التشابهات والاختلافات والأصوليات بين الإسلامين الآسيوي والأفريقي

وسط تنوّع ممارسات متشدّديهما

مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)
مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)
TT

التشابهات والاختلافات والأصوليات بين الإسلامين الآسيوي والأفريقي

مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)
مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)

لا يعني وصف «الآسيوي» أو «الأفريقي» أو «الأوروبي» للإسلام إلا تأثير البيئات والقراءات فيه، وهو ينصب هنا على التاريخي المتغير وليس الإسلام النصي والثابت. وإن كان وعي فقهائنا ومتكلمينا ومؤرخي الأفكار في تراثنا، قد سبقوا للوعي بهذه الاختلافات داخل الوحدة منذ وقت مبكر، ويكفي مثالا على ذلك ما في جاء في «مقالات الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري (المتوفى سنة 324 هجرية)، وكتبه عبد القاهر البغدادي (توفي سنة 429 هجرية) في «الفرق بين الفرق»، وأبو محمد بن حزم (توفي سنة 456هجرية) في «الفصل»، وأبو الفتح الشهرستاني (المتوفى سنة 548 هجرية) في «الملل والنحل»، وغيرهم كثير.
صعدت الدراسات الثقافية للإسلام وتنميطه عبر قراءة طبعاته المختلفة، مع صعود خطر الإرهاب عالميا منذ تسعينات القرن الماضي، وخلال العقد الأول من هذا القرن، تمييزا وتنويعا ووعيا بالاختلافات الثقافية والمعرفية والوطنية، ومحاولات «النمذجة» المتعددة له.
وبرزت في هذا الخصوص عربيا مع «مدرسة الإسلاميات التطبيقية» في الجامعة التونسية، بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي، التي أصدرت عددا من الكتب المهمة في هذا الصدد مثل «الإسلام الآسيوي» لآمال قرامي، و«إسلام الخوارج» لناجية الوريمي بوعجيلة، و«إسلام المجددين» لمحمد حمزة، و«الإسلام الحركي» لعبد الرحيم بوهاها، و«الإسلام الكردي» للتهامي العبدولي، و«إسلام الفلاسفة» لمنجي لسود، وغيرها من الدراسات المهمة.
كذلك برزت أفريقيا مع ما كتبه المفكر الكيني الراحل عن «الخبرة الإسلامية في أفريقيا» سنة 2008، والمفكر الجنوب الأفريقي فريد إسحاق في كتابه «أن تكون مسلما» سنة 1999، كما ساهم في نشر هذا التصنيف عدد من المختصين الأوروبيين في الشأن الإسلامي، مثل طارق رمضان وكتابه «أن تكون مسلما أوروبيا» سنة 1999، وأوليفيه روا في كتابه «نحو إسلام أوروبي»، الذي صدر في نهاية التسعينات، وبالفرنسية أيضا.
الدراسات المذكورة آنفا كلها دراسات عن أنماط التدين أو السلوك البشري الديني، وليس عن الدين، تختلف تمثلاته باختلافات الأفراد والجماعات والثقافات لا شك.
وسنكتفي هنا بقراءة السمات المتشابهة والفارقة بين كل من «الإسلام الآسيوي» و«الإسلام الأفريقي»، وكيف تتأثر وتختلف الحركات المتشددة والمتطرفة في كل منهما عن الآخر، وفي العلاقة بالمركز الشرق الأوسطي والنموذج المهيمن في تصوراته.
أولا: التشابهات بين الإسلام الآسيوي والأفريقي:
ضبطا للاصطلاح، ينحصر مفهوم «الإسلام الآسيوي» على التمثل الإسلامي لدى المجتمعات المسلمة في جنوب شرق آسيا غالبا، وأنماط التعايش داخل حضاراتها وجماعاتها الكبيرة CIVILIZATION SINIC حسب تعبير هانتينغتون، التي تمثل الكونفوشيوسية والبوذية والهندوسية أطرها الحاكمة والغالبة تاريخيا وعصريا، والمتأثر بما يُسمى «القيم الآسيوية»، التي تُعلي قيمة العالم ومكانة الروح المصالحة بين الجماعة والفرد في إطار هذه القيم. في المقابل، ينحصر «الإسلام الأفريقي» في تمثل الإسلام وأنماط تدينه لدى الجاليات والمجتمعات المسلمة في غير الشمال الأفريقي، المنسوب لمنطقة الشرق الأوسط والإسلام العربي، وإن كان يتميز في المناطق الأكثر تحديثا، التي يمثل فيها أقلية وخاصة جنوب أفريقيا بحالة أكثر مرونة ومدنية من تلك المناطق التي يمثل غالبيتها ويجسد طموحها.
يتشابه كلا الإسلامين، الآسيوي والأفريقي، أولا في «نمط التلاقي» بين هذه المناطق والإسلام، كونه لم يكن فتوحا حربية، ولكن كان دعوة وفتوحا روحية بالأساس، عبر دعوات الدعاة والتجار والتأثيرات الاجتماعية والسلوكية للمسلمين، سواء من اليمن والجزيرة في الحالة الأولى، أو من الشمال الأفريقي في الحالة الثانية. ويمثل «التصوف» نقطة تلاق ثانية بين هذين الإسلامين، لكنه بينما كان أضعف وجاء متأثرا بالتصوف المشرقي، ومعتمدا على تراثه وأدبياته، تميز في الخبرة والتجربة الآسيوية وتبلور بشكل مستقبل واضح هناك.
أما التشابه الثالث، فهو أن كليهما اصطدم مع «تسربات وتشظيات ظاهرة الجهادية المعولمة»، وظهور حركات محافظة إصلاحية أو مجموعات متطرفة مؤمنة وداعية لإقامة الدولة الإسلامية ومرتبطة بـ«الجهادية المعولمة» وقيادتها، كـ«القاعدة» و«داعش». لكنها ظلت في الحالة الآسيوية أقل تأثيرا وأكثر محدودية في مجتمعاتها، بينما تضخمت وتصاعد تأثيرها في الحالة الإسلامية الأفريقية، شأن تنظيم «بوكو حرام» و«حركة شباب المجاهدين» وفروع «القاعدة» في الساحل والقرن الأفريقي، لاختلاف الخبرة والتاريخ وتبلور الهوية الدينية بين كليهما.
ثانيا: السمات الفارقة بين الإسلام الآسيوي والأفريقي:
يتميز الإسلام الآسيوي بأنه بعد من أبعاد الهوية، وليس بُعدها الأول أو الوحيد كما هي الحال في منطقة الشرق الأوسط، الذي يضم العالم العربي وجواره التركي والإيراني؛ حيث يعد فاعلا اجتماعيا وسياسيا في حضارات كبيرة وقديمة مستقرة، وليس فاعلا وحيدا أو متغلبا محتملا.
ولعل مما ساعد في ذلك أن الفتوحات الإسلامية لآسيا تأخرت عن مثيلتها في الجزيرة أو العراق وإيران وشمال أفريقيا. ثم إنها واجهت في الجانب الآسيوي نظما وثقافات وتراثات مكينة لم تستطع الفتوحات الإسلامية إزاحتها كليا شأن الكونفوشيوسية والهندوسية. ولقد أبهرت هذه النظم والثقافات والتراثات العلماء والرحالة المسلمين في بدايتها وكان تحولها في الغالب دعويا وسلميا، ومن ثم، أثرت طبيعة هذا التلاقي السمح في طبيعة التدين والتحول فيما بعد.
أما فيما يخص الإسلام الأفريقي، فالإسلام يُعد بُعدا أوليا أو رئيسا لدى المسلمين في القرن الأفريقي، وذابت فيه سريعا هويات كثير من القبائل والمناطق التي اعتنقته، لاسيما أنه قابل هويّات هشة وثقافات أسطورية غير مدونة، وقبائل منعزلة عن التاريخ. وبالتالي، نجح الإسلام في تحضيرها وأسس لها دولا، فعرفت مفهوم «الدولة» عن طريقه في وقت متأخر، كما هي الحال في نيجيريا أو مالي أو حتى السودان؛ إذ لا يتجاوز عدة قرون.
ومن هنا كانت فرضية إدماج الإسلام في المجتمع والجماعة والدولة، وليس إخضاع الجماعة والدولة له، سمة بارزة من سمات الإسلام الآسيوي، وهو ما يعبر عنه الخبرة الإسلامية الإندونيسية والماليزية والأقليات في الهند وغيرها بالخصوص. وفي المقابل، العكس صحيح في الحالة الأفريقية كما يعبر عنه «بوكو حرام أو «القاعدة في مالي» أو «حركة الشباب» في الصومال، وغيرها.
وفي حين تأخر تبلور الإسلام الأفريقي، وظل أكثر تأثرا بالإنتاج الشرق الأوسطي، العربي بالخصوص، تميز الإسلام الآسيوي بالتبلور الثقافي والاجتماعي، فامتلك تراثا هائلا من المؤلفات، ولا عجب، فأغلب المحدثين والفقهاء المسلمين الأقدمين ينتمون لهذه المنطقة من العالم، من البخاري والماتريدي، ولاحقا ولي الله الدهلوي حتى الآن. وكان اهتمام الهنود بعلوم الحديث والفقه معروفا بالخصوص، ومحل ثناء الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة «المنار»، ودعوة المصريين لمثل هذا الجهد في وقت مبكر، وصنعوا مدارسهم العرفانية والروحية والعلمية الخاصة، من المولوية حتى الديوبندية وغيرها، بل صنعوا رموزهم المنتمية للمكان المنفصلة عن المركز بعكس ما عليه الإسلام الأفريقي.
وبرز معبرا عن هذا النموذج مفكرون مسلمون كبار داخل الهند شأن أبي الكلام أزاد، الذي كان رفيقا للمهاتما غاندي ولال نهرو في الكفاح الاستقلال، كما كان أحد زعماء حزب المؤتمر الهندي وأحد مفسري القرآن وفقهائه، وشبلي النعماني وغيرهما، ممن لم يروا تعارضا في الإسلام بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، والسير أحمد خان، أحد مؤسسي جامعة عليغره الإسلامية وغيرهم.
كذلك كانت غنية تجربة الإسلام التاريخية في إندونيسيا؛ حيث التقى بتاريخ طويل من التعايش السلمي الذي شمل البروتستنات والكاثوليك والهندوس والبوذيين. وهو ما جعل عديدا من الباحثين يعلق أهمية كبيرة للتعددية الدينية بوصفها عمودا من أعمدة الديمقراطية (في السياق الإندونيسي). ولذلك فإن تطور الإسلام في إندونيسيا يختلف بشكل ملحوظ عن باقي البلدان المسلمة أو الإسلامية. ومنذ العام 1945 تعد البانتشاسيلا Pancasila الأساس الفلسفي الرسمي للدولة الإندونيسية، وهي كلمة سنسكريتية - هندية قديمة - تعني «المبادئ الخمسة»، وهي على الترتيب:
1- الإيمان بإله واحد أوحد.
2- إنسانية عادلة ومتحضرة.
3- وحدة إندونيسيا.
4- الديمقراطية التي ترشدها الحكمة الجُوَّانية.
5- العدالة الاجتماعية لكل الشعب الإندونيسي.
وفي فترة الرئيس سوهارتو انتشر الفكر الليبرالي المؤمن بالتصالح بين الإسلام والقيم الآسيوية، وبرز مفكرون شأن نوري خالص بجوار أطروحاته عن ذلك معهد «فرامادينا» بهدف نشر قيم الإسلام العالمية التي لا تتعارض مع المحلية. وبهذا حاول نور خالص دمج الثقافة الإسلامية بالثقافة المحلية؛ كي لا يحدث تنافر بينهما. وهذه الفكرة تعتمد على أن تعاليم الرسالة المحمدية المنصوص عليها في القرآن والسنة، تدعو إلى القيم الحضارية لا لنبذها، والتخلي عنها. ونشط تيار الإسلام الليبرالي في البلاد الذي كان يعد من أبرز ممثليه الرئيس الأسبق لإندونيسيا عبد الرحمن وحيد الذي ألف كتابا بعنوان «وهم الدولة الإسلامية»، كما نشط تيار الإسلاميين الجمهوريين المتأثر بتجربة اليسار الإسلامي في مصر، في تركيزه على غائية بُعد العدالة الاجتماعية، ومفكرون معرفيون شأن السيد نقيب العطاس من أصحاب النقد المعرفي للتراثين الغربي والإسلامي على السواء.
إن هذا الفهم السياقي يفسر لنا كذلك تجربة «الإسلام الحضاري» في التجربة الماليزية، وما عرف من توجه الرئيس مهاتير (محضير) محمد ورفقائه، رغم تأثره الشديد بمقولات الهوية والعداء للعولمة والغرب، بما سمى «برقرطة الإسلام» Bureaucratization of Islam، أي دمج الإسلام في الجهاز البيروقراطي للدولة، كما قامت حكومة مهاتير محمد في عام 1988 باتخاذ مجموعة من الإجراءات في هذا الصدد، شملت إنشاء «مؤسسة الدعوة»، لتكون مسؤولة عن تنسيق أنشطة الدعوة داخل ماليزيا، و«أسلمة» شكلية لمؤسسات الإعلام كإلزام مقدمات النشرات بوضع غطاء للرأس، والدعوة المستمرة لذلك.
بيد أن مهاتير محمد، الذي تولى الحكم سنة 1981، لم يستطع الذهاب في تلك السياسة إلى حد إقامة دولة إسلامية، أو تطبيق الشريعة، باستثناء إعلان الحكومة في مايو (آيار) 1992 استعدادها لتطبيق الشريعة الإسلامية بشكل تدريجي، وذلك ردا على إعلان الحزب الإسلامي خطته لتطبيق الشريعة في ولاية كيلانتان، بعد نجاحه في السيطرة على مقاعد الولاية في انتخابات 1990. كذلك، لم يستطع التمادي والتوسع في سياسة «أسلمة» السياسات الحكومية، مراعاة لأوضاع غير المسلمين الذين يشكلون حوالي نصف سكان ماليزيا، كما يذكر محمد فايز في دراسة له. ولقد وصفت السياسات الحكومية حينها بأنها عملية «أسلمة الأجهزة الحكومية» أو «برقرطة للإسلام» على نحو أدى إلى إثارة التساؤلات حول طبيعة النظام السياسي الماليزي وحزب أومنو الذي رفع شعار «الإسلام الحضاري». ومن ثم، التمايز بينه وبين الحزب الإسلامي، الذي يهدف إلى تطبيق الشريعة، وإن رفع شعار «الإسلام للجميع»، والمؤسس منذ أربعينات القرن الماضي. وكان يعد المعارضة الرئيسية في البلاد، رغم ما يطرحه من أطروحات تقدمية في مجال المساواة الإنسانية طمأنة للأعراق الأخرى، وفي الاقتصاد والمرأة تتفوق على ما يطرحه الإسلام السياسي في الشرق الأوسط. ولوحظ في النموذج الآسيوي بعموم محدودية تأثير حركات الإسلام السياسي والمتطرف، مثل الخلايا التابعة لـ«داعش» في إندونيسيا، أو جماعة (أبو بكر) باعشير الهادفة لتأسيس دولة في جنوب شرق آسيا، ولقد بايعت «داعش» عام 2014، وكذلك «جماعة المجاهدين الماليزيين». فكل منها لا يتعدى عدد أعضائه بضع مئات، وما زال طموح الدولة أو الإمارة الدينية بعيدا عن أجندته وطموحه على العكس من حركات متطرفة في أفريقيا شأن «بوكو حرام» أو «حركة شباب المجاهدين».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.