التشابهات والاختلافات والأصوليات بين الإسلامين الآسيوي والأفريقي

وسط تنوّع ممارسات متشدّديهما

مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)
مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)
TT

التشابهات والاختلافات والأصوليات بين الإسلامين الآسيوي والأفريقي

مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)
مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)

لا يعني وصف «الآسيوي» أو «الأفريقي» أو «الأوروبي» للإسلام إلا تأثير البيئات والقراءات فيه، وهو ينصب هنا على التاريخي المتغير وليس الإسلام النصي والثابت. وإن كان وعي فقهائنا ومتكلمينا ومؤرخي الأفكار في تراثنا، قد سبقوا للوعي بهذه الاختلافات داخل الوحدة منذ وقت مبكر، ويكفي مثالا على ذلك ما في جاء في «مقالات الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري (المتوفى سنة 324 هجرية)، وكتبه عبد القاهر البغدادي (توفي سنة 429 هجرية) في «الفرق بين الفرق»، وأبو محمد بن حزم (توفي سنة 456هجرية) في «الفصل»، وأبو الفتح الشهرستاني (المتوفى سنة 548 هجرية) في «الملل والنحل»، وغيرهم كثير.
صعدت الدراسات الثقافية للإسلام وتنميطه عبر قراءة طبعاته المختلفة، مع صعود خطر الإرهاب عالميا منذ تسعينات القرن الماضي، وخلال العقد الأول من هذا القرن، تمييزا وتنويعا ووعيا بالاختلافات الثقافية والمعرفية والوطنية، ومحاولات «النمذجة» المتعددة له.
وبرزت في هذا الخصوص عربيا مع «مدرسة الإسلاميات التطبيقية» في الجامعة التونسية، بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي، التي أصدرت عددا من الكتب المهمة في هذا الصدد مثل «الإسلام الآسيوي» لآمال قرامي، و«إسلام الخوارج» لناجية الوريمي بوعجيلة، و«إسلام المجددين» لمحمد حمزة، و«الإسلام الحركي» لعبد الرحيم بوهاها، و«الإسلام الكردي» للتهامي العبدولي، و«إسلام الفلاسفة» لمنجي لسود، وغيرها من الدراسات المهمة.
كذلك برزت أفريقيا مع ما كتبه المفكر الكيني الراحل عن «الخبرة الإسلامية في أفريقيا» سنة 2008، والمفكر الجنوب الأفريقي فريد إسحاق في كتابه «أن تكون مسلما» سنة 1999، كما ساهم في نشر هذا التصنيف عدد من المختصين الأوروبيين في الشأن الإسلامي، مثل طارق رمضان وكتابه «أن تكون مسلما أوروبيا» سنة 1999، وأوليفيه روا في كتابه «نحو إسلام أوروبي»، الذي صدر في نهاية التسعينات، وبالفرنسية أيضا.
الدراسات المذكورة آنفا كلها دراسات عن أنماط التدين أو السلوك البشري الديني، وليس عن الدين، تختلف تمثلاته باختلافات الأفراد والجماعات والثقافات لا شك.
وسنكتفي هنا بقراءة السمات المتشابهة والفارقة بين كل من «الإسلام الآسيوي» و«الإسلام الأفريقي»، وكيف تتأثر وتختلف الحركات المتشددة والمتطرفة في كل منهما عن الآخر، وفي العلاقة بالمركز الشرق الأوسطي والنموذج المهيمن في تصوراته.
أولا: التشابهات بين الإسلام الآسيوي والأفريقي:
ضبطا للاصطلاح، ينحصر مفهوم «الإسلام الآسيوي» على التمثل الإسلامي لدى المجتمعات المسلمة في جنوب شرق آسيا غالبا، وأنماط التعايش داخل حضاراتها وجماعاتها الكبيرة CIVILIZATION SINIC حسب تعبير هانتينغتون، التي تمثل الكونفوشيوسية والبوذية والهندوسية أطرها الحاكمة والغالبة تاريخيا وعصريا، والمتأثر بما يُسمى «القيم الآسيوية»، التي تُعلي قيمة العالم ومكانة الروح المصالحة بين الجماعة والفرد في إطار هذه القيم. في المقابل، ينحصر «الإسلام الأفريقي» في تمثل الإسلام وأنماط تدينه لدى الجاليات والمجتمعات المسلمة في غير الشمال الأفريقي، المنسوب لمنطقة الشرق الأوسط والإسلام العربي، وإن كان يتميز في المناطق الأكثر تحديثا، التي يمثل فيها أقلية وخاصة جنوب أفريقيا بحالة أكثر مرونة ومدنية من تلك المناطق التي يمثل غالبيتها ويجسد طموحها.
يتشابه كلا الإسلامين، الآسيوي والأفريقي، أولا في «نمط التلاقي» بين هذه المناطق والإسلام، كونه لم يكن فتوحا حربية، ولكن كان دعوة وفتوحا روحية بالأساس، عبر دعوات الدعاة والتجار والتأثيرات الاجتماعية والسلوكية للمسلمين، سواء من اليمن والجزيرة في الحالة الأولى، أو من الشمال الأفريقي في الحالة الثانية. ويمثل «التصوف» نقطة تلاق ثانية بين هذين الإسلامين، لكنه بينما كان أضعف وجاء متأثرا بالتصوف المشرقي، ومعتمدا على تراثه وأدبياته، تميز في الخبرة والتجربة الآسيوية وتبلور بشكل مستقبل واضح هناك.
أما التشابه الثالث، فهو أن كليهما اصطدم مع «تسربات وتشظيات ظاهرة الجهادية المعولمة»، وظهور حركات محافظة إصلاحية أو مجموعات متطرفة مؤمنة وداعية لإقامة الدولة الإسلامية ومرتبطة بـ«الجهادية المعولمة» وقيادتها، كـ«القاعدة» و«داعش». لكنها ظلت في الحالة الآسيوية أقل تأثيرا وأكثر محدودية في مجتمعاتها، بينما تضخمت وتصاعد تأثيرها في الحالة الإسلامية الأفريقية، شأن تنظيم «بوكو حرام» و«حركة شباب المجاهدين» وفروع «القاعدة» في الساحل والقرن الأفريقي، لاختلاف الخبرة والتاريخ وتبلور الهوية الدينية بين كليهما.
ثانيا: السمات الفارقة بين الإسلام الآسيوي والأفريقي:
يتميز الإسلام الآسيوي بأنه بعد من أبعاد الهوية، وليس بُعدها الأول أو الوحيد كما هي الحال في منطقة الشرق الأوسط، الذي يضم العالم العربي وجواره التركي والإيراني؛ حيث يعد فاعلا اجتماعيا وسياسيا في حضارات كبيرة وقديمة مستقرة، وليس فاعلا وحيدا أو متغلبا محتملا.
ولعل مما ساعد في ذلك أن الفتوحات الإسلامية لآسيا تأخرت عن مثيلتها في الجزيرة أو العراق وإيران وشمال أفريقيا. ثم إنها واجهت في الجانب الآسيوي نظما وثقافات وتراثات مكينة لم تستطع الفتوحات الإسلامية إزاحتها كليا شأن الكونفوشيوسية والهندوسية. ولقد أبهرت هذه النظم والثقافات والتراثات العلماء والرحالة المسلمين في بدايتها وكان تحولها في الغالب دعويا وسلميا، ومن ثم، أثرت طبيعة هذا التلاقي السمح في طبيعة التدين والتحول فيما بعد.
أما فيما يخص الإسلام الأفريقي، فالإسلام يُعد بُعدا أوليا أو رئيسا لدى المسلمين في القرن الأفريقي، وذابت فيه سريعا هويات كثير من القبائل والمناطق التي اعتنقته، لاسيما أنه قابل هويّات هشة وثقافات أسطورية غير مدونة، وقبائل منعزلة عن التاريخ. وبالتالي، نجح الإسلام في تحضيرها وأسس لها دولا، فعرفت مفهوم «الدولة» عن طريقه في وقت متأخر، كما هي الحال في نيجيريا أو مالي أو حتى السودان؛ إذ لا يتجاوز عدة قرون.
ومن هنا كانت فرضية إدماج الإسلام في المجتمع والجماعة والدولة، وليس إخضاع الجماعة والدولة له، سمة بارزة من سمات الإسلام الآسيوي، وهو ما يعبر عنه الخبرة الإسلامية الإندونيسية والماليزية والأقليات في الهند وغيرها بالخصوص. وفي المقابل، العكس صحيح في الحالة الأفريقية كما يعبر عنه «بوكو حرام أو «القاعدة في مالي» أو «حركة الشباب» في الصومال، وغيرها.
وفي حين تأخر تبلور الإسلام الأفريقي، وظل أكثر تأثرا بالإنتاج الشرق الأوسطي، العربي بالخصوص، تميز الإسلام الآسيوي بالتبلور الثقافي والاجتماعي، فامتلك تراثا هائلا من المؤلفات، ولا عجب، فأغلب المحدثين والفقهاء المسلمين الأقدمين ينتمون لهذه المنطقة من العالم، من البخاري والماتريدي، ولاحقا ولي الله الدهلوي حتى الآن. وكان اهتمام الهنود بعلوم الحديث والفقه معروفا بالخصوص، ومحل ثناء الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة «المنار»، ودعوة المصريين لمثل هذا الجهد في وقت مبكر، وصنعوا مدارسهم العرفانية والروحية والعلمية الخاصة، من المولوية حتى الديوبندية وغيرها، بل صنعوا رموزهم المنتمية للمكان المنفصلة عن المركز بعكس ما عليه الإسلام الأفريقي.
وبرز معبرا عن هذا النموذج مفكرون مسلمون كبار داخل الهند شأن أبي الكلام أزاد، الذي كان رفيقا للمهاتما غاندي ولال نهرو في الكفاح الاستقلال، كما كان أحد زعماء حزب المؤتمر الهندي وأحد مفسري القرآن وفقهائه، وشبلي النعماني وغيرهما، ممن لم يروا تعارضا في الإسلام بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، والسير أحمد خان، أحد مؤسسي جامعة عليغره الإسلامية وغيرهم.
كذلك كانت غنية تجربة الإسلام التاريخية في إندونيسيا؛ حيث التقى بتاريخ طويل من التعايش السلمي الذي شمل البروتستنات والكاثوليك والهندوس والبوذيين. وهو ما جعل عديدا من الباحثين يعلق أهمية كبيرة للتعددية الدينية بوصفها عمودا من أعمدة الديمقراطية (في السياق الإندونيسي). ولذلك فإن تطور الإسلام في إندونيسيا يختلف بشكل ملحوظ عن باقي البلدان المسلمة أو الإسلامية. ومنذ العام 1945 تعد البانتشاسيلا Pancasila الأساس الفلسفي الرسمي للدولة الإندونيسية، وهي كلمة سنسكريتية - هندية قديمة - تعني «المبادئ الخمسة»، وهي على الترتيب:
1- الإيمان بإله واحد أوحد.
2- إنسانية عادلة ومتحضرة.
3- وحدة إندونيسيا.
4- الديمقراطية التي ترشدها الحكمة الجُوَّانية.
5- العدالة الاجتماعية لكل الشعب الإندونيسي.
وفي فترة الرئيس سوهارتو انتشر الفكر الليبرالي المؤمن بالتصالح بين الإسلام والقيم الآسيوية، وبرز مفكرون شأن نوري خالص بجوار أطروحاته عن ذلك معهد «فرامادينا» بهدف نشر قيم الإسلام العالمية التي لا تتعارض مع المحلية. وبهذا حاول نور خالص دمج الثقافة الإسلامية بالثقافة المحلية؛ كي لا يحدث تنافر بينهما. وهذه الفكرة تعتمد على أن تعاليم الرسالة المحمدية المنصوص عليها في القرآن والسنة، تدعو إلى القيم الحضارية لا لنبذها، والتخلي عنها. ونشط تيار الإسلام الليبرالي في البلاد الذي كان يعد من أبرز ممثليه الرئيس الأسبق لإندونيسيا عبد الرحمن وحيد الذي ألف كتابا بعنوان «وهم الدولة الإسلامية»، كما نشط تيار الإسلاميين الجمهوريين المتأثر بتجربة اليسار الإسلامي في مصر، في تركيزه على غائية بُعد العدالة الاجتماعية، ومفكرون معرفيون شأن السيد نقيب العطاس من أصحاب النقد المعرفي للتراثين الغربي والإسلامي على السواء.
إن هذا الفهم السياقي يفسر لنا كذلك تجربة «الإسلام الحضاري» في التجربة الماليزية، وما عرف من توجه الرئيس مهاتير (محضير) محمد ورفقائه، رغم تأثره الشديد بمقولات الهوية والعداء للعولمة والغرب، بما سمى «برقرطة الإسلام» Bureaucratization of Islam، أي دمج الإسلام في الجهاز البيروقراطي للدولة، كما قامت حكومة مهاتير محمد في عام 1988 باتخاذ مجموعة من الإجراءات في هذا الصدد، شملت إنشاء «مؤسسة الدعوة»، لتكون مسؤولة عن تنسيق أنشطة الدعوة داخل ماليزيا، و«أسلمة» شكلية لمؤسسات الإعلام كإلزام مقدمات النشرات بوضع غطاء للرأس، والدعوة المستمرة لذلك.
بيد أن مهاتير محمد، الذي تولى الحكم سنة 1981، لم يستطع الذهاب في تلك السياسة إلى حد إقامة دولة إسلامية، أو تطبيق الشريعة، باستثناء إعلان الحكومة في مايو (آيار) 1992 استعدادها لتطبيق الشريعة الإسلامية بشكل تدريجي، وذلك ردا على إعلان الحزب الإسلامي خطته لتطبيق الشريعة في ولاية كيلانتان، بعد نجاحه في السيطرة على مقاعد الولاية في انتخابات 1990. كذلك، لم يستطع التمادي والتوسع في سياسة «أسلمة» السياسات الحكومية، مراعاة لأوضاع غير المسلمين الذين يشكلون حوالي نصف سكان ماليزيا، كما يذكر محمد فايز في دراسة له. ولقد وصفت السياسات الحكومية حينها بأنها عملية «أسلمة الأجهزة الحكومية» أو «برقرطة للإسلام» على نحو أدى إلى إثارة التساؤلات حول طبيعة النظام السياسي الماليزي وحزب أومنو الذي رفع شعار «الإسلام الحضاري». ومن ثم، التمايز بينه وبين الحزب الإسلامي، الذي يهدف إلى تطبيق الشريعة، وإن رفع شعار «الإسلام للجميع»، والمؤسس منذ أربعينات القرن الماضي. وكان يعد المعارضة الرئيسية في البلاد، رغم ما يطرحه من أطروحات تقدمية في مجال المساواة الإنسانية طمأنة للأعراق الأخرى، وفي الاقتصاد والمرأة تتفوق على ما يطرحه الإسلام السياسي في الشرق الأوسط. ولوحظ في النموذج الآسيوي بعموم محدودية تأثير حركات الإسلام السياسي والمتطرف، مثل الخلايا التابعة لـ«داعش» في إندونيسيا، أو جماعة (أبو بكر) باعشير الهادفة لتأسيس دولة في جنوب شرق آسيا، ولقد بايعت «داعش» عام 2014، وكذلك «جماعة المجاهدين الماليزيين». فكل منها لا يتعدى عدد أعضائه بضع مئات، وما زال طموح الدولة أو الإمارة الدينية بعيدا عن أجندته وطموحه على العكس من حركات متطرفة في أفريقيا شأن «بوكو حرام» أو «حركة شباب المجاهدين».



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».