حمد الجاسر.. تاريخ حافل بالسير والتراجم

الباحثون وتلامذة العلامة ومريدوه ما زالوا يكتشفون مزيدًا من إنتاجه

العلامة حمد الجاسر
العلامة حمد الجاسر
TT

حمد الجاسر.. تاريخ حافل بالسير والتراجم

العلامة حمد الجاسر
العلامة حمد الجاسر

عجيب هو تراث العلّامة حمد الجاسر، فعلى الرغم من مرور خمسة عشر عامًا على وفاته، ومن التصاق الباحثين بتراثه، فإنهم وتلامذته ومريدوه، ما زالوا يكتشفون بين فترة وأخرى مزيدًا من كتاباته ومقالاته وبحوثه، وذلك على الرغم من جهود مركز حمد الجاسر الثقافي ومكتبة الملك فهد الوطنية، في رصد ما كتبه ونشره منذ أن بدأ - وعمره ثلاثة وعشرون عامًا - يمارس الكتابة في الصحف المحلية والعربية والمطبوعات الثقافية المتخصّصة عبر نحو سبعين عامًا من عمره الذي تجاوز التسعين، فأصدرت المكتبة والمركز كشّافين يضمّان فهارس ما أمكن تتبّعه من مقالاته وبحوثه المنشورة.
تضمّنت الدراسة الببليوغرافية التي أصدرتها مكتبة الملك فهد الوطنية في طبعتها الأولى عام 1995 كشافًا بعناوين 1117 من المقالات والبحوث التي نشرها حتى ذلك التاريخ في المجلات فقط، في حين بلغ إجمالي ما تضمّنته الدراسة نفسها في طبعتها الثانية الصادرة عام 2005 كشافًا بعناوين 640 مقالة وبحثًا بعد أن دمجت المقالات والبحوث المتعددة الحلقات تحت عنوان موحّد، ورصد مركز حمد الجاسر الثقافي في كشافه الصادر عام 2007 ما مجموعه ثلاثة آلاف عنوان لمقالاته وبحوثه، ومع هذا، ظل المركز والمكتبة والباحثون يكتشفون بين الحين والآخر أعدادًا جديدة من المقالات، لم تتضمنها الفهارس المذكورة.
المعروف أن حمد الجاسر ولد عام 1910 في بلدة البرود، الواقعة في ناحية السر من إقليم الوشم في عالية نجد غربي الرياض، وتوفي عام 2000 مستشفيًا في أميركا ودفن بالرياض، أما أقدم كتاباته، فقد بدأ بنشرها عام 1932 في جريدتي «أم القرى» و«صوت الحجاز» - البلاد حاليًّا «وفي مجلة «المنهل»، ثم صار ينشر معظم إنتاجه في صحيفة «اليمامة»، التي أصدرها عام 1953 وهي أول مطبوعة صحافية ظهرت في العاصمة (الرياض) ثم استمر ينشر مقالاته في مجلة «اليمامة» وجريدة «الرياض» الصادرتين عن مؤسسة اليمامة الصحافية، وكان هو أول من تولّى الإشراف على تحريرهما، ثم أصبح يخص مجلة «العرب»، الصادرة عام 1966 عن دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر التي أسسها في ذلك العام أيضًا، بمعظم مقالاته البحثية المعمّقة.
ومن بين الصحف والمجلات التي كانت تنشر مقالاته بالإضافة إلى تلك المذكورة؛ مجلة «المنهل» و«الفيصل» و«المجلة العربية» و«الحرس الوطني» و«القافلة» و«الدارة»، و«مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق»، و«مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة»، و«الرسالة المصرية»، و«البيان الكويتية»، و«الجزيرة»، و«المسائية»، و«عكاظ»، و«الشرق الأوسط»، و«القصيم»، و«الوطن»، و«الندوة»، و«الحياة»، و«الاقتصادية»، و«المدينة»، وأخبار الظهران»، وصحف أخرى.
قاربت مؤلّفاته 30 عنوانًا منها 6 اشتملت على أكثر من جزء، وفاقت الكتب التي حقّقها 17 عنوانًا منها 4 تتكوّن من أكثر من جزء، وبلغت المؤلّفات التي أشرف على طباعتها وعلَّق على حواشيها 8 كتب، وذلك بالإضافة إلى الإصدارات التي حملت اسمه وظهرت بعد وفاته.
وباستثناء كتاب بعنوان «من أصداء الذكريات؛ علماء عرفتهم ففقدتهم» الذي نسبه الدكتور عبد الله الجبوري (من العراق) إلى حمد الجاسر بعد وفاته بثماني سنوات وصدر عام 2008 وجمع فيه عددًا من مراثي الجاسر ومن ضمنها التراجم، فإنه لم يسبق لموضوع هذه المحاضرة أن تناوله باحث آخر، وذلك على الرغم من أن المراثي والسير والتراجم قد حظيت بقدر كبير من اهتماماته، إذ نشر في أثناء حياته 6 كتب تقوم محتوياتها على سير شخصيات بأعينهم، وقد تضمّن كتاب د. الجبوري مقدمة موجزة تتحدث عن منهج الجاسر في كتابة المراثي والسير، واستخدم فيه - على طريقة الجاسر - صور بعض المراسلات المتبادلة بين الجاسر أو الجبوري من جهة، وبين الشخصيات المترجمة من جهة أخرى، ومن ضمن الأعلام الأربعين الذين أوردهم د. الجبوري في كتابه ممن رثاهم وترجم لهم الجاسر؛ أبو الأعلى المودودي، وخير الدين الزركلي، والشيخ عبد الرحمن السعدي، وطه حسين، ومصطفى الشهابي (رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق) وعبد القدوس الأنصاري، وعبد الله الخيّال، ومحب الدين الخطيب، ومحمد حسن عوّاد، ومحمد سرور الصبان، ومحمد بن عبد العزيز المانع، ومحمد حسين نصيف، والنجل الأكبر لحمد الجاسر (محمد) الذي توفي في حادث طائرة بلبنان عام 1975.
من مؤلفاته التي خصّصها بالكامل للسير، كتابه (أبو علي الهَجري وأبحاثه في تحديد المواضع، 1968 في 450 صفحة) وهو - كما يقول الجاسر - هارون بن زَكَرِيَّا الهجري الأديب الشاعر والنحوي، صاحب كتاب (التعليقات والنوادر) من أهل هجَر البحرين (الأحساء) عاش في آخر القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع، عُرف في القديم بطريق علماء المغرب الأقصى كابن حزم، وعن طريق علماء الشرق في الهند كالميمني.
ومثل كتابه «ابن عربي موطّد الحكم الأموي في نجد» صدر عام 1993 وتناول فيه سيرة إبراهيم بن عربي أطول ولاة بني أمية زمنًا في ولايته (32 عامًا) ويقع الكتاب في 300 صفحة.
ومن أطول السير التي كتبها، وإن لم يفرد لها كتابًا مستقلاً، ترجمة إبراهيم بن إسحاق الحربي من علماء القرن الثالث الهجري في مقدمة كتاب «المناسك»، الذي حقّقه الجاسر عام 1969 وقدّم له بمقدمة ضافية (260 صفحة) عن الحربي، ظنًّا منه أنه المؤلف، حتى عدّها البعض كتابًا قائمًا بذاته، وعندما أعاد الجاسر نشر الكتاب عام 1999 حذف المقدمة المذكورة اقتناعًا بنقاش علمي جرى في حينه مع د.عبد الله الوهيبي.
وقد أصدر الجاسر في أثناء حياته كتبًا تقوم محتوياتها على مجموعة متجانسة من السير والتراجم، منها كتابه (مع الشعراء 1980) الذي ترجم فيه لكل من عبد الله بن همّام السلولي، والصمّة بن عبد الله القشيري، وجحدر العُكِلي، ويزيد بن الطثريّة، والقحيف العقيلي، وعروة بن أذينة، ومحمد بن صالح الحسني، ومحمد بن عبد الملك الأسدي، وابن المقرّب الأحسائي، كما تحدث فيه عن سير بعض مؤلفي كتب الشعر، مثل محمد بن سلّام الجُمحي مؤلف كتاب «طبقات فحول الشعراء» - قراءة محمود شاكر وشرحه وكتاب «شعر الدعوة الإسلامية» لعبد الرحمن رأفت الباشا، ودواوين كل من الشعراء حاتم الطائي، وزهير بن أبي سلمى المُزني، والحادرة الغطفاني، وزيد الخيل الطائي، والمتوكّل الليثي، وأبو دهبل الجُمحي، وعبد الله بن الزبير الأسدي، وجميل بن معْمر العُذري، والطِّرماح بن حكيم الطائي.
ومنها أيضًا كتابه «رحّالة غربيّون في بلادنا» 1997 الذي تقصّى فيه سير بعض الرحالة الغربيين الذين مَرُّوا بشمال الجزيرة العربية وقلبها، مثل: بوركهارت، وسادلر، وتاميزييه، وسنوك هورخرونيه، وشارل هوبير، ولويس بيلي، وألويس موزل، وعبد الله فيلبي، وغيرهم.
ومنها أيضًا كتبه عن الأنساب، وكتابه «باهلة، القبيلة المفترى عليها» هذا بالإضافة إلى الكتب التي أشرف على طبعها ومنها كتاب «معجم المطبوعات العربية في السعودية» للدكتور علي جواد الطاهر، الذي يرتكز في مادة مجلداته الأربعة على سيَر كل المؤلّفين وتراجمهم.
وبعد وفاته عام 2000 عكف مركز حمد الجاسر الثقافي على جمع المقالات المتجانسة موضوعاتُها ومن ثمّ إصدارها في كتب تحمل عناوين يجمعها، ومن تلك الجهود تصنيف المقالات التي كان ينشرها في «المجلة العربية»، بدءًا من عام 1986 ولمدة أحد عشر عامًا تحت عنوان «من سوانح الذكريات»، حيث أصدرها المركز عام 2006 في مجلدين، ثم أصدرها في العام الماضي في طبعة ثانية، وسجلت المقالات ذكرياته منذ طفولته وحتى هجرته إلى لبنان (1961) وتضمّن الكتاب حلقات موسّعة وهوامش مليئة بسير بعض الشخصيات؛ منهم أحمد محمد العربي والوزير عبد الله بن سليمان.
ومن كتب السير التي أصدرها مركز حمد الجاسر الثقافي بعد وفاته، كتاب «مؤرخو نجد من أهلها» 2015، الذي تضمّن حلقات نشرها على فترات في «اليمامة والرياض والعرب» ومحاضرات ألقاها في جامعة الملك سعود ثم نشرتها مجلة الجامعة، وقد سرد فيها بإيجاز سير المؤرّخين النجديين القدامى والمعاصرين، كعثمان بن بشر، وأحمد بن بسام، وأحمد المنقور، وابن يوسف، وابن عضيب، وابن غنام، ومحمد البسام، وابن سلوم، وابن خنين، وابن لعبون، وابن سند، وابن جريس، وابن حميّد، وضاري بن فهيد الرشيد، وإبراهيم بن عيسى، وابن مطلق، وعبد الله بن محمد البسام، وإبراهيم بن محمد القاضي، وإبراهيم بن ضويّان، وسليمان بن صالح الدّخيل، ومقبل الذكير، ومحمد العلي العبيّد، وصالح بن عثمان القاضي، وعبد الرحمن بن مانع، وعبد العزيز بن محمد القاضي، ود. عبد الله العثيمين، ومحمد بن عبد العزيز بن مانع، ومحمد بن عثمان القاضي، ومحمد بن عبد الله بن حُميْد صاحب كتاب (السحب الوابلة».
ويجري العمل في المركز على إعداد كتاب متعدّد الأجزاء يضمّ كل السير والتراجم المنشورة صحافيا ولم تتضمّنها كتبه، ومراجعتها والتعليق عليها، وتحتوي على سير أعلام قدماء وأعلام معاصرين، وتراجم مؤلفين قام الجاسر بعرض كتبهم ونقدها، وتشمل تلك التراجم شخصيّات معاصرة عزيزة على نفسه، ولها منزلة رفيعة في خاطره، ولما توفّوا عبّر عن مشاعره نحوهم بمقالات رثاء، ممزوجة بمعلومات عن سيرهم، وسيشمل الجزء الأول من الكتاب نحو 40 من الأعلام العرب والمسلمين القدامى الذين دوّن العلّامة الجاسر سيرهم، أمثال الخزرجي (المؤرخ) والزبير بن بكّار (أحد أعلام العلم والأدب في جزيرة العرب) وتقي الدين الفاسي (مؤرخ مكة المكرمة في القرن السابع الهجري) والهمْداني (المؤرخ) وإسحاق بن إبراهيم بن أبي حُميضة (من ولاة اليمامة في العهد العباسي) وبنت الخُسّ الإيادية (إحدى حكيمات العرب) وحسن بن عبد الله بن وفاء (أديب من الطائف كان مجهولا) وأبان بن عثمان بن عفان (أول مدوّن للسيرة النبوية) والحسين بن أحمد الأعرابي (المعروف بالأسود الغُندجاني) وعبد العزيز بن زُرارة (المعروف بفتى العرب) والعلاء بن الحضرمي (أول أمير للمنطقة الشرقية - البحرين) وعبد القادر الجزيري الحنبلي (مؤرخ مصري مغمور) والشاعر العرْجي (من عرْج الطائف، قائل: أضاعوني وأي فتى أضاعوا) وعبد الله بن المبارك بن بشيّر (أديب أحسائي مغمور)، والشاعر الأحوص وسلمى البيشية، والصحابي أبو هُريرة، والإمام الشوكاني.
بينما سيشمل الجزء الثاني سيَر نحو 60 من الأعلام المحليّين والعرب والمسلمين المعاصرين، من بينهم الشاعر خالد الفرج (رائد شعر الملاحم بالملك عبد العزيز) وعبد العزيز الميمني (من علماء القارة الهندية) وعبد المحسن المنقور، ومحمد حسين زيدان، وأحمد السباعي، وحسين سرحان، ومحمد أحمد العقيلي (مؤرخ المخلاف السليماني) والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، وإبراهيم فودة، وعبد الله عريف، وعبد العزيز الرفاعي، ومحمد عمر توفيق، وأحمد بن راشد المبارك، ومحمد سعيد كمال، وحسن بن عبد الله آل الشيخ، وعبد الله بن زيد آل محمود، وأحمد بن محمد العربي، وهاشم يوسف الزواوي، وعلي حسن فدعق، ومحسن باروم، والشيخ عبد الله عبد العزيز العنقري.
ومن الكتابات المعمّقة في مجال السير التي خصّصها العلّامة الجاسر لشخصيات بعينها، مقالاته في تاريخ السعودية وسيرة المؤسس الملك عبد العزيز، بمناسبة الذكرى المئوية الميمونة لاستقرار موحّد البلاد في قاعدة حكمه سنة 1902 ويعكف مركز حمد الجاسر الثقافي، على جمع ما خطّه قلمه من مقالات صحافية منشورة على مدار الأعوام في سيرة الملك المؤسس وتاريخ الدولة، لإصداره في كتاب واحد، بإذن الله.
وبينما الحديث اليوم في جامعة الباحة وعن حمد الجاسر فلا يكتمل دون الإشارة إلى كتابه الصادر عام 1970 «في سراة غامد وزهران» وهي منطقة الباحة حاليًّا (600 صفحة) ألّفه في إثر زيارة قام بها في العام السابق لتأليفه، وضمّنه تبيانًا مفصلاً للجانب الجغرافي والتاريخي من المنطقة، مع إشارات واسعة لكثير من السير والتراجم لأعلام قبيلتي غامد وزهران ورموزها.
وهكذا، سار العلامة حمد الجاسر في كتابة السير والتراجم، فلم ينحُ منحى أغلب المترجمين وكتّاب السير، الذين تغلب الطريقة التقليدية السردية على أسلوبهم، بل كان يغوص بقدر معرفته بالشخص الذي يكتب عنه، موجِزًا أحيانا في أسطر، أو مسترسلاً في صفحات، أو في كتاب، في تحليل مفاتيح الشخصية، وبيئة تنشئته وظروف حياته وتعليمه، ثم يعرّج على منهجه التأليفي وإنتاجه، مع الحرص الشديد على التوثيق والعناية الكاملة بالهوامش، حتى صار كثير من مقالاته المعمّقة في السير والتراجم - كما رأينا - بحوثًا متكاملة وافية، بمنزلة كتب قابلة للإصدار بمفردها.
وخلاصة القول، كان الجاسر مولعًا بالسير والتراجم، حيثما كتب، وفي أي موضوع طرق، فهو يدبّج مقالاته ويُذيّل صفحات كتبه بالهوامش التي توضّح سِير من يأتي على ذكرهم، ومن قرأ في سوانح ذكرياته، وجد متعة في السياحة مع أفكاره وتسلسلها، وانجذب مع الغوص في متونها وهوامشها، حتى عُدّت السوانح واحدةً من أنفس الذكريات والسير الذاتية في الأدب السعودي، ومن أفضل ما كُتب في وصف البيئة المحلية في فترة تأسيس السعودية، عن الحياة في عموم مناطق البلاد، وعن بيئة البادية والحاضرة، وأحوال القرية وزراعتها ومعيشتها وملابسها وتعليمها واقتصادها، ونشأة الهُجر والإخوان فيها، وذلك لجمال الأسلوب، وسلامة العبارة، وبلاغة الكلمات من دون تكلّف، وتدفّق الأفكار، ودقة التوثيق، وشفافية التشخيص، وصراحة القول والشهادة والأحكام.
ومع أن العلّامة حمد الجاسر كان ينشر مقالاته وأبحاثه في مطبوعات صحافية داخليّة وخارجية كما ذكر، إلا أن الأغلبيّة منها كانت تنشر في مجلتي «اليمامة» و«العرب» الأثيرتين على نفسه، وكان يحافظ عند تحرير مقالاته وبحوثه على اتّباع رسم معيّن لبعض الكلمات، ويشرف على النشر بنفسه، وقام مركز حمد الجاسر الثقافي مؤخرًا بمسح أعداد مجلة «العرب»، التي بلغت الخمسين من العمر هذا العام، وبتكشيف مقالاتها وتخزينها رقميًّا على أقراص مدمجة، وبإتاحتها للباحثين، جنبًا إلى جنب مع شقيقتها الرائدة «اليمامة»، التي كانت تصدر في الخمسينات، حيث أعاد المركز طباعة أعدادها السابقة ورقيًّا، بعد أن تمّت معالجتها فنّيًا.

* موجز محاضرة في معرض الكتاب بجامعة الباحة 12 أبريل (نيسان) 2016



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.