أهمية التوثيق في حفظ الإبداع العربي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

أهمية التوثيق في حفظ الإبداع العربي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

تشكو المكتبة العربية ضعفًا في توثيق النتاج الأدبي والعلمي العربي، سابقًا وحاليًا، لعوامل لست بصدد تعدادها، ويكفي أن نذكر أن «فهرست» ابن النديم، على عظيم أهميته، لم يحفظ سوى نسبة متواضعة من هذا النتاج الغزير في زمنه الذي تعرض جزء كبير منه للضياع مع الأسف.
ورغم التطور الكبير الذي شهده التوثيق في العصر الحديث، لم يحظ هذا الميدان بما يستحقه من اهتمام، ولذا فإن أي جهد في هذا المجال ينبغي أن يحظى بالاهتمام والترحيب.
كتاب الدكتور حسن البياتي، الذي صدر عن دار الحكمة في لندن بعنوان «كتبوا عني.. وكتبن»، والذي طبعه على حسابه الخاص، وثّق غالبية ما كتب عنه طيلة ما يربو على الستين عامًا، وهو عمل جدير بالتقدير والإطراء، خصوصا أنه فقد نعمة الإبصار قبل ما يقارب العقدين من السنين.
ويأتي هذا الكتاب بعد مجموعاته الشعرية «من شفاه الحياة» - بغداد 1956، و«جنود الاحتلال» - بغداد 1959، و«من سفر الحياة» - بغداد2008، و«في ملكوت الظلام» - بيروت2008، و«سفر الحالات» عن دار الغاوون في بيروت، وهو يشكل حلقة في سلسلة خماسية الحلقات تضع بين يدي القارئ والباحث - كما يقول المؤلف - مادة ذات معطيات شتى: حياتية، وثقافية، وإبداعية، وغيرها، بالإضافة إلى سيرة ذاتية له.
ومواد الكتاب، كما ذكرت، غطّت ستة عقود زمنية كاملة، وهي ذات تنوع ظاهر ما بين الحديث عن قصيدة بعينها، أو مجموعة شعرية، أو كتاب مؤلف وآخر مترجم من اللغة الروسية إلى العربية، وقد جاءت بعض الكتابات ضمن مؤلفات أدبية، أو في رسائل جامعية، أو على صفحات المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية.
ويقع الكتاب في 335 صفحة، بإخراج مريح يسهل القراءة، وقد رتبت مواده وفق التسلسل التاريخي لظهور المادة في وسائل الإعلام المختلفة، وهي ذات تنوع كبير.
وقد سجل المؤلف واقع أن الكتاب لا يضم كل ما كتب عنه، فقد أتى الزمن والأحداث على غير قليل منها، كما أن البعد عن الوطن ومصيبة فقدان نعمة البصر وقفا حائلين دون الوصول إلى بعض ما تشير إليه ذاكرة المؤلف من مواد مبعثرة هنا وهناك.
ولقد تناول إنتاج الشاعر حسن البياتي العشرات من الكتاب والشعراء والأساتذة ومحرري الصفحات الأدبية من مختلف الاتجاهات. ودفعًا للإطالة، سأكتفي بذكر عدد منهم لتبيان مدى الاهتمام الذي حظي به إبداع الشاعر الدكتور حسن البياتي. وأبدأ بالدكتور صفاء خلوصي، أستاذ الأدب المقارن في دار المعلمين العالية في بغداد الذي كتب مقدمة لديوان «من شفاه الحياة»، الصادر في العام 1956، وهو أول ديوان ينشر للشاعر، جاء فيها (المقدمة) ما يلي: «أنا مستبشر بهذا الديوان كل الاستبشار لأنه بداية مرحلة جديدة في تطور الشعر الحديث في العراق، لا من حيث الإيقاع فحسب، بل من حيث التلاوين والأغراض أيضًا».
وممن تنالوا إنتاج البياتي كذلك الشاعرة المجددة نازك الملائكة، والدكتور صالح جواد الطعمة، والدكتور داود سلوم، والشاعر يوسف الصائغ، والكاتب اللبناني الدكتور شربل داغر، والدكتور علي جواد الطاهر، وخالص عزمي، والدكتورة سعاد محمد خضر، والدكتور عدنان الظاهر، والشاعر الفريد سمعان، والشاعرات وفاء عبد الرزاق وورود الموسوي وفليحة حسن وآخرون.



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.