مركز الصحافة الاستقصائية في واشنطن ينسق أوراق بنما

أكبر خبطة صحافية في التاريخ

مركز الصحافة الاستقصائية في واشنطن ينسق أوراق بنما
TT

مركز الصحافة الاستقصائية في واشنطن ينسق أوراق بنما

مركز الصحافة الاستقصائية في واشنطن ينسق أوراق بنما

في تقاطع شارعي 17 وإي، في قلب واشنطن، يوجد مركز «بابليك أنتيغرتي» (النزاهة العامة)، الذي أسسه في عام 1989 الصحافي الأميركي شارلز لويس. عند مدخل المركز صورة عملاقة للصحافي، ومعلومات عنه.
كان لويس يعمل في برنامج «60 دقيقة» الاستقصائي في تلفزيون «سي بى إس»، عندما أحس بأن البرنامج (كان الوحيد في مجال الصحافة الاستقصائية التلفزيونية) يواجه عراقيل. ليس من أعداء أو معارضين، ولكن من داخل شركة «سي بي إس» التي أحست بأن التحقيقات التي يجريها البرنامج تعرقل مشاريعها، واستثماراتها الرأسمالية، وعلاقاتها مع شركات وبنوك. (كانت تلك سنوات «ريغانوميكز»، نظريات الرئيس رونالد ريغان الرأسمالية المتطرفة).
ترك لويس بهرج «سي بي إس»، ومن منزله، أسس مركز «النزاهة العامة». بعد أن كان فيه شخص واحد، به اليوم خمسون شخصا تقريبا. وخلال ربع قرن، أصدر المركز أكثر من 300 تحقيق صحافي استقصائي هزت العالم. منها:
في عام 1996: تقرير «فندق القطط السمان»، الذي كشف أن الرئيس بيل كلينتون، وزوجته هيلاري، يستضيفان في البيت الأبيض مليونيرات مقابل تبرعات للحزب الديمقراطي.
في عام 2001: تقرير: «العاصفة القادمة»، الذي كشف ما صار يعرف بـ«قانون باتريوت» (قانون البطولة) الذي منح مؤسسات الأمن والاستخبارات الحكومية حق التجسس على الناس باسم «الحرب ضد الإرهاب».
في عام 2003: تقرير «أرباح الحرب»، الذي كشف عقودات وزارة الدفاع مع شركات أميركية لإدارة احتلال العراق، من بينها شركة «هاليببرتون» التي كان يترأسها ديك شينى، نائب الرئيس بوش الابن في ذلك الوقت.
في عام 2008: تقرير «بطاقة حرب العراق»، الذي كشف خفايا غزو العراق. ومنها 935 كذبة كذبتها إدارة الرئيس بوش الابن عن الحرب.
قبل عشرين عاما، قرر لويس توسيع تحقيقات المركز لتصبح عالمية. وأسس «إنفيستيغيتف جورنالزم إنترناشيونال كونسورتيوم» (مجموعة الصحافيين العالميين الاستقصائيين)، التي يرمز لها بالأحرف الأربعة: «آي سي أي جي».
هذه هي المجموعة التي تنسق، في الوقت الحاضر، مع صحيفة «دويتشه زايتونغ» الألمانية التي حصلت على «أوراق بنما».
الآن، كبر لويس في السن، وترك إدارة المركز لآخرين، ويعمل أستاذا متقاعدا في كلية الصحافة في الجامعة الأميركية في واشنطن. وقبل عامين، أصدر كتاب: «935 كذبة: مستقبل الحقيقة، وهبوط النزاهة الأخلاقية في أميركا» (تشير 935 إلى تقرير أكاذيب الرئيس بوش الابن عن حرب العراق).
ربما لولا «أوراق بنما» لما تسلطت الأضواء على مركز «آي سي أي جي»، شبه المغمور في عمارة مكتبية عالية من عمارات واشنطن العالية الكثيرة.
ولا حتى على لويس نفسه.
لكن، في تقرير عنه، قالت صحيفة «واشنطن بوست» إنه «ربما واحد من صحافيين قلائل تنبأ، منذ وقت مبكر (كان في الثلاثين من عمره) بزيادة الرأسمالية المتطرفة، وتأثير الشركات والأغنياء على العملية السياسية وعلى العمل الصحافي النزيه (الاستقصائي)».
في صفحته في الإنترنت، وضع لويس عاليا قول الرئيس توماس جيفرسون: «إذا تريد أمة أن تكون حرة، لكن جاهلة، ستكون حضارتها لامعة في الخارج، لكن خاوية في الداخل».
تشمل «أوراق بنما» تقريبا 12 مليون وثيقة مالية وقانونية سرية. قبل عام، أعطاها شخص مجهول للصحيفة الألمانية. كانت تتراكم، منذ عشرات السنين، في مكتب محاماة «موساك فونسيكا» في بنما.
فيها معلومات مفصلة عن أكثر من 14 ألف ثري فتحوا حسابات سرية في قرابة ربع مليون فرع بنك في جزر ودويلات في البحر الكاريبي، بهدف إخفاء ثرواتهم عن الناس، وبهدف عدم دفع الضرائب.
حتى الآن، تسبب كشف الوثائق في استقالة عدد من كبار المسؤولين في دول أوروبية (منهم رئيس وزراء آيسلندا)، وفي إحراج عدد آخر (منهم رئيس وزراء بريطانيا).
في الوقت الحاضر، تحت رعاية مركز «آي سي أي جي»، تشترك في جمع، وفحص، ونشر «أوراق بنما» مجموعة من الصحف العالمية، منها: «غارديان» البريطانية، و«لوموند» الفرنسية، و«واشنطن بوست» الأميركية، و«زونتاج زايتونغ» الألمانية، و«إنديا إكسبريس» الهندية.
يتوقع أن يستمر كشف هذه الوثائق عدة سنوات. هذا غير تحقيقات عن نتائجها في كل دولة، وعن كل شخص. لهذا، وصفت صحيفة «هافنغتون بوست» الوثائق بأنها «أكبر خطبة صحافية في التاريخ».
تتعد تراجم كلمة «إنفيستيغيشن»، حسب القاموس. يمكن أن تكون «استقصاء» أو «تحقيقًا» أو «استجوابًا» أو «فحصًا». (تترجم «إف بي آي» إلى مكتب «التحقيق» الاتحادي).
في كل الحالات، تعني الكلمة التركيز على موضوع معين تبدو تفاصيله سرية، سواء نشاط حكومي، أو نشاط شركات أو بنوك، أو فساد شخصي.
وعرف الكلمة ستيف واينبيرغ، أستاذ الصحافة في جامعة ميزوري، بأنها: «تقارير صحافية، من خلال مبادرة وعمل خاص، في المواضيع التي تهم القراء، والمشاهدين، أو المستمعين». توجد في كلية الصحافة في جامعة ميزوري واحدة من أقسام قليلة تدرس الصحافة الاستقصائية.
في كثير من الحالات، موضوعات الإبلاغ ترغب الأمور تحت المجهر أن تظل لم يكشف عنه
توجد حاليا إدارات الجامعات لتدريس الصحافة الاستقصائية. وتجرى مؤتمرات تقديم الأقران البحوث استعرض في الصحافة الاستقصائية.
لكن، ليست الصحافة الاستقصائية ظاهرة جديدة في الولايات المتحدة:
في عام 1872، ادعى جوليسو شامبرز، صحافي في صحيفة «نيويورك تايمز»، أنه مجنون. وأدخل مستشفى للمجانين. ثم خرج، وكشف سوء معاملة المجانين. وانتقل الموضوع إلى الكونغرس الذي أصدر قوانين تنظم مستشفيات المجانين.
في عام 1902، نشرت مجلة «ماكلير» تفاصيل صفقات غير قانونية وسط شركات عملاقة. (كان ذلك وقت «البارونات»، أصحاب شركات النفط، والسكة الحديد، والفحم، والصلب. قبل اختراع السيارات والطائرات، وتطور البنوك وشركات الأسلحة).
في عام 1988، نشرت صحيفة «أتلانتا كونستيتيوشن» تحقيقات قام بها الصحافي بيل ديمدمان، الأسود، الذي كشف التفرقة العنصرية في بيع شركات العقارات المنازل. كان عنوان التقرير، الذي أصبح كتابا: «لون المال».
في الأسبوع الماضي، في تقرير صحيفة «واشنطن بوست»، إحصائيات عن انتشار مراكز التحقيقات الصحافية الاستقصائية في دول كثيرة، ليست فقط في أوروبا، ولكن، أيضًا، في العالم الثالث.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.