معرض يستعيد حدائق الشرق من «الحمراء» إلى «تاج محل»

حين يتحول معهد العالم العربي إلى روض عاطر

مشهد من الحديقة للفنانة مرغريت نخلة (1940)
مشهد من الحديقة للفنانة مرغريت نخلة (1940)
TT

معرض يستعيد حدائق الشرق من «الحمراء» إلى «تاج محل»

مشهد من الحديقة للفنانة مرغريت نخلة (1940)
مشهد من الحديقة للفنانة مرغريت نخلة (1940)

ما رأيك بخميلة أندلسية في قلب باريس؟ إنها الفكرة المدهشة التي يقدمها معهد العالم العربي لزواره في معرض فريد من نوعه. زوار بعشرات الآلاف كل شهر، طلاب مدارس وجامعيون مهتمون بالثقافات الأخرى وسياح من مدن فرنسا ومن البلاد المجاورة، يحضرون لاستكشاف تجربة حضارية تدحض ما يروج من صورة قاتمة عن العرب والمسلمين في بعض وسائل الإعلام.
غدًا، مع نسمات الربيع، يفتح معهد العالم العربي في باريس بوابته ليفاجئ الزوار بفنائه الواسع الذي نبتت فيه الشجيرات وترقرقت النافورات. فطوال الأسابيع الماضية، لاحظ المترددون الدائمون أن مدخل هذا الصرح الثقافي الفريد قد تحول من البوابة الرئيسية المعتادة إلى مدخل جانبي. وإذا عرف السبب بطل العجب. فقد كانت سواعد العمال ومهندسي الفضاءات تعمل بجد لإقامة حقل مزهر في الساحة الأمامية المفروشة، عادة، بالرخام. من أين نبت هذا الروض العاطر؟
إنه معرض فني وميداني في آن، يستمر حتى 25 من سبتمبر (أيلول) المقبل، ولا يكتفي بعرض لوحات لما كانت عليه حدائق الشرق من روعة، سواء في دمشق أو قصور الأندلس أو رياض تاج محل. فقد حرص منظمو المعرض على أن يقرنوا الصورة الجامدة بالمشهد الواقعي. وهكذا يتاح للزائر أن يجتاز ممرات حديقة حقيقية جرى تصميمها وفقًا لما هي عليه مرابع الشرق الطبيعية الخضراء. وبهذا تحضر متعة النزهة والتأمل والشم مع متعة النظر.
هل تعرفون أن أزهار الزنبق كانت مفضلة لدى سلاطين بني عثمان وتتفتح أبصالها في قصور إسطنبول قبل أن تشتهر بها هولندا وتجعلها رمزًا لها؟ هل يدرك الأوروبيون أن الحوش والحديقة والبحرة والروض الداخلي الخاص كانت من لوازم البيوت في بغداد ومراكش ودمشق وغيرها من مدن العرب، وأن الحديقة العامة، أو ما يسمى «البارك» في الغرب، هو تجديد حديث في الشرق، يحسب حسابه في المشروعات العمرانية السكنية على امتداد العالم الغربي؟
ومن يعرف، بين الأجيال الجديدة، أن لفظة حديقة في اللغة الفارسية القديمة هي فردوس، وقد أخذها الفرنسيون وحوروها إلى «بارادي» والإنجليز إلى «بارادايس»؟ إن هذا التاريخ المدهش هو ما يدعو معهد العالم العربي زواره لاستكشافه من خلال الروض المؤقت الذي يدوم خلال فترة المعرض، أي قرابة خمسة أشهر، قبل أن يحل الخريف على باريس وتصفرّ أوراق الشجر وتتساقط مع الشتاء. وهو معرض يستعرض فنًا من فنون العيش، ارتبط بالاحتفاء بالطبيعة، ويقدمه من عدة أوجه. فقبل أن يدلف الزائر إلى قاعات العرض ويشاهد اللوحات والصور البديعة النادرة التي رسمها الفنانون القدماء للشجر والزهر والطير، فإنه سيجتاز هذا الفردوس المزروع بأشجار الليمون وعرائش الياسمين والنخيل السامق، بكل عبق أزهاره ومناظره التي صممها فنان الفضاءات الخارجية ميشيل بينا. وبعدها تقوده خطواته إلى حقل من النباتات العشبية العطرة والخضار اليانعة، صممه فرنسوا أبيلانيت، وتخيل فيه شيئًا من شذى الريحان والنعناع والزعتر وشقيقاتها.
فإذا انتهت النزهة الخارجية ودخل الزائر إلى مبنى المعهد، فإن معرض «حدائق الشرق» يقوده في طواف تاريخي من خمس مراحل، من أيام الحضارات القديمة وحتى هذا العصر الذي صارت فيه الحدائق من عناصر التنمية المستدامة في المدن. وتمر الرحلة بالخمائل الرائعة للقارة الهندية، وحتى القصور ذات الرياض التي ما زالت تشهد على ازدهار الحضارة العربية في الأندلس. ومن حدائق بابل المعلقة في العراق بلاد الرافدين، إحدى عجائب الدنيا السبع، إلى حديقة الأزهر البديعة في القاهرة، التي جرى تطويرها وافتتاحها قبل سنوات قلائل. وهي جولة تعرض ٣٠٠ عمل فني تصور جمال تلك الحدائق، تمت استعارتها من كبريات المتاحف في العالم ومن المجموعات الخاصة، وبينها خرائط وتخطيطات وصور فوتوغرافية كبيرة الأحجام تعيد إلى البال مواهب فنانين شرقيين قدماء لم يمروا بالجمال مرور الكرام، لا تقل عن مهارات المهندسين المعاصرين.
من حدائق تاريخية في غرناطة إلى تجريبية في الجزائر، ومن رياض الأمراء إلى فسح بيوت البسطاء، ومن إطلالات أبراج دبي حتى شرفات النساء، يقدم المعرض عدة تفاحات في سلة واحدة، من الثقافة والتاريخ والمجتمع إلى مهارات البستنة والزراعة. وهي كلها تجتمع في مسار مدروس لتقدم أصالة فن جميل تميز به الشرقيون هو تنسيق الحدائق الصغيرة بالبيوت الصغيرة أو تلك الغابات الغناء المحيطة بالقصور والتي تحولت إلى مزارات عامة. ولا يكتفي منظمو المعرض بتقديم هذا العرض البصري بل يشرحون للمشاهد مصادر إلهام خمائل الشرق ويحللون الروابط التي نسجت بينها وبين حدائق الغرب عبر القرون، ويكشفون الإشارات الخفية للمغزى الاجتماعي أو الفكري والديني لكل منها. وهذا دون أن ننسى الدور الذي تلعبه الطبيعة في المدن الحديثة وتحديات المعاصرة والحفاظ على البيئة. وحين نقول نبات فإننا نعني الماء. وهو أيضًا حاضر في هذه المناسبة، ليروي بمعنى السقاية، ويروي بمعنى الحكاية.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».