«من التاريخ» أميركا: التوسع غربًا.. وتبلور سياسة الحزبين

«من التاريخ» أميركا: التوسع غربًا.. وتبلور سياسة الحزبين
TT

«من التاريخ» أميركا: التوسع غربًا.. وتبلور سياسة الحزبين

«من التاريخ» أميركا: التوسع غربًا.. وتبلور سياسة الحزبين

يمثل الرئيس أندرو جاكسون أحد أهم الشخصيات السياسية الأميركية منذ استقلالها حتى اليوم. وكما أشرنا في الأسبوع الماضي، فهو ابن الأسرة الآيرلندية الفقيرة التي هاجرت لأميركا وتيتم في الخامسة عشرة، إلا أنه استطاع أن يعلّم نفسه إلى أن أصبح محاميًا ونائبًا قضائيًا في سن العشرين. ومن ثم استقر في ولاية تينيسي، تزوج من امرأة متزوجة بالفعل بعدما هرب معها من دون أن يعلم أن إجراءات طلاقها لم تكن قد حُسمت بعد، وهو ما سبب له مشكلات في مستقبله بعدما لفظها المجتمع الأميركي المحافظ، خصوصًا في الطبقة الأرستقراطية. ولكن على الرغم من ذلك دخل جاكسون عالم الساسة عبر مجلسي الكونغرس قبل أن يستقيل لضيقه من الحياة السياسة فيه، وعيّن بعد ذلك قائدًا لميليشيا ولاية تينيسي، وبنى شهرته على محاربة الأميركيين الأصليين (الهنود الحمر) وطردهم من أراضيهم. ثم جاء انتصاره العظيم في معركة نيو أورليانز عام 1814 في مواجهة الجيش البريطاني. وبعدها احتل فلوريدا مع أن أرسل لمراقبة الحدود في الولاية التي تتبع إسبانيا الإسبانية لحماية المستعمرين من غارات الهنود الحمر. لم يستطع عزل «البطل القومي» إلى أن انتهت ولايته، فازداد طموحه وترشح لانتخابات الرئاسة ممثلاً عن الطبقة الكادحة والمتوسطة. ومع خسر في المرة الأولى - مع حصوله على العدد الأكبر من الأصوات الشعبية - استطاع الفوز في الانتخابات التالية.. فدخل البيت الأبيض.
لقد جاءت ولايتا جاكسون كرئيس للولايات المتحدة (1829 - 1833 و1833 - 1837) لتدخل واشنطن في صراع طبقي متوقع لما مثله الرجل من خلفية اجتماعية وتعليمية متواضعة لم يشهدها البيت الأبيض من قبل. فهو رجل يعتبره معظم أعضاء الكونغرس من فئة دنيا بينما كان هو يمقت هذه الطبقة بكل ما أوتي من قوة. وهذا الوضع ما عصف بواشنطن في مشكلة تلو الأخرى، خصوصًا إبان صراعه مع الكونغرس الذي كان يخشى قوة جاكسون وخوفه من تحويل البلاد إلى ديكتاتورية لصلابته وعناده واندفاعاته وعنفه الفطري. وكانت أولى الخلافات قصة الحب التي جمعت وزير دفاعه بامرأة متزوجة من ضابط في الجيش الأميركي، ويومذاك ساند جاكسون وزيره بكل قوة وصمد ضد المؤامرات التي كانت تحاك ضده. ولكن المشكلة التالية كادت تعصف بالوحدة الأميركية ذاتها، ويمكن اعتبارها الجذور الحقيقية للحرب الأهلية الأميركية بعدها بثلاثة عقود. ذلك أن الكونغرس مرّر بدعم من نائب جاكسون قانونًا يسمح للولايات برفض القوانين الفيدرالية التي لا تتناسب وظروفها السياسية والاقتصادية. وعُرِف هذا القانون باسم «قانون الإلغاء» Nullification Act. هذا القانون شجّع ولاية ساوث كارولينا على رفض تطبيق الضرائب على العبيد، وأخذت هذه الولاية (وهي نفسها التي تفجّرت منها شرارة الحرب الأهلية في أواخر عام 1860) تعد العدة عسكريًا لمواجهة أي تحرّك حربي ضدها من الدولة الفيدرالية. وعلى الأثر تدخل الرئيس بتوجيه نداء إلى الولاية لحماية الوحدة الأميركية مع بعض التهديدات المستترة، وبالنتيجة سوّي الأمر بخفض الضريبة بصفة عامة لرأب الصدع، ولكن ليس قبل أن بذر البذور الأولى للحرب الأهلية خصوصًا بعد انتشار الحركات التحرّرية للعبيد في ولايات الشمال، لا سيما في ولاية ماساتشوستس، من أجل إلغاء الرّق (العبودية) تمامًا لأنها تتنافى مع المبادئ العامة للدستور الأميركي. وحقيقة الأمر أن جاكسون لم يكن متعاطفًا مع هذا التوجه لأنه كان يدرك أهمية العبيد بالنسبة لاقتصادات الولايات الجنوبية التي ينتمي إليها، وكانت تعتمد على زراعتي القطن والتبغ، وهاتان زراعتان تحتاج لأيدٍ عاملة كثيفة ورخيصة. وهو ما وضعه في موقف حرج للغاية، لكن جاكسون استطاع أن يوائم بين قناعاته وقسمه كرئيس للبلاد للمحافظة على وحدة التراب الأميركي.
من ناحية ثانية، لعل أهم تركة لجاكسون في السياسية الأميركية ما هو معروف بقانون «إزاحة الهنود» الذي صدر عام 1830، إذ يدرك تمامًا أن مستقبل الولايات المتحدة يكمن في توسّعها غربًا والاستفادة من الأراضي الخصبة التي تسمح ببناء الدولة القوية التي كان يسعى لها وبما يفتح المجال أمام استيعاب أعداد كبيرة من المستوطنين الجدد. وما كان لهذا الاستيطان القائم على التوسّع أن يتحقق إلا على حساب السكان الأصليين، دفعه لطرد كل الهنود من مناطق شرق نهر الميسيسيبي إلى غربه. وعلى الرغم من أن قبائل الهنود الحمر انصاعت لدعواته إلى تغيير عاداتها وتقاليدها كي يسهل صهرها في المجتمع الأميركي المسيحي الأبيض، فإن هذا لم يشفع لها، إذ كان لا بد من خلق حدود فاصلة بين طريقتين من الحياة مختلفتين تمامًا. وهكذا جرى ترحيل الهنود الحمر قسرًا عبر النهر في مشاهد مأسوية مات خلاله كثيرون. وكانت هذه الصفحة تركة سيئة للغاية لجاكسون، ولكن التقدير أنه لم يكن يأبه بذلك لأن رؤيته الصارمة ما كانت تقبل الحلول الوسط أمام اقتناعه بـ«سمو الجنس الأبيض الذي يحمل في ضميره كاهل الإنسانية والحضارة والدين»!
ومع انقضاء فترة ولاية جاكسون الأولى وحلول الانتخابات الرئاسية، بدأ يعد لحملته الانتخابية الجديدة. وردًا على منتقديه، بدأ رجال حملته يرون ضرورة إنشاء مؤسسة تساعدهم على تنظيم الصفوف لهذا الحدث، وهو ما أسفر عن إنشاء كيان سُمي باسم «الديمقراطيين» لمساندة جاكسون في حملته الانتخابية عن جمع تأييد الطبقتين الوسطى والدنيا، وهو ما تحوّل إلى «الحزب الديمقراطي» بعد ذلك. ولقد رد معارضو جاكسون بإنشاء كيان مضاد تحول فيما بعد إلى «الحزب الجمهوري»، وهكذا رسمت انتخابات الفترة الثانية لجاكسون مسيرة السياسة الداخلية الأميركية من خلال الكيانين السياسيين الحزبيين اللذين لا يزالان حتى اليوم يسيطران على مقاليد السياسة الأميركية.
وجه جاكسون خلال فترة حكمه الثانية للدفع بمساندة الطبقتين الوسطى والدنيا التي أتى منها، وكان يرى أن النظام الرأسمالي بشكله القائم لا يفيد إلا الطبقات الغنية خصوصًا في الولايات الشمالية، وهو ما يحتاج إلى مراجعة. وعليه، كان هدفه التالي القضاء على إحدى أهم الوسائل المتاحة أمام الأرستقراطية الرأسمالية في البلاد وهو «بنك الولايات المتحدة الثاني» الذي كان يركز جهوده نحو تمويل الشركات العملاقة، إذ لم تكن المجتمعات في ذلك الوقت تعرف مفهوم تمويل الصناعات المتوسطة والصغيرة كما هو معروف اليوم، ناهيك بافتقار البلاد للمصارف والمؤسسات التمويلية آنذاك. وحقيقة الأمر أن هذا البنك كان في حينه بمثابة البنك المركزي الأميركي، وكانت الدولة تضع فيه كل أرصدتها. وبينما رأى معارضو جاكسون أن استهداف البنك سيمثل ضربة للاقتصاد الأميركي، كان الرئيس مصممًا على القضاء عليه، وهو ما أدخله في صراع مع الكونغرس لا سيما بعدما استخدم «الفيتو» بهدف تقزيم البنك في نهاية ولايته. وحقًا، استطاع جاكسون الصمود أمام الضغوط ضده، خصوصًا أنه لم تكن له طموحات شخصية بعدما فقد زوجته، وبالتالي، كرّس جهوده في الحياة للدفاع عن معتقداته السياسية والاجتماعية التي يتناقض معها البنك تمامًا. واستمرت المعركة بكل قوة ضد الكونغرس بقيادة غريمه اللدود السناتور هنري كلاي، ومع ذلك فرض جاكسون على الإدارة سحب الأرصدة الحكومية من البنك والعمل على كسب الوقت لحين انتهاء ولاية البنك، ومن ثم موته ميتة طبيعية بعد رفضه التجديد لبقائه. هذا التصرف دفع مجلس الشيوخ للتقدم بما هو معروف باسم «motion of centure» أو ما يمكن وصفه بـ«التقريع» دون أي عواقب قانونية، وهو ما لم يحدث من قبل أو من بعد في تاريخ الولايات المتحدة ضد رئيس الجمهورية، ولكنه حدث مع جاكسون. وأصدر الكونغرس بالفعل «تقريعه» ضده، ومع ذلك لم يأبه الرجل وصمد بكل قوة ورفض التنازل عن موقفه إزاء البنك، الذي أغلق أبوابه في عام 1836 ليعلن انتصار الرئيس «الشعبوي» على الكونغرس، وكان هذا الانتصار آخر معارك جاكسون الشهيرة، الذي انتهت ولايته في عام 1838 وعاد إلى ولاية تينيسسي، حيث توفي عام 1845 ودفن بجوار زوجته.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.