قلت في نفسي، ونحن نهم بالاتجاه من انتاناريفو إلى مدينة انسيرابي، ثالث أكبر مدينة في مدغشقر، لماذا لا نخوض تجربة السفر بوسائل النقل العام أو ما يعرف محليا بـ«تاكسي بلاس»؟ لن نخسر شيئًا! السفر بواسطة النقل العام يمكن الزائر من التعرف على جانب من الحياة في هذا البلد الأفريقي الغامض لن يكون بمقدوره مشاهدته في حال السفر بسيارة خاصة. سأعيش مغامرة ممتعة مع أخي وصديقي عبد الله بين السكان المحليين، وأشاهد البلاد بعيون محلية.
مدغشقر بلد ليس له مثيل، فعوضًا عن أنه يمتلك تنوعًا بيئيًا وحيويًا لا يوجد له نظير كغابة الباوباب وحيوان الليميور، فهو مميز بتنوعه العرقي، حيث تحوي 28 عرقًا من آسيا وأفريقيا وعرب وأوروبيين، تزاوجوا عبر مئات السنين، لينتجوا ملامح أفرو - آسيوية لا تراها إلا هنا.
المسافة بين المدينتين لا تتجاوز 150 كلم وقيل إنها تستغرق ثلاث ساعات سفر. إذن ليست طويلة ونستطيع تحملها.
حسنا قلت لرفيقي، هيا بنا إلى محطة «تاكسي بلاس» لنبدأ المغامرة.
وصلنا لمحطة الباص. كانت مكتظة عن بكرة أبيها. السواد في كل مكان، الازدحام خانق والفقر ظاهر على كل شيء. الشارع العام غير معبد، والمحال التجارية مبنية من القش أو الصفيح المتهالك. برك الماء وسط مجمع الباصات القريب يحيط بها الطين، بينما الغبار الكثيف يختلط بعوادم السيارات الغارقة في القدم، ورجال الشرطة ينظمون السير بملابسهم المهترئة ووجوههم المتعبة، لكن بحزم.
ما إن ترجلنا من التاكسي حتى انقض علينا السماسرة والمتسولون كأننا نجوم سينما. الكل يريد أن يبيعنا أو يشترينا أو يطمع ببعض النقود لسد حاجة، وما أكثر المحتاجين هنا.
بعد معاناة، خلصنا أنفسنا وعثرنا على ما يسمى «تاكسي بلاس»، وإذا به عبارة عن باص صغير مترهل، أكل عليه الدهر وشرب، مرارا وتكرارا. يُحشر فيه الركاب كالسردين.
وبعد نحو ساعتين من الانتظار تحت أشعة الشمس الحارقة، انطلق بنا الباص مغردا بزموره الذي لم يهدأ طوال الرحلة. قال لي عبد الله، ما الذي فعلناه بأنفسنا؟ لماذا لا نهرب ونأخذ تاكسي خاصًا؟ لكنني أصررت. وقلت: لا تتسرع فالمشوار في أوله.
بعد نصف ساعة، وصلنا إلى حدود العاصمة وبدأت الطبيعة تفتح ذراعيها. الهواء المنعش أعاد لنا الحياة وبدأنا نبتسم قليلا.
شقت السيارة طريقها وسط حقول الأرز المترامية على جانبي الطريق والأنهار الشاسعة، يتخللها صور بانورامية لرجال ونساء وأطفال يعملون في الحقول أو يقودون دوابهم على جانب الشارع، كما كانوا يفعلوا منذ مئات السنين. إنها رحلة عبر الزمان.
يمر الطريق بقرى صغيرة يعيش أهلها على الزراعة، ويزين شوارعها باعة الفواكه الاستوائية والحقائب والحلي المصنوعة من القش.
داخل الباص المكتظ، كان هناك مزارع ذو ملامح آسيوية، وآخر يطغى عليه أوصاف الأفارقة وثالث كأنه قادم من اليمن. لم يتحدث الركاب كثيرا ولم يتذمروا رغم صعوبة السفر، بل ربما لم يتحدثوا مطلقا. لكن الابتسامة لم تفارق محياهم في كل مرة نظرنا إليهم. ملامح الشقاء والفقر لا يمكن تجاهلها، لكنهم أظهروا طينة مسالمة وهادئة تبعث على الاطمئنان.
أوقفنا شرطي سير. وإذ بالسائق يضع بعض النقود داخل صحيفة ويعطيها للشرطي الذي أشار بيده أن واصلوا المسير. تكرر هذا المشهد نحو خمس مرات خلال الرحلة التي استغرقت أكثر من سبع ساعات، وليس ثلاث ساعات.
وصلنا بسلامة، لكن كانت عظامنا قد تورمت من الجلوس على كرسي مهترئ وسفر على طريق جبلي متلوٍّ كأفعى عملاقة وغير معبد، لكننا استمتعنا عند كل منعطف ووسط كل قرية مرت بها السيارة، لولا آلام الظهر والركب والتشنجات العضلية!
كانت انسيرابي مدينة صاخبة. الاحتفالات تعم المكان. إنه العيد الوطني، حيث يأتي الناس من كل مكان. الكل يغني ويرقص على وقع أنغام أفريقية. المعالم الأمنية بادية على المكان من رجال شرطة وجيش، فهذه أفريقيا ولا بد من السيطرة على الجمهور، كما قال لنا فاروق، مسلم من مدغشقر يحفظ القرآن، ودارس في الأزهر.
قلت لرفيقي ممازحا: «هربنا من العاصمة طلبا للهدوء، لنجد أن كل مدغشقر جاءت للاحتفال هنا».
بعد أن وضعنا حقائبنا بفندق وسط المدينة، انطلقنا بمغامرة أخرى بحثا عن مطعم يقدم أكلا شهيا. خلال تجوالنا مررنا بكنيسة مبنية بطراز أوروبي. إنها كنيسة عمرها أكثر من 200 عام بناها النرويجيون، لا تزال تحتفظ بطابعها المعماري الغربي ويزورها المصلون طوال الوقت.
قادنا فاروق لمفاجئة أخرى لم تكن بالحسبان. مطعم يقدم الأكل التونسي. نعم مطعم عربي في هذه المدينة المنسية، صاحبه رجل تونسي زوجته من مدغشقر. اسمه محجوب وهو رجل خفيف الظل قرر «الهرب» من فرنسا العام الماضي مع عائلته وفتح مطعم عربي في انسيرابي. أكلنا الكسكسي والطاجن وثلاث سمكات. لقد كانت وجبة دسمة شهية لا تجد مثيلا لها في البلاد.
قال لي محجوب إنه يصلي في مسجد قريب لا بد من زيارته. فلهذا المسجد قصة مثيرة حيث بناه ملك المغرب الملك محمد الخامس عندما نفته فرنسا إلى انسيرابي عام 1930. من بوابته حتى منبره والنافورة التي تتوسط الساحة، يحمل المسجد الطابع المغربي الأصيل، من زخارف ونقوش وقبته المزركشة. إنه المسجد الأجمل في المدينة يخدم الأقلية المسلمة. يمثل المسجد ذكرى أليمة لأهلنا في المغرب لرمزيته السياسية، لكنه يبقى تذكارا لما عاناه هذا البلد العريق قبل الحصول على استقلاله من فرنسا التي تفننت في نفي معارضيها لأصقاع الأرض.
في صباح اليوم التالي ذهبنا إلى بحيرة «تيتيفا» القابعة وسط بركان قديم، لكن هذه المرة استأجرنا سيارة دفع رباعي، فالطريق سيئ للغاية، واستغرقنا مسافة 20 كلم نحو ساعتين، لكن ما شاهدناه يستحق السفر. إنها بحيرة لا مثيل لها في العالم. تتوسط صخور ويحيط بها الأشجار من كل مكان وشكل البحيرة مطابق تماما لخريطة مدغشقر.
وما إن انتهينا من زيارة البحيرة حتى قررنا العودة إلى العاصمة، لكن هذه المرة بسيارة خاصة ذات دفع رباعي. الرحلة مريحة هذه المرة حيث استغرق الطريق ثلاث ساعات، توقفنا خلالها لالتقاط الصور التذكارية وشراء الفواكه والهدايا من بلد لا مثيل له في العالم. لقد كانت تجربة تستحق العناء ذهابا وإيابا وحتما سنعود لمواصلة المغامرة في بلد من عالم آخر.
مدغشقر فقيرة اقتصاديًا.. غنية سياحيًا
مسجد مغربي ومطعم تونسي يضيفان نكهة عربية للبلد
مدغشقر فقيرة اقتصاديًا.. غنية سياحيًا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة