«من التاريخ» أميركا: التوسع غربًا.. وتبلور سياسة الحزبين

«من التاريخ» أميركا: التوسع غربًا.. وتبلور سياسة الحزبين
TT

«من التاريخ» أميركا: التوسع غربًا.. وتبلور سياسة الحزبين

«من التاريخ» أميركا: التوسع غربًا.. وتبلور سياسة الحزبين

يمثل الرئيس أندرو جاكسون أحد أهم الشخصيات السياسية الأميركية منذ استقلالها حتى اليوم. وكما أشرنا في الأسبوع الماضي، فهو ابن الأسرة الآيرلندية الفقيرة التي هاجرت لأميركا وتيتم في الخامسة عشرة، إلا أنه استطاع أن يعلّم نفسه إلى أن أصبح محاميًا ونائبًا قضائيًا في سن العشرين. ومن ثم استقر في ولاية تينيسي، تزوج من امرأة متزوجة بالفعل بعدما هرب معها من دون أن يعلم أن إجراءات طلاقها لم تكن قد حُسمت بعد، وهو ما سبب له مشكلات في مستقبله بعدما لفظها المجتمع الأميركي المحافظ، خصوصًا في الطبقة الأرستقراطية. ولكن على الرغم من ذلك دخل جاكسون عالم الساسة عبر مجلسي الكونغرس قبل أن يستقيل لضيقه من الحياة السياسة فيه، وعيّن بعد ذلك قائدًا لميليشيا ولاية تينيسي، وبنى شهرته على محاربة الأميركيين الأصليين (الهنود الحمر) وطردهم من أراضيهم. ثم جاء انتصاره العظيم في معركة نيو أورليانز عام 1814 في مواجهة الجيش البريطاني. وبعدها احتل فلوريدا مع أن أرسل لمراقبة الحدود في الولاية التي تتبع إسبانيا الإسبانية لحماية المستعمرين من غارات الهنود الحمر. لم يستطع عزل «البطل القومي» إلى أن انتهت ولايته، فازداد طموحه وترشح لانتخابات الرئاسة ممثلاً عن الطبقة الكادحة والمتوسطة. ومع خسر في المرة الأولى - مع حصوله على العدد الأكبر من الأصوات الشعبية - استطاع الفوز في الانتخابات التالية.. فدخل البيت الأبيض.
لقد جاءت ولايتا جاكسون كرئيس للولايات المتحدة (1829 - 1833 و1833 - 1837) لتدخل واشنطن في صراع طبقي متوقع لما مثله الرجل من خلفية اجتماعية وتعليمية متواضعة لم يشهدها البيت الأبيض من قبل. فهو رجل يعتبره معظم أعضاء الكونغرس من فئة دنيا بينما كان هو يمقت هذه الطبقة بكل ما أوتي من قوة. وهذا الوضع ما عصف بواشنطن في مشكلة تلو الأخرى، خصوصًا إبان صراعه مع الكونغرس الذي كان يخشى قوة جاكسون وخوفه من تحويل البلاد إلى ديكتاتورية لصلابته وعناده واندفاعاته وعنفه الفطري. وكانت أولى الخلافات قصة الحب التي جمعت وزير دفاعه بامرأة متزوجة من ضابط في الجيش الأميركي، ويومذاك ساند جاكسون وزيره بكل قوة وصمد ضد المؤامرات التي كانت تحاك ضده. ولكن المشكلة التالية كادت تعصف بالوحدة الأميركية ذاتها، ويمكن اعتبارها الجذور الحقيقية للحرب الأهلية الأميركية بعدها بثلاثة عقود. ذلك أن الكونغرس مرّر بدعم من نائب جاكسون قانونًا يسمح للولايات برفض القوانين الفيدرالية التي لا تتناسب وظروفها السياسية والاقتصادية. وعُرِف هذا القانون باسم «قانون الإلغاء» Nullification Act. هذا القانون شجّع ولاية ساوث كارولينا على رفض تطبيق الضرائب على العبيد، وأخذت هذه الولاية (وهي نفسها التي تفجّرت منها شرارة الحرب الأهلية في أواخر عام 1860) تعد العدة عسكريًا لمواجهة أي تحرّك حربي ضدها من الدولة الفيدرالية. وعلى الأثر تدخل الرئيس بتوجيه نداء إلى الولاية لحماية الوحدة الأميركية مع بعض التهديدات المستترة، وبالنتيجة سوّي الأمر بخفض الضريبة بصفة عامة لرأب الصدع، ولكن ليس قبل أن بذر البذور الأولى للحرب الأهلية خصوصًا بعد انتشار الحركات التحرّرية للعبيد في ولايات الشمال، لا سيما في ولاية ماساتشوستس، من أجل إلغاء الرّق (العبودية) تمامًا لأنها تتنافى مع المبادئ العامة للدستور الأميركي. وحقيقة الأمر أن جاكسون لم يكن متعاطفًا مع هذا التوجه لأنه كان يدرك أهمية العبيد بالنسبة لاقتصادات الولايات الجنوبية التي ينتمي إليها، وكانت تعتمد على زراعتي القطن والتبغ، وهاتان زراعتان تحتاج لأيدٍ عاملة كثيفة ورخيصة. وهو ما وضعه في موقف حرج للغاية، لكن جاكسون استطاع أن يوائم بين قناعاته وقسمه كرئيس للبلاد للمحافظة على وحدة التراب الأميركي.
من ناحية ثانية، لعل أهم تركة لجاكسون في السياسية الأميركية ما هو معروف بقانون «إزاحة الهنود» الذي صدر عام 1830، إذ يدرك تمامًا أن مستقبل الولايات المتحدة يكمن في توسّعها غربًا والاستفادة من الأراضي الخصبة التي تسمح ببناء الدولة القوية التي كان يسعى لها وبما يفتح المجال أمام استيعاب أعداد كبيرة من المستوطنين الجدد. وما كان لهذا الاستيطان القائم على التوسّع أن يتحقق إلا على حساب السكان الأصليين، دفعه لطرد كل الهنود من مناطق شرق نهر الميسيسيبي إلى غربه. وعلى الرغم من أن قبائل الهنود الحمر انصاعت لدعواته إلى تغيير عاداتها وتقاليدها كي يسهل صهرها في المجتمع الأميركي المسيحي الأبيض، فإن هذا لم يشفع لها، إذ كان لا بد من خلق حدود فاصلة بين طريقتين من الحياة مختلفتين تمامًا. وهكذا جرى ترحيل الهنود الحمر قسرًا عبر النهر في مشاهد مأسوية مات خلاله كثيرون. وكانت هذه الصفحة تركة سيئة للغاية لجاكسون، ولكن التقدير أنه لم يكن يأبه بذلك لأن رؤيته الصارمة ما كانت تقبل الحلول الوسط أمام اقتناعه بـ«سمو الجنس الأبيض الذي يحمل في ضميره كاهل الإنسانية والحضارة والدين»!
ومع انقضاء فترة ولاية جاكسون الأولى وحلول الانتخابات الرئاسية، بدأ يعد لحملته الانتخابية الجديدة. وردًا على منتقديه، بدأ رجال حملته يرون ضرورة إنشاء مؤسسة تساعدهم على تنظيم الصفوف لهذا الحدث، وهو ما أسفر عن إنشاء كيان سُمي باسم «الديمقراطيين» لمساندة جاكسون في حملته الانتخابية عن جمع تأييد الطبقتين الوسطى والدنيا، وهو ما تحوّل إلى «الحزب الديمقراطي» بعد ذلك. ولقد رد معارضو جاكسون بإنشاء كيان مضاد تحول فيما بعد إلى «الحزب الجمهوري»، وهكذا رسمت انتخابات الفترة الثانية لجاكسون مسيرة السياسة الداخلية الأميركية من خلال الكيانين السياسيين الحزبيين اللذين لا يزالان حتى اليوم يسيطران على مقاليد السياسة الأميركية.
وجه جاكسون خلال فترة حكمه الثانية للدفع بمساندة الطبقتين الوسطى والدنيا التي أتى منها، وكان يرى أن النظام الرأسمالي بشكله القائم لا يفيد إلا الطبقات الغنية خصوصًا في الولايات الشمالية، وهو ما يحتاج إلى مراجعة. وعليه، كان هدفه التالي القضاء على إحدى أهم الوسائل المتاحة أمام الأرستقراطية الرأسمالية في البلاد وهو «بنك الولايات المتحدة الثاني» الذي كان يركز جهوده نحو تمويل الشركات العملاقة، إذ لم تكن المجتمعات في ذلك الوقت تعرف مفهوم تمويل الصناعات المتوسطة والصغيرة كما هو معروف اليوم، ناهيك بافتقار البلاد للمصارف والمؤسسات التمويلية آنذاك. وحقيقة الأمر أن هذا البنك كان في حينه بمثابة البنك المركزي الأميركي، وكانت الدولة تضع فيه كل أرصدتها. وبينما رأى معارضو جاكسون أن استهداف البنك سيمثل ضربة للاقتصاد الأميركي، كان الرئيس مصممًا على القضاء عليه، وهو ما أدخله في صراع مع الكونغرس لا سيما بعدما استخدم «الفيتو» بهدف تقزيم البنك في نهاية ولايته. وحقًا، استطاع جاكسون الصمود أمام الضغوط ضده، خصوصًا أنه لم تكن له طموحات شخصية بعدما فقد زوجته، وبالتالي، كرّس جهوده في الحياة للدفاع عن معتقداته السياسية والاجتماعية التي يتناقض معها البنك تمامًا. واستمرت المعركة بكل قوة ضد الكونغرس بقيادة غريمه اللدود السناتور هنري كلاي، ومع ذلك فرض جاكسون على الإدارة سحب الأرصدة الحكومية من البنك والعمل على كسب الوقت لحين انتهاء ولاية البنك، ومن ثم موته ميتة طبيعية بعد رفضه التجديد لبقائه. هذا التصرف دفع مجلس الشيوخ للتقدم بما هو معروف باسم «motion of centure» أو ما يمكن وصفه بـ«التقريع» دون أي عواقب قانونية، وهو ما لم يحدث من قبل أو من بعد في تاريخ الولايات المتحدة ضد رئيس الجمهورية، ولكنه حدث مع جاكسون. وأصدر الكونغرس بالفعل «تقريعه» ضده، ومع ذلك لم يأبه الرجل وصمد بكل قوة ورفض التنازل عن موقفه إزاء البنك، الذي أغلق أبوابه في عام 1836 ليعلن انتصار الرئيس «الشعبوي» على الكونغرس، وكان هذا الانتصار آخر معارك جاكسون الشهيرة، الذي انتهت ولايته في عام 1838 وعاد إلى ولاية تينيسسي، حيث توفي عام 1845 ودفن بجوار زوجته.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».