وأنا أهم بتلخيص قراءتي للمجموعة الشعرية «سوناتات إينغر»، الصادرة عن المتوسط، ميلانو، وجدتني أتناغم مع إيقاعات وترين؛ وتر السوناتات السبع والعشرين التي كتبها الشاعر ماغنوس ويليام أولسون، وأعني القصائد بلغتها الأصلية (السويدية)، والثاني ترجمة الشاعر إبراهيم عبد الملك لها إلى العربية.
والوتران يتناغمان في أكثر من تردد موسيقي يشي بتلاقي الرؤى بين الشاعرين، وقدرتهما على امتلاك أدوات الشعر، واستخدام الصور البلاغية بطريقة تحاول ترطيب الفكرة المشبعة أصلا بسحب قاتمة، متحدية قيود اللغة التي تفرض شروط بيئتها وقوانينها الخاصة حين تنقل إلى لغة أخرى، فكثيرًا ما تفقد القصيدة الأصلية بريقها وقوة معناها عندما تترجم إلى لغة مغايرة تمامًا.
لكن المترجم تمكن من تقصي مسارات المعنى، بتفكيك القصيدة وإعادة صياغتها، فنقلها إلى العربية بأسلوب نشم فيه عبق القصيدة، ونتذوق قراءتها، رغم وعورة تضاريس الأرض التي كان يحرث بها.
وددت هذا للإفصاح عن الحالة التي وجدتني فيها حين ولجت عالم هذه السوناتات، وقد فضلت قراءتها بلغتها الأصلية أولاً، قبل قراءة الترجمة، وهو أمر لا أفقه دوافعه، حيث وقفت أمام البيت الأول من السوناتا الأولى، مأخوذًا بالسؤال المباغت، كمن أحس فجأة بوخزة في عينه..
Livslinjen i handen، varifrån?
خط الحياة الذي في الكف، من أين؟
هكذا جاءت ترجمة البيت المستهل عفوية، وحرفيًا بالوزن نفسه والإيقاع الموسيقي نفسه. والغريب أن هذا الشعور هو ذاته الذي انتاب المترجم إبراهيم عبد الملك حين وقعت عيناه على هذا البيت، لأول مرة، والذي عبر عنه في الإضاءة التي كتبها بعد ترجمة السوناتات، وشرح بها خلفيات اهتمامه بترجمتها. وهنا يبرز التساؤل: إن كان ذلك مجرد توارد خواطر، أو تشابه في الذائقة الشعرية، أم هو سحر الجملة الشعرية التي أفرزت شعورًا خفيًا يشبه ذلك الذي ينتاب المرء حين يدخل مكانًا تضوع فيه الشموع، وتتصاعد منه رائحة البخور، الأمر الذي جعل الإدرينالين يسير في جسد المترجم، حسب وصفه، ودفعه لخوض مغامرة تشابكت بها مسارات شتى، وتطلبت ترجمتها جهودًا استثنائية في سبر أغوار النصوص المشحونة بسياقات درامية وفلسفية عميقة تنامت تحت ظلال محسوسية موضوعها الذي يفرض بصورة لا مفر منها البحث عن الأدوات اللغوية الملائمة، التي ترتفع إلى مستوى هذا الطراز من المعمار الشعري الغنائي، الذي قلما نجح الشعراء الذين خاضوا تجربته في الوصول إليه، وأعنى به فن السوناتا، المحكوم بقواعد لا يمكن سوى التقيد بها. ومشروع نقلها إلى لغة أخرى يفرض مهام مضافة على المترجم في الحفاظ ليس فقط على بيئتها وتربتها، بل وأيضًا على موسيقاها وإيقاعاتها وتلاوين صورها.
لست متأكدا من أن هذا الشعور عند مدخل هذه السوناتات كان مجرد توارد خواطر فحسب، فلربما يعود ذلك إلى أننا لم نعتد عند قراءتنا للشعر بلغة أجنبية أن نجد فيه مثل هذه الموسيقى، وهذه الدوزنة الروحية.
وربما هو السؤال الذي رن في أذني، واستوقفني لأبحث في متاهتي عن جواب له بين ثنايا السوناتات:
خط الحياة الذي في الكف، من أين؟
فقد شممت فيه نكهة غير تقليدية، ليست من ذلك النمط الذي يأتي عادة في السياق، يُطرح دون انتظار إجابة ما، أو أنه يحمل معه إجابته، وإنما جاء لينبئ بالغوص في مياه تتلاطم أمواجها، ويصعب الخروج من مدها وجزرها، دون أن تشتبك في الدواخل مشاعر مختلطة من تصاعد ضربات المقاطع الشعرية المغناة وأوتار الكلمات المشحونة بالأسى، الذي يجري عبر مساماتها المثقلة بقتامة الثيمة التي يعالجها الشاعر ماغنوس ويليام أولسون في سوناتاته، وهو يرصد ويعيش في آن واحد مغزل اللحظة، التي يلف في مداراته الكثيفة علاقة إنسانية معقدة غارقة في متاهتها الأبدية، ورابطة متشابكة الخيوط، عصية على الحل، لم يتبق من تداعياتها سوى تساؤلات تحني رؤسها.
من أي أنواع الزمان الحبُّ؟ حُرُّ؟ أم مقيّدْ؟
الكُلُّ مجموعًا؟ أم اللحظَّيةُ امتدَّ المدى فيها؟
نرمي إلى الفخِّ الحواسَ، إلى شباكِ الحب نرميها
ونظنُّ هذي البرُهة العجلى تخلَّدْ
من المتعارف عليه أن اللحظة الشعرية تجيء، في الصياغات، وفق لعبة تمازج بالخيال والواقع، فتحلق أفكار الشاعر في فضاءات تبتعد أو تقترب عن أرضية الملموس، المعاش، الذي تنطلق منه، غير أن «سوناتات إينغر» تجاوز الأمر فيها حدود لعبة الاستعارات البلاغية المؤثرة إلى حالة أكثر جدية وعمق، حيث الواقع يفوق التحليق في فضاءات التخيل، ويفرض مقدرة الشعر على التعبير عن مكنونات النفس البشرية، بمعايشة حسية ووجدانية، وحتى جسدية، تتجاوز في حالة ما حدود الأعراف، وتدخل في منطقة المحرمات، لكنها في معادلة الحياة، وحضرة الموت المنزوي في خلفية المشهد، تأخذ أبعادا سايكولوجية معقدة، وتصعّد من دراما الحدث بطريقة تشبه التجلي الأوبرالي بإيقاعات صاخبة.
فالسوناتات، عبارة عن ملحمة تُمسرح علاقة متشابكة بين ابن وحيد وأم مصابة بألزهايمر، ولم يتبق لديها من حياة سوى اللحظة الغارقة في متاهتها الأبدية. يبتلع حياتها الآني الكئيب ببطء وسكون مملين. والماضي لم يعد، بالنسبة لها، سوى بقايا راهن شديد القسوة والوجع. وتحاول هذه الغنائيات أن تحيلنا إلى مشاهد محاولات الابن في جذب اهتمام الأم، للتشبث بالحياة، بتأن وصبر جميل في أحايين كثيرة، ويأسٍ وإحباط، في بعض الأحيان، مجربًا كل الوسائل، وتعكزا على المشترك ما بينهما في الزمان والمكان، وأواصر الارتباط الروحي والجسدي، في إطار عمق الحالة إزاء حاضرها.
إينغر حاضرة جسدًا، لكنها مسافرة في نفق مظلم، شاردة الذهن، محلقة في عوالم مغلقة. والشاعر، الابن، يصف هذا المشهد الدرامي من خلال استحضار ما دأبت الأم على ممارسته، قبل أن تضمحل ذاكرتها وتتلاشى تمامًا، كعاداتها في التدخين والقراءة، مثلاً. يتطلع إليها وهي تمسك كتابًا، لتقرأ، لكن صفحاته لا تعني لها شيئًا سوى عوالم غامضة، فكل صفحة منه تشكل، في عينيها، عالمًا مستقلاً عن الآخر، وهذا ما جسده الشاعر بصياغات لغوية مقفاة تحمل ثنائية المعنى وتعقيداته، وقد نقلها لنا إبراهيم عبد الملك بشكل حافظ، وبدقة، على روحية النص، ولكن بتراتيل مموسقة جعلتها أكثر ألفة وانسجاما:
إني رأيتُكِ عِبرَ نافذتي خيالا
يُسراكِ تحتضُن الكتابَ، وفي اليمين
سيجارةٌ. جالت مع النسيان نظرتُك التي لا تستكين
لا تقلبين الصفحة. الحالي إذ يعني الكمالا
وفي لحظات يراقب بها الابن أمه بعين مستعارة من ذاكرة الطفولة، ثم يقوم بإعادة ترتيب هذه الذاكرة لتلائم رؤية شاب في سن البلوغ، فتنعكس هذه المشاهدة، في بعض الومضات التي يصف بها أنوثة الأم ومفاتن جسدها. وفي بعض المسارات، تكاد هذه المتابعة أن تخلق حالة من فنتازيا الارتباط الروحي الذي يتجاوز حدود الأمومة، ويلامس حافة المحرمات، حينما تتصاعد العلاقة تدريجيا في نسق درامي، خيالي يحاكي أوديب، في الأسطورة المعروفة عن الملك الذي تزوج أمه، جاكوستا، دون علمهما. وهذا ما نجده متجليًا حين يخاطب الابن في قصيدة ماغنوس ويليام أولسون أمه «جاوكستا – إينغر»، أو كما في ترجمة إبراهيم «يا أنتِ.. جوكاستا»، لضرورة المحافظة على الوزن:
طفلٌ يُقبِّلُ، أو يُداعِبُ، علَّ ذا يُجدي دفاعًا مستحيلا
ضدَّ اشتهاءٍ ألهبَ الأطراف بالنيرانِ
يا أنتِ – جوكاستا، الذُكُورةُ تحرقُ الجَسدَ النحيلا
هذه المسارات المعقدة تأتي متحدية، وأحيانا عصية على الفهم، فالابن يستعير من ذاكرة الطفولة مشهد أبيه وأمه العاطفي، ويسرح في متاهة هي مزيج من رد فعل طفولي وفضول لمشاهدة دراما حياتية، جاءت به مثلها إلى الحياة.
أرنو إلى الأطراف والجسدينِ
طافت أديمَكِ لهفةً شفتاهُ
عريٌ، بياض سافرٌ. وذهولي
كم كنتما أدنى لحيوانينِ.
البابُ أفلِتُهُ بلا صوتٍ. بقيتُ كأنما
ربٌّ تخفّى. خِفت؟ كلا، ربما
فرحٌ طواني؟ متعةً كانت وبالإمكان. ثُمَّ تكلَّما:
- هل ترتَجينَ زيادةً؟ - شكرًا، نعمْ! فكسوتُما
خيط من التحدي الثنائي للموت يغزل «سوناتات إينغر»، ففيما يقضي الابن أوقاته يعالج، بصبر جميل، فكرة أن يقشع ولو قليلا من شرودها، عبر محفزات الذاكرة، ومنح الجسد البارد دفء حنان، نجده يستنجد، يائسًا، بالموت، ليعينه على ترتيب معنى الحياة، في مشهد شديد الوجع.
رجوتُكَ، ياموتُ، أقبِل وخُذْها إلى مُنْتَهاها
لتَنجوَ من فكِّ دهرٍ يلوكُ بكلِّ برود
بلا أي معنى، هنا، جسدًا جاء بي للوجود
لأحيا هنا، الآنَ، حتّى أرى عجزَها وشقاها.
هذه الصورة القاتمة للاستنجاد بالموت من أجل وضع حد للمعاناة، بطريقة أقرب إلى السريالية، لم تكن، برأيي، مستساغة بلغتنا العربية لو ترجمت نثرًا، لكن إبراهيم عبد الملك منح هذه الرباعية ديناميكية الحركة، ونبض الإيقاع «المموسق» والقافية المتناسقة بين مدٍ وضمةٍ ورفع.
*كاتب وإعلامي