف توفيق وخيري بشارة ورأفت الميهي وسواهم، ساهم بشير الديك في منح تلك الفترة مكانتها الساطعة التي لا تغيب.