خلفيات مثيرة عن بعض وجوه التطرّف في حي مولنبيك ببروكسل

معلم بلجيكي درّس «الإسلام المسلح» للشباب الغاضب

عوائل مغاربية في أحد شوارع ضاحية مولنبيك بعد هجمات بروكسل (نيويورك تايمز)
عوائل مغاربية في أحد شوارع ضاحية مولنبيك بعد هجمات بروكسل (نيويورك تايمز)
TT

خلفيات مثيرة عن بعض وجوه التطرّف في حي مولنبيك ببروكسل

عوائل مغاربية في أحد شوارع ضاحية مولنبيك بعد هجمات بروكسل (نيويورك تايمز)
عوائل مغاربية في أحد شوارع ضاحية مولنبيك بعد هجمات بروكسل (نيويورك تايمز)

عاش تحت العوارض الخشبية في شقة علوية صغيرة في حي مولنبيك بالعاصمة البلجيكية بروكسل، وصار معروفا لبعض أتباعه بأنه «سانتا كلوز الجهاد». كان يتسم بلحية كثة وكرش منتفخ، وعرف عنه منح الأموال والنصائح بسخاء للشباب المسلم الصغير والشغوف بالهجرة والقتال في سوريا والصومال، أو العيث فسادًا في أوروبا. وعندما ضبطت الشرطة البلجيكية الحاسوب الخاص بالرجل، واسمه خالد زركاني، عام 2014. عثرت على كنز من أدبيات التطرّف اللابس مسوح الإسلام، بما في ذلك كتاب يحمل عنوان «38 طريقة للمشاركة في الجهاد»، وكتاب آخر بعنوان «16 أمرًا لا غنى عنهم قبل السفر إلى سوريا». وفي يوليو (تموز)، أصدر القضاة في بلجيكا حكما بالسجن لمدة 12 سنة بحق الرجل إثر إدانته بالمشاركة في أنشطة منظمة إرهابية، ووصفوه بـ«النموذج الأصلي لمرشدي الفتن والضلالات» الذي «ينشر الأفكار المتطرفة بين الشباب الساذج والجاهل والشغوف».
ولكن خلال الأشهر التي أعقبت الحكم ومنذ تلك الأوقات بدأت الصورة الكاملة لأعمال زركاني الدؤوبة في شوارع مولنبيك وخارجها في الظهور بوضوح، إذ إن الشبكة التي عمل على تغذيتها برزت على سطح الأحداث كعنصر من العناصر المركزية في هجمات باريس وبروكسل – إلى جانب إحدى الشبكات في فرنسا التي أعلنت السلطات الشهر الماضي أنها ألقت القبض عليها وأحبطت أنشطتها.
المدعي العام الاتحادي البلجيكي برنار ميشال قال في فبراير (شباط) الماضي: «تسبب خالد زركاني في انحراف جيل كامل من الشباب البلجيكي الصغير، وخصوصًا في حي مولنبيك ذي الأغلبية المسلمة». وللعلم، أثناء محاكمة الرجل البالغ من العمر (42 سنة)، أنكر ضلوعه في أعمال الإرهاب. ولقد رفض محاميه في بروكسل، ستيف لامبير، التعليق على هذا المقال. لكن وثائق المحكمة إلى جانب المقابلات الشخصية مع عدد من سكان مولنبيك وغيرهم من الناشطين، فضلا عن المسؤولين الأمنيين في بلجيكا، تشير إلى وجود اتصالات مباشرة أو غير مباشرة للرجل مع كثير من الشخصيات المهمة التي لقيت حتفها أخيرًا أو هي الآن رهن الاعتقال فيما يتعلق بالمذبحة الإرهابية التي وقعت في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) بالعاصمة الفرنسية باريس والتي أسفرت عن مقتل 130 شخصا إلى جانب التفجيرات الإرهابية التي نفذت في بروكسل الشهر الماضي وحصدت أرواح 32 شخصا.
وهناك محمد أبريني، المقيم سابقًا في حي مولنبيك، الذي، وفقا لتصريحات السلطات البلجيكية السبت الماضي، كان قد اعترف بأنه هو «رجل القبعة»، الذي التقطته كاميرات المراقبة مرافقًا للعنصرين الانتحاريين ثم انطلق بعد ذلك منفردًا عنهما. أما شقيقه الأصغر سليمان، فقد سافر إلى سوريا بمساعدة زركاني، وفقا للمسؤولين الأمنيين الذين فضلوا عدم الإفصاح عن هوياتهم لأنهم غير مصرح لهم بالتعليق على المقالات الصحافية. وذكرت التقارير الإخبارية أن شقيق أبريني الأصغر لقي حتفه في عام 2014 أثناء القتال في صفوف تنظيم داعش الإرهابي في سوريا.
أما رضا كريكيت، وهو من المقاتلين السابقين في الحرب الأهلية السورية وقد ألقي القبض عليه بواسطة الشرطة الفرنسية الشهر الماضي على خلفية اتصاله بالهجمات المروعة، كان قد قضى بعض الوقت في شقة زركاني في حي مولنبيك ببروكسل وأعاره سيارة من نوع مرسيدس مسجلة في فرنسا، كما أفاد ممثلو الادعاء.
يقول المحققون في بلجيكا إن عبد الحميد أباعود، وهو أيضًا مقيم سابق في حي مولنبيك والذي أشرف على هجمات نوفمبر الماضي في باريس، كان من تلامذة زركاني. ويعتقد أن نجيم العشراوي - الذي تشتبه السلطات في أنه صانع القنابل التي استخدمت في هجمات باريس وبروكسل - على صلات وثيقة بالشبكة ذاتها. وحسب أقوال حواء كيتا، وهي مواطنة مهاجرة إلى بروكسل من مالي، أن ابنها، يوني ماين، تعرض للتطرف خلال بضعة شهور تحت تأثير المدعو زركاني. (وتعتقد أن ابنها قد مات في المعارك الدائرة في سوريا عام 2014). في حين قالت متحدثة من داخل شقتها في أحد المباني الشاهقة في بروكسل واصفة زركاني، المسجون حاليًا: «إنه كالساحر، بل إنه الشيطان نفسه».
دور زركاني في مولنبيك، وهو الرجل العبوس الذي يعرف الشوارع والطرقات أكثر مما يعرف مكان المسجد، يساعد في تفسير السبب في أن منطقة صغيرة وغير فقيرة من العاصمة البلجيكية ظلت على اتصال دائم فيما يتعلق بالتحقيقات الإرهابية الجارية. كما يسلط الضوء كذلك على التحوّل الواضح خلال العقد الماضي من المناقشات الدينية، الغامضة في أغلب الأحيان، للأجيال السابقة من الجهاديين المرتبطين بفكر تنظيم «القاعدة» إلى ما وصفته هند فريحي، التي ألفت كتابا حول حي مولنبيك، بأنه «إسلام العصابات».
وحسب فريحي، وهي مواطنة بلجيكية من أصول مغربية، أنها عندما بدأت أبحاثها أول الأمر عن حي مولنبيك قبل عشر سنوات كاملة «كان الحس الراديكالي تهيمن عليه حفنة من رجال الدين المتطرفين الضالعين في النصوص الدينية وتفسيراتها المختلفة. ولقد شهد هذا المد تحوّرًا معتبرًا تحت دعاية تنظيم داعش الجديدة، صوب تشكيل مشروع إجرامي يقوده التآزر والتناظر ما بين اللصوصية والإسلاموية». وتابعت فريحي قائلة: «يجتذب (داعش) أتباعه من فئة المجرمين واللصوص وقطاع الطرق وأفراد العصابات لأن التنظيم الإرهابي في حاجة ماسة إلى خبراتهم في الأسلحة، والمنازل الآمنة، والتخفي بعيدا عن الأنظار. وإذا ما مزجنا ذلك مع القليل من الدعاوى الإسلاموية المتطرفة، تجد نفسك تمامًا أمام الأمر الواقع الحالي في حي مولنبيك».
من ناحية أخرى، يتتبع البعض جذور الراديكالية في مولنبيك إلى عقد التسعينات من القرن الماضي، عندما أسس بسام العياشي، وهو مهاجر سوري وصاحب مطعم سابق: «المركز الإسلامي البلجيكي». وكان «المركز» عبارة عن مسجد مؤقت صار محل الدعوة ونشر الفكر المتشدد. ولقد حذر السكان والمسؤولون المحليون السلطات مرارًا وتكرارًا من أن ذلك المسجد يأوي ويشجع المتطرفين.
وهنا يذكر فيليب مورو، عمدة حي مولنبيك في الفترة بين عام 1993 وعام 2012، أنه عندما التقى مع العياشي: «كان من الواضح أنه شخصية متطرّفة للغاية»، إلا أنه اعتبر الأمر برمته ضمن مسؤوليات جهاز الأمن الاتحادي البلجيكي، وليس من مسؤوليات البلديات وأفراد مجالسها من أمثاله.
أما يوهان ليمان، وهو عالم أنثروبولوجيا ومن الناشطين الاجتماعيين في حي مولنبيك، فقال إنه دق ناقوس الخطر حول أنشطة «المركز» لكنه لم يتلق استجابة تذكر من جانب السلطات - وهذا، حتى بعدما أصبح معروفًا أن بسام العياشي حضر رسميًا حفل زفاف أحد متشدّدي تنظيم «القاعدة» من الذين كانوا ضالعين في هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001. إلى جانب ضلوعه في جريمة اغتيال القائد الأفغاني الراحل أحمد شاه مسعود الذي كان يعارض أسامة بن لادن وعملياته في أفغانستان.
ولقد رفع ليمان، الذي كان يعمل في لجنة حكومية لمناهضة التمييز، دعوى قضائية يتهم فيها «المركز» بتعزيز وترويج معاداة السامية والآراء المناهضة للولايات المتحدة. ومن ثم قضت المحكمة في عام 2006 بأن «المركز» انغمس في خطابات الكراهية، كما قال. وفي الوقت نفسه، داهمت الشرطة البلجيكية منزل العياشي وضبطت كثيرا من الحواسيب والمستندات. ومن ثم انتقل العياشي إلى سوريا برفقة نجله، الذي قتل فيما بعد خلال إحدى المعارك ضد قوات النظام السوري. ولم يرد العياشي حتى الآن على طلب التعليق على هذا المقال.
لقد انتقل زركاني، وهو من أصول مغربية وأصبح مقيما قانونا في بلجيكا منذ عام 2002، للعيش على هامش الحياة التي أرسى دعائمها العياشي من قبل، غير أنه لم يلفت إليه الانتباه كثيرًا، كما قال السكان والجيران في مولنبيك. وفي حين أن «المركز الإسلامي البلجيكي» قد عبر عن صورة زاهدة وجامدة من الإسلام التي كانت ذات جاذبية جدًا متواضعة من جانب الشباب الذين يحبون تناول الكحوليات والتسكع في الطرقات والحانات ليلاً، فإن زركاني، كما يقول المحققون في بلجيكا، كان قادرا على سد الفجوة من خلال توجيه الطاقات الإجرامية لدى الشباب المنحرفين.
*خدمة: «نيويورك تايمز»



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.