الدويحي: كل كتابة جديدة لا تأتي إلا بعد ممارسة الصمت

يرى أن الربيع العربي شكل إحباطا تراكميا للأجيال

الروائي السعودي أحمد الدويحي
الروائي السعودي أحمد الدويحي
TT

الدويحي: كل كتابة جديدة لا تأتي إلا بعد ممارسة الصمت

الروائي السعودي أحمد الدويحي
الروائي السعودي أحمد الدويحي

أصدر الروائي السعودي أحمد الدويحي حتى الآن سبع روايات، بالإضافة لمجموعة كبيرة من القصص القصيرة. وهو، كما يقول، يعشق التجريب والمغامرة، و«لا يحب أن يمشي في الطريق نفسه مرتين»، مستشهدا بكلام الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه: «لا تكتب إلا عندما تشعر أنك ستموت إذا لم تكتبها!».
في الحوار التالي الذي أجري في العاصمة السعودية، الرياض، حيث يقيم، يتحدث الدويحي عن تجربته الكتابية، متناولا قضايا التوظيف الآيديولوجي والسياسي في الأعمال الروائية، ومنها التجارب الشبابية:

* تبدو شديد الالتصاق بالقرية وعوالمها. إنها تبرز في روايتك الأخيرة «غيوم امرأة استثنائية»، وكذلك في رواياتك السبع السابقة. ماذا تمثل لك القرية؟
- ليست كل عوالم وشخوص الروايات السابقة مستمدة من فضاء القرية، نعم.. الرواية الأولى «ريحانة» والمجاميع القصصية الأولى، «البديل - وقالت فجرها»، قد تكون قريبة جدا من فضاء القرية. غادرت عالم القرية الحميم، ولكنها ظلت لزمن غير قصير، تسكنني بشخوصها، لغتها، بيئتها، جمالها، ووجعها أيضا. حملتها معي وكتبتها، وكذلك الحال بالنسبة للرواية الأخيرة «غيوم امرأة استثنائية».
* لماذا هذا التعلق الشديد بالقرية؟
- لأني كلما عصرتني غربة المدينة، وشعرت بفقدان التواصل الحميمي، تشدني القرية فلا بد أن أستحضرها. كانت روايتي الأولى «ريحانة» ذات التكثيف اللغوي والتقطيع البنائي، التي تشبه الكتابة الشعرية أو القصة القصيرة، وربما المرحلة الزمنية ذاتها، تفرض علي، في تلك المرحلة، الكتابة من تلك المنطقة الفنية والفكرية، والتجربة ذاتها شكلت كتابة رواية، متسقة مع فضاء القرية. لكنّ عوالم الروايات الأخرى متنوعة ومختلفة. كانت كل كتابة، تأتي في سياقات أخرى مختلفة تنسجم مع عوالمها وفضائها وشخوصها وخطابها أيضا، تتكئ على تراكم معرفي، وخبرات تتماس مع عوالم موازية واقعية مع البحث عن التجديد.
* يبدو أنك كثير التجريب في أعمالك الروائية؟
- بالنسبة لي ككاتب، أعشق التجريب والمغامرة في كل مراحل حياتي الكتابية، وأسعى أن تكون كل كتابة تجربة ومغامرة مجترحة وجديدة من عالم جديد أسبر أغواره، فكل كتابة جديدة لا تأتي إلا بعد ممارسة صمت، وقراءة وتفكير طويل، تكسر نية في داخلي بأن العمل الذي كان قبله كان الأخير، ولكن أجد ذاتي مدفوعة لكتابة جديدة. الكتابة السردية كتابة كاشفة في كل مرحلة تراكمية.

* الإبداع بين جيلين
* تكتب في موقعك الإلكتروني عن رواد الإبداع وكبار المثقفين، كما ترصد أعمالا لشباب.. كيف تقارن بين التجربتين؟
- يتابع موقعي رصد الإبداع، حيث إن جيل ما قبل التقنية الحديثة، تجاوزتهم هذه المنحة العظيمة التي ينتسب إليها هذا الجيل. كتاباتي عن شخصيات مثل: عبد الكريم الجهيمان، وإبراهيم الحميدان، وعبد الرحمن منيف، وعبد الله نور، وفائز أبا، ومحمد الثبيتي، وفهد الخليوي تأتي من باب الوفاء لرواد تعلمنا الكثير من إنتاجهم.
لكني أيضا أتابع أعمال الشباب أمثال: رواية «اتجاهات البوصلة» لنوره الغامدي، و«سقف الكفاية» لمحمد علوان، و«ساق الغراب» ليحيى سبعى، و«بنات الرياض» لرجاء عالم، وروايات أخرى لأصدقاء كخالد المرضي، وطاهر الزهراني، وعبد الواحد الأنصاري، ومحمد خضر، وكل هذا بهدف المتابعة، وحرق المراحل لربط الأجيال ببعضها، ليقيني التام أن الفن السردي، فن حميمي وتراكمي للأجيال.
والواقع أن الأجيال الحديثة أوفر حظا منا، فقد تهيأت لهم الأجهزة الحديثة التي يسرت لهم الكتابة والقراءة والتواصل مع الآخر، وسهلت إمكانية قراءة نتاجهم بحرية، وهي خدمة عظيمة عانينا من فقدها، فقد قرأت بواسطة التقنية الحديثة، كتبا كثيرة طالما تمنيتها، وكنت محروما من قراءتها.
* لكنك تحدثت ذات مرة أن «من يريد كتابة الرواية فليبدأ بعد سن الأربعين»..
- كل الفنون الأدبية، تدخل في النسيج الروائي وأيضا الفلكلور، ويحضر التاريخي والسياسي والأسطوري والذاتي، والكلام اليومي الشفاهي، كل هذا المنجز يحتاج إلى تراكم زمني، وكما يقال فإن الرواية، هي فن حضاري وبنت للمدينة، أي تحتاج إلى تراكم زمني وحياتي وحركة، وأعرف أسماء روائية عربية وعالمية، لم تكتب الرواية إلا بعد هذا العمر، حينها تكون قد توفرت لكاتبها كل مقومات المعرفة، ولا أستبعد بطبيعة الحال روح المغامرة، وحضور كتابات روائية في سن مبكرة كيوميات، لكن عادة نحن كقراء، نجوس في الشخصية عبر مراحل تاريخها، لنستبطن عوالمها وأزمنتها.
* ألا تلاحظ أن جيل اليوم أكثر إنتاجا، فنحن أمام تدفق كتابي وروائي شبابي؟
- ما تسميه بالتدفق الكتابي الروائي الشبابي، يأتي في سياق تداول الحضور الفني، أي بمعنى أن كل جنس أدبي سيفرض حضوره في كل مرحلة، فإذا كان الشعر سيد الفنون، موجودا وحاضرا متفردا في الثمانينات والتسعينات، والشعر على كل حال سيكون حاضرا على الدوام، فإن القصة القصيرة أيضا فرضت حضورها في تلك الفترة، وكانت جنسا أدبيا منافسا للشعر في تلك المرحلة، والرواية فرضت حضورها في مرحلة معينة، وبلغ الإصدار الروائي في العام الواحد 100 رواية، وهو عدد كبير جدا على مجتمع محافظ كان يحرم الرواية تقريبا أو ينظر لها بريبة وشك، لأنه لا يريد كشف المستور ويضع عددا من الخطوط الحمر، ولا شك أن هناك روايات جيدة وأخرى ضعيفة، ولكن كنا بحاجة إلى كل هذا الحراك، وتوقعت أن يتبعه في مرحلة تالية حركة نقدية لفرز هذا الركام، ولكن ما زال المردود ضعيفا مقارنة بالأمنيات.

* الرواية سيرة مجتمع
* أصدرت ثلاثية بعنوان: «المكتوب مرة أخرى».. هل كانت تمثل بالنسبة إليك سيرة شخصية؟
- السيرة الذاتية جزء مهم، يدخل بالضرورة في النسيج الروائي، وثلاثية «المكتوب مرة أخرى» رواية أفتخر بها، وهي الرواية التي كتبتها بمتعة شديدة، وقيل عنها الكثير، ولكنها للأسف لم تقرأ جيدا، ولم تنقد ولم تعط حقها أيضا من الدراسات، وأصدقك أن هذا يوجعني ويحزنني كثيرا. هذه الرواية هي ثالثة رواياتي، وأعتبرها سنام الفعل الكتابي، لأنها كما ذكرت تعتبر رواية الروائي، ودعني أكن صريحا جدا بعد هذا الزمن، فقد كانت رواية تلازمني في كل مكان، وربما أعتبرها البعض مذكرات والبعض يعتبرها سيرة ذاتية، وهم هنا لم يستطيعوا أن يتجاوزوا خيطا رفيعا، يفصل بين هذه العوالم وبين سيرتي الذاتية. وببساطة فقد كنت أسقط رؤيتي وفلسفتي الكتابية على الواقع من خلال شخوصي الروائية، وهم عدد من أصدقائي الكتاب والروائيين والشعراء، ومنهم: إبراهيم الحميدان وعبده خال في شكل رمزي بالكناسين، وفلسفتي في ذلك أن الروائي كالكناس، يلتقط كل شيء من الشارع ويتفحصه، وربما أن غالبية الشخوص هم من أعضاء «جماعة السرد» بالرياض التي كنت سكرتيرا لها.
* انتقدت ظاهرة طغيان الأحداث السياسية والدينية على الكتابة الروائية.. لماذا؟
- بعض الروايات حملت في نسيجها الكتابي مظاهر التحولات في المجتمع المحلي، وحتما سيحدث ذلك وكنت أحد الذين تناولوا هذه المواضيع في رواياتي. لقد عاصرت هذه الحروب من موقعي كشاهد، وعشت كصحافي وكتبت فصولا من روايتي «ثلاثية المكتوب مرة أخرى» من بغداد، وكانت حينها تخوض الحرب مع إيران، وتسمى في ذلك الوقت البوابة الشرقية، حيث أسقطت في هذه الرواية فلسفتي ورؤيتي للكتابة والحياة في هذه الرواية.
وحينما أقول إن قضايا مثل حروب الخليج والصحوة والطفرة الاقتصادية، طغت على مواضيع الرواية المحلية فلست مجافيا للحقيقة، ولكننا لا نريد عناوين فضفاضة لهذا المواضيع، لمجرد الحضور وتسجيل تجربة وموقف بل نرغب في التشخيص والتحليل والقراءة والتأمل، وهذا يعيدني للتأكيد مرة أخرى على ضرورة أن يحصل الكاتب الروائي على قدر كافٍ من التجربة والمعرفة والنضج، فكل ملمح من هذه المواضيع يستحق أن يكون محورا مستقلا، كما أن الدين أيضا يدخل في النسيج الكتابي الروائي كالقيم المجتمعية، وظاهرة الصحوة أحدثت شيئا من الصدام المجتمعي، فالوطن شاسع وكبير ويتشكل من شرائح متنوعة، ولكن الصحوة حاولت أن تخطف كل الشرائح من وراء ستار التدين، وأستطيع الآن أن أسمي روايات كثيرة، تخندقت حول هذه المواضيع، وهذا شيء طبيعي. وبعض هذه الروايات، كانت جرأة تناولها سبب شهرتها، فكسرت «التابو» المجتمعي والسياسي والديني، وسنرى مستقبلا مع اتساع رقعة الحرية، روايات تعزف على الطائفية والعنصرية للأسف. الفن الروائي يبحث في الجذر الإنساني، ويجب أن يظل عالما وفنا رفيعا، يعكس تفاصيل لعالم واقعي وموازيا له.
* هناك من يصرّ على كتابة رواية فاقعة بالآيديولوجيا الدينية والسياسية. ما رأيك أنت؟
- الفنون بعمومها فعل إنساني للمتعة، غير أن الخطاب السياسي جزء من مكوناتها ويدخل في نسيجها، ولكن أرفض أن يكون طاغيا من دون مبرر، وإلا لتحولت الرواية إلى منشور سياسي، وفقدت قيمتها الفنية والموضوعية، وربما تجد في رواية عدة خطابات متجاورة، وهذا يضيف للرواية، فالبعد السياسي، يفرض نفسه دائما ولو لم يشأ الكاتب، فربما تجد أحد شخوص الرواية له موقف سياسي، والتصنيف في هذه الحالة مقبول، لكن أن ينطلق الكاتب ذاته من فرضية سياسية، فأعتقد أنه من الصعب قبولها وربما نجاحها أيضا، إلا إذا طغت نواح ترفع من قيمة النص.

* الرواية السياسية
* كتبت مرة أن الحداثة الشعرية في فترة السبعينات والثمانينات كانت أطهر ما جاء في المشهد الثقافي.. ماذا تقصد بذلك؟
- كانت حركة الحداثة الشعرية حدثا ثقافيا مهما جدا في حينه، فهناك مجتمع محافظ جدا، ولا يمارس أي فاعلية ثقافية أخرى غير الشعر، وهو مجتمع يتعاطى الشعر في كان مكان، كما يتعاطى القهوة، وبالذات الشعر الشعبي، فالذي لا يقول الشعر يحفظه وهو مستمع جيد له، والذائقة الشعرية شائعة بامتياز، وطبيعي أن يكون الشعر التقليدي هو السائد، ولكن حضور شعر الحداثة بما فيه من غموض، وأشكال فنية ومعان ومفردات وأبنية وخطاب أيضا، كان يشكل صداما ورفضا مجتمعيا وتمت مواجهته بقسوة، فالشعر الذي كان يكتبه السياب في بغداد وأجياله في المدن العربية، كان صداه يتردد لدى محمد حسن عواد.
وحين أقول إن حركة الحداثة الشعرية، هي أطهر ما جاء به المشهد الثقافي، فمرد ذلك إلى الهزة المجتمعية التي حملتها تلك الحركة، وكانت تخاطب الوعي الإنساني بجماليات فنية، وتحرض المخيلة لرؤية عوالم مستقبلية، وتنشد العلو والحب والرقي، وهي تواجه القسوة والتهم والمصادرة، ولكنها كانت باكورة لنتاج أجناس أدبية متنوعة.
* اعتبر بعض النقاد أن روايتك «مدن الدخان» نوع من «الهذيان الواقعي».. هل ننتظر رواية عن «مدن الربيع العربي»؟
- واضح أن هناك ملمحا سياسيا في نسيج رواية «مدن الدخان»، وأريد أن أوضح شيئا مهما عن تجربتي الروائية، فالواقع أنني لا أكتب إلا كما قال ريلكة (الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه) في إحدى عباراته «لا تكتب إلا عندما تشعر أنك ستموت إذا لم تكتبها..!»، بهذا المعنى كانت كتابتي الفنية بداية من المجموعة القصصية الأولى، وقد قلت كلاما بهذا المعنى مرات، وأحب أن أضيف أنني لا أحب أن أمضي في نفس الطريق مرتين، بمعنى آخر حين أكتب فإنني أجترح ذاتي، ولا أسمح لنفسي أن أقع في ذات الجرح مرتين، فالكتابة مغامرة وكشف عن مناطق بكر في الذاكرة، وهنا يمكن تجاوز المأزق الفني، فالهذيان والواقعي والتسجيلي والرمزي والسريالي كلها أشكال فنية، تؤدي في النهاية إلى خدمة النص، وقد يجتمع في النص عبر النسيج الروائي أكثر من شكل، حسب ما تتطلبه الكتابة النوعية.
ورواية «غيوم امرأة استثنائية» الأخيرة، هي أيضا رواية سياسية بامتياز، وهي أيضا رواية لا تمر من نفس خطوط رواية «مدن الدخان»، فالرواية ميدانها وفضاؤها وشخصياتها، تتجلى من فضاء التواصل المجتمعي (فيسبوك وتوتير)، وهو فضاء افتراضي ولكن بالحوار والتواصل المستمر، أصبح فضاء واقعيا في ظل التحولات العربية، وقد حضرت أكثر الشخصيات من الشخصيات الفاعلة فيما يسمى بالربيع العربي، وأقول ما يسمى بالربيع العربي لأنه فعلا شكل إحباطا تراكميا للأجيال العربية.



ماذا يحدث عندما نفكر؟

حنه آرندنت
حنه آرندنت
TT

ماذا يحدث عندما نفكر؟

حنه آرندنت
حنه آرندنت

في عالمنا اليوم، يبدو أن ظواهر مثل الحقيقة والواقع تغمرنا باستمرار في سياق الحياة اليومية. لكن لا بأس إذا تداخلا، تماماً، في بعضهما بعضاً. يبدو أنه لا يوجد تعارض أو التباس أو أي سوء فهم بينهما. فما نسمعه ونراه ليس أكثر ولا أقل مما هو موجود. ولا يوجد شيء سوى ما ندركه. لكن هل كل ما نلاحظه، هو فعلاً واقع أو حقيقة أو كليهما؟ حسب الفيلسوفة الألمانية حنه آرندت، لا حقيقة ولا واقع، وأن كليهما لم يظهرا كما هما. إن الفكر، حسبها، يدعو إلى عدم اللجوء للتأمل فقط، بل إلى العمل على تغيير الحياة العامة والأحداث، مؤكدة على ضرورة أن يكون الفكر حراً ومسؤولاً في الوقت نفسه. وبهذا فهي تحث الفلاسفة على العمل. وتثمن مقولة كارل ماركس الشهيرة، التي جاءت في الأطروحات الإحدى عشرة، رداً على فيورباخ، والتي تقول: «لقد اكتفى الفلاسفة حتى الآن بتفسير العالم بطرق مختلفة، لكن المهم هو تغييره».

اليوم، ونحن نعيش في عالم الخوارزميات، نتساءل؛ هل تسونامي المعلومات الذي يتجاوزنا وبشكل وفير ومباشر، يغنينا عن التفكير والتفكر؟ يبدو أن كتاب حنّة آرندت «حياة العقل» (1978)، مازال آنياً. وفيه تتناول «ماذا يحدث عندما نفكر؟» وهو السؤال الذي ركزت عليه في كتابها المنشور بعد ثلاث سنوات من وفاتها، والذي نستكشف فيه ماهية التفكير، وأين ومتى بالفعل، يحدث ذلك.

بدايةً، فالتفكير يختلف عن المعرفة، إذ تُركز المعرفة على الحقائق أو الظواهر التي سبقت مواجهتها في الواقع، بينما يُركز التفكير على ما لم يُكتشف أو يُبرهن عليه بعد. في اللوحة الشهيرة لرودان المسماة «المفكر»، يبدو لنا فيها، في وضعية نموذجية، يده تحت ذقنه، وهو يحدق في المشهد الضبابي غير المحدد بعد، إذ يبدو لنا أن المشهد المُفكَّر به مغطى، دائماً، بطبقة من الثلج. ونلاحظ أن شيئاً يبرز هنا وهناك؛ تماماً كما بعض الكلمات أو بعض الذكريات التي تقفز إلى الذاكرة على شكل شظايا.

يوحي هذا التمثال أنه من دون التحلي بالصبر وسعة الخيال والمسح البديهي لأفق الفكر، لا يمكن القبض على أي فكرة، وإن التفكير يتطلب عقلاً ترابطياً منفتحاً وحيوياً.

ثم تطرح آرندت السؤال المحير حول «أين» و«متى» نكون عندما نفكر. ولكن هل للتفكير زمن محدد؟

تلاحظ آرندت أن التفكير «يبقى دائماً مشوشاً، خارج النظام. وذلك، لأنه يقاطع جميع الأنشطة العادية». التفكير ينقلنا إلى مكان آخر، يمكن فهمه كنوع من «العالم الوسيط» - بين العالَم والشخص المُفكر - حيث تتوقف عقارب الساعة، التي تعدّ تحسب الزمن وترتب الأحداث ترتيباً زمنياً.

بينما ونحن نفكر، نجد أنفسنا في «زمنٍ بيْني»، كما كتبت آرندت، «يُنشئ فجوةً بين الماضي والمستقبل». هذه الفجوة، كما في زرادشت نيتشه، تُخلق تحت البوابة التي كُتبت عليها «اللحظة»، والتي تتصادم تحتها مسارات المستقبل والماضي. من هذا التصادم تنشأ «اللحظة الدائمة»، أو الآن الدائم، الذي كان يُطلق عليه في فلسفة أواخر العصور الوسطى اسم «nunc stans نونك ستانس».

من الناحية اللغوية، يُعدّ المصطلح اللاتيني «نونك ستانس» تناقضاً لفظياً لأنه يجمع بين مفهومين متعارضين - طبيعة اللحظة العابرة وديمومة الوقوف - مما يخلق معنى جديداً. ويشير هذا «الوقوف الآن» - من بين أمور أخرى - إلى مصطلح «nunc aeternitates نونك أتيرنيتيس» أي (الآن وإلى الأبد)، الذي كان يُعتبر «استعارة للزمن المقدس أو الإلهي والأبدي» في فلسفة العصور الوسطى. ويمكن فهمه على أنه التقاء محورين زمنيين متعارضين في لحظة «أبدية». تصف آرندت الخرق الذي يُحدثه الفكر في الزمن الكرونولوجي بأنه «الأثر الصغير غير الملحوظ للَّازمن». وتتابع: «فقط في خرق (نونك ستانس) يمكن للوجود الإنساني المراوغ أن يكشف عن نفسه كاستمرارية خالصة لـ(أنا)».

كما أنها توضح حالة غامضة إلى حد ما، من خلال مثل معروف عن كافكا: يدخل شخص مفكر في معركة مع خصمين خائفين، أحدهما «يدفعه من الخلف والثاني يمنعه من التقدم إلى الأمام». وكان على المفكر أن يقاتل مع كليهما مراراً وتكراراً، لكن حلمه هو أن «يتمكن، في يوم من الأيام، وفي لحظة غفلة، من القفز من خط المعركة، لكي يصبح حكَما على خصميه المتقاتلين مع بعضهما البعض».

التفكير ينقلنا إلى مكان آخر، يمكن فهمه كنوع من «العالم الوسيط»

بمعنى آخر، من يقف في «اللحظة» يواجه كلا الزمنين في آنٍ واحد. وهكذا، من خلال الوقوف بانتباه في «المنتصف»، يمكن لـ«الجديد»، الجديد غير المتوقع، أن يأتي إلينا من الماضي. لذا، لا يمكن لأي شخص يقف في اللحظة الراهنة أن يتجنب أي شيء أو يختبئ وراء أي عذر. لهذا السبب، يرى نيتشه أن الإنسان الشجاع المُتشبث بالحياة هو وحده من يُدرك الخلود في هذه اللحظة. إنها مقولة رائعة، خلدها العديد من الفلاسفة، ويدركها كل من فكر أو أبدع في تلك الأثناء. نقول إن الزمن توقف للحظة، لأننا لا نملك كلمات لوصف هذه اللحظة، لكن الزمن، بالطبع، استمر ببساطة. لقد حررنا أنفسنا إلى أجل غير مسمى من التجربة التي، عادة، يسجننا فيها الزمن - تجربة المحدودية والاضطراب والزوال - ودخلنا في اتصال مع بُعد زمني أغنى وأوسع وأكثر خصوبة بكثير.

ولهذا السبب فإن «الذات المفكرة لا عمر لها»، كما لاحظت آرندت، وهي في سن السبعين تقريباً؛ لأنه كم يجب أن يكون عمرك إذا كنت خارج الزمن أثناء اللحظة غير المحروسة؟

ليس للتفكير مكان إقامة ثابت.

الآن بعد أن تعرفنا على الإجابة التي تخص «متى» نفكر، تحاول آرندت أيضاً الإجابة على سؤال «أين». حسب قولها، فإن مساحة الفكر هي في الواقع «لا مكان» أو «يتوبيا». وذلك «لأن التفكير لا يملك وطناً؛ فهو يتمثل على شكل غياب وينسحب من وجود الأشياء».

وفقاً لمبدأ «المايوتك maieutic» السقراطي، ينشأ التفكير هنا. هذا المصطلح اليوناني الذي يشير إلى «قابلة - مولدة» - وصف به سقراط طريقته، التي كانت تهدف إلى مساعدة العقل على «ولادة» الأفكار.

إنه حوار يجري بين الناس وداخل الموضوع نفسه، ويحرك كل ما هو ثابت في داخلنا. إن الذات المفكرة هي متجولة أو «بدوية»، لا تتجه نحو معتقدات أو أفكار ثابتة، بل «تتجه نحو ما لم يتم التفكير فيه بعد».

ليس للتفكير مسكن ثابت؛ ولأنه بلا مأوى، يمكنك ممارسته في أي مكان في العالم، ويُفضل أن تكون متجولاً مغترباً. هذا ما كتبته آرندت عندما كانت تعيش في باريس: «طوبى لأولئك الذين ليس لديهم وطن، لأنهم ما زالوا يرونه في أحلامهم».

إنها نسختها لمقولة بول فاليري الشهيرة: «Je pense donc je ne suis pas» «أنا أفكر، إذن أنا لستُ موجوداً». في التفكير، لا بدّ من اختراق حضور الأشياء والذات من أجل إلقاء الضوء على شيء ما، في طي الغياب. فمن دون ساعة على معصمه وسقف دائم فوق رأسه، يحاول المُفكِّر مراراً وتكراراً الدخول في حوار داخلي مع نفسه ومع العالم.

* كاتبة مغربية


الجسد... الوعي والحرية واللغة والآخر

الطاهر وطار
الطاهر وطار
TT

الجسد... الوعي والحرية واللغة والآخر

الطاهر وطار
الطاهر وطار

قد تبدو الكتابة عن الجسد مثيرة للجدل، لكنها ستبدو أكثر إثارة حين تتحول إلى سردية تتجاوز الممنوع، وتستفز المخفي من السيرة، ولما يمكن أن تحمله من الهواجس والمكبوتات، لا سيما تلك التي تتحدث عن علاقة الجسد بالوعي والحرية واللغة والآخر، إذ لا يحضر هذا الآخر بوصفه شبحاً، بل جسدٌ له إغواءاته وشهواته، وربما عدوانيته في تمثيل الانتهاك والاغتصاب والمراقبة والحبس.

الجسد في هذا السياق ليس غامضاً، وليس إيروسا مجرداً، بقدر ما هو رهان وجودي، وتمثيل للذات في صراعها التاريخي والجندري، وأن ما يكتنفه من الغموض والاختباء لن يكون بعيداً عن علاقة ذلك بالسلطة والهوية والخطاب، وهذا ما يدفعه إلى توظيف الحكي بوصفها حافظاً للزمن كما يقول بول ريكور، لمواجهة سرديات الحذو والتابو، ولما يتداعى منهما عبر السيرة والمقدس والاعترافات.

علوية صبح

توظيف سردية جنوسة الجسد تدخل في خيار تشكيل تاريخ مضاد أو سري، أو في تحويل موضوع الجسد إلى نصٍ عيادي كما في الروايات النفسية، أو إلى نص مراقَب كما في الروايات البوليسية، أو إلى نص شهواني يعمد إلى خرق المألوف، كما في روايات ألبرتو مورافيا، أو فلاديمير نابوكوف، أو حتى في روايات فرانسو ساغان وسيمون دي بوفوار وغيرهم. في معظم أعمال هؤلاء الكتاب، يتحول الجسد إلى رهان متعال لتمثيل التمرد والشهوة، والى نص وجودي وفلسفي، تؤسطره الأساطير والأسفار والمغازي والحكايات، أو تؤطره المفاهيم، حيث يتبدى حضوره السردي عبر الصراع ومستوياته وأقنعته المتعددة، وعبر التمثيل الجنسوي والطبقي والجندري. هنا، يستدعيه الكتّاب والمؤرخون والحكواتيون، الجسد وكأنه رافعة سيميائية تنكشف من خلالها أوهامه في البطولة أو في الحب، أو تحولاته في الاغتراب والخيانة والانسحاق، والى ما يجعل منه عنواناً لتمثلات رمزية في القص، حيث الجسد الحكواتي، أو في الصراع السياسي حيث الجسد الآيديولوجي الثوري، أو في الجندر حيث الجسد الشهواني المتمرد، الذي لا يفصل علاقته بالجنس عن علاقته بالوجود، ولا يفصل وعيه بالحرية عن تمرده وشغفه بالبحث عن الإشباع الداخلي، بوصفه تعويضاً عن العجز والعطب والخواء، أو بوصفه تمثيلاً لمواجهة الفقد والانتهاك، أو تمثيلاً للرفض والاحتجاج إزاء الخارج المتوحش، الصانع للسجن والرقابة والشر والحرب والاغتصاب.

سلوى النعيمي

في الرواية العربية

عدد كبير من الروايات العربية استغرقها هذا التحول الفارق، فوجدت في الجسد مجالاً لتمثيل مستويات بنائها السردي، أو للكشف عن صراع شخصياتها في تمثيل وجودها، وفي التعبير عن هوسها بالحرية والاعتراف واللذة الغائبة، أو لتعرية علاقتها بمحنة «الواقع العربي» عبر لا وعيها النكوصي المسكون بسايكوباثيا القمع والاغتصاب والتغييب، والتي كثيراً ما تحضر بوصفها كناية عن التغريب الطبقي والفشل الثوري، أو عن القمع والإخصاء السياسي، كما في روايات عبد الرحمن منيف أو عبد الرحمن مجيد الربيعي أو حيدر حيدر أو الطاهر وطار، أو بوصفها تمثيلاً لفحولة تعويضية كما في روايات جبرا إبراهيم جبرا أو علي بدر مثلاً. لكن حضور الجسد بوصفه الإيروسي هو ما يُثير الجدل حول علاقة هذا الجسد بالوعي والرغبة، وبالتمرد على التاريخ والتابوات الاجتماعية والدينية، إذ يتحول الجسد إلى رهان سيميائي للذات الباحثة عن وجودها وهويتها وإشباعاتها الرمزية، وللتورية بها مع الشبهات السياسية، مثل روايات أيمن الدبوسي، سلوى النعيمي، علوية صبح، إبراهيم بادي، علي المقري، أمل الجراح، أمين الزاوي، فضيلة الفاروق، حزامة حبايب، منى برنس، علية ممدوح، حنان الشيخ وغيرهم.

عبد الرحمن منيف

تحولات هذا الجسد المُراقَب، والمقموع، والمخصي لم تكن بعيدة عما تصنعه السرديات، تلك التي تجعله فضاءً لتمثيل وقائع الصراع السياسي والاجتماعي والطبقي، ولإيقاظ ما هو مخفي من مكبوتها النفسي والشهواني والعدواني، حتى بدت الكتابة عنه وكأنها خزّان «مونودراميا» للذات التي تجعل من اعترافها التطهيري، ومن صوتها الداخلي وكأنهما أقنعة لتورية المعارضة والرفض، وعلى نحوٍ دفع بعض الروائيين والروائيات إلى استمراء لعبة الكتابة عن الجسد، بوصفها كتابة ساحرة وغاوية عن «سر الأسرار» وبيت الحكي والجنيات، الذي يستدعي إثارة الأسئلة التي تخص الغامض والمستور من علاقته بالتاريخ والمثيولوجيا، مثلما هو المخفي من علاقته المضطربة بالآيديولوجيا، والهوية، والجندر، والنضال الاجتماعي، وبالانتهاك الذي تتمثله السلطة، عبر خطابها ومراقبتها وقمعها.

ما يحضر من تلك السرديات يتحول إلى سرديات موازية تجسّ أزمة الذات المحبطة، حيث يُستدعى «الجنس» بوصفه تمثيلاً تفريغاً، أو كناية عن العقد النفسية والمراضة الاجتماعية، وأزمة إحباط البطل في الرواية العربية، حيث يتبدى هذا الإحباط عبر استيهامات الذات والهوية واللغة، أو عبر استيهامات مضادة للذات المعلولة، حيث شهوة «الافتراس» الجنسي، افتراس «السجين» أو افتراس المُختطف، أو افتراس القاصر، كتعويض رمزي عن غياب الإشباع الطفولي، كما في رواية «لوليتا» مثلاً، وفي سيرة «الاعتراف بلا اعتذار» للروائي الروسي إدوارد ليمنوف، وحتى رواية مثل «برهان العسل» للكاتبة سلوى النعيمي، التي تجد في علاقة الجسد بالأفكار نوعاً من تعويض الغائب، من خلال المواجهة مع المكبوت في كتب التاريخ.

مثل هذه الروايات العربية لا تحكي عن سيرة خذلان الجسد، ولا عن اغترابه الجنسي والسياسي، بل تكشف عن تاريخ تحولاته، وعن المخفي من علاقته بـ«النسق المضمر» الذي يتوارى خلف لغة متوترة، وحكايات تستعيد أنموذج الليالي، أو أنموذج الحكواتي الشاطر.


تحولات البشر والمكان في رواية لبنانية

تحولات البشر والمكان في رواية لبنانية
TT

تحولات البشر والمكان في رواية لبنانية

تحولات البشر والمكان في رواية لبنانية

عن دار «الشروق» بالقاهرة، صدرت الطبعة المصرية من رواية «ميكروفون كاتم صوت» للكاتب اللبناني محمد طرزي التي سبق لها الفوز بجائزتي «نجيب محفوظ» و«كتارا» للرواية العربية.

تعكس الرواية سمات السرد عند المؤلف من حيث التركيز على أصوات المهمشين وتوظيف تقنيات الكوميديا السوداء.

وتتميز كذلك بعناصر استعارية ومجاز عميق وشخصيات قوية وأسلوب سردي يعتمد على السهل الممتنع، وبرغم أنها تتحدث عن لبنان اليوم فإنها خرجت من محدودية المكان والزمان المفترض لتكتشف واقعاً إنسانياً عاماً عن أزمة الإنسان المعاصر في مدن تدفن الروح وتقتل الحلم.

يقدم محمد طرزي تشريحاً للبنان الصغير جغرافياً، صاحب الجراح الكبيرة على مستوى الروح، في الفترة من 2018 إلى 2022، أي الحقبة التي تحيط بانهيار العملة اللبنانية والانفجار في المرفأ حيث نتعرف على شخصيات متنوعة ومهمشة تكافح لفهم الحياة والبقاء على قيدها في ظل ظروف تزداد صعوبة.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«ألقى سلطان نظرة هادئة على شواهد القبور المغسولة بالمطر المتلألئة كالمروج البيض في أولى ساعات الصباح، لم تكن الشمس قد أشرقت بعد لكن الأفق مضاء وفوق البحر سحابة طويلة بلون البنفسج. نزل درجات ثلاثاً ومضى يسير ببطء بين القبور ممسكاً بكوبه الساخن المزين بالأزهار، استقر عند شجرة فيكوس معمرة جلس تحت أغصانها الفضية مستسلماً للدقائق السحرية الأولى من النهار.

رنت في الجو ضربات الحفار فرفع الشاب رأسه وتطلع نحو الرجل الذي يدك الأرض دكا مخرجاً من جوفها رملاً رطباً يكدسه بمحاذاة عربة يد صغيرة، نهض بعدها واقفاً ومشي بهدوء نحو مصدر الصوت متلمساً القبور وماسحاً عن شواهدها الندى.

رفع الحفار الواقف في الحفرة الغائرة عينيه مصلحاً قبعة القش فوق رأسه، رد التحية بوجه عابس يُعرف به ويعطي تفسيراً لتسميته بـ«أبو الغضب»، ارتطم رفشه بنتوء صخري فمتخط بقوة ماسحاً أنفه بظاهر كفه قبل أن يثبت الرفش تحت الجسم الصلب ويشده بنفس مقطوع: (أوه...أوه...)

تأمل سلطان الحفرة السوداء، بدت مثل فم نهم لا يميز بين روح كبيرة وأخرى صغيرة فيما الحفار بدا وهو يعض لسانه مثل طبيب أسنان أبله يجاهد لاقتلاع ضرس الأرض المسوس حتى يستبدل به جثة إنسان (أوه...أوه).

زفر الحفار، شد ظهره للخلف واضعاً يديه عند مستوى كليتيه ورد مكلماً نفسه: (صعبة) ثم توجه إلى سلطان طالباً إليه مناولته المعول الملقى بجانب الحفرة. انزلقت قبعة القش على عيني الحفار فأصلحها وشرع يضرب بقوة الكتلة الصخرية، نبح كلب وصاح ديك وغزت المقبرة رائحة المطر بينما الضربات تواصل دويها في هدأة الصباح.

بعد عشر ضربات تقريباً تفتت النتوء الصخري، صارت الحفرة ممهدة الآن، وأصبح بوسع الوافد الجديد وضع رأسه مطمئناً فوق الرمل عله ينعم بنومه الأبدي. مع إشراقة الشمس استيقظت المقبرة شيئاً فشيئاً، ارتفعت أصوات الذين ينظفون القبور وعلت جلبة المتسولات الملفعات بالأسمال وهن يتوزعن عند الأضرحة الفاخرة».