التشابهات والاختلافات والأصوليات بين الإسلامين الآسيوي والأفريقي

وسط تنوّع ممارسات متشدّديهما

مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)
مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)
TT

التشابهات والاختلافات والأصوليات بين الإسلامين الآسيوي والأفريقي

مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)
مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)

لا يعني وصف «الآسيوي» أو «الأفريقي» أو «الأوروبي» للإسلام إلا تأثير البيئات والقراءات فيه، وهو ينصب هنا على التاريخي المتغير وليس الإسلام النصي والثابت. وإن كان وعي فقهائنا ومتكلمينا ومؤرخي الأفكار في تراثنا، قد سبقوا للوعي بهذه الاختلافات داخل الوحدة منذ وقت مبكر، ويكفي مثالا على ذلك ما في جاء في «مقالات الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري (المتوفى سنة 324 هجرية)، وكتبه عبد القاهر البغدادي (توفي سنة 429 هجرية) في «الفرق بين الفرق»، وأبو محمد بن حزم (توفي سنة 456هجرية) في «الفصل»، وأبو الفتح الشهرستاني (المتوفى سنة 548 هجرية) في «الملل والنحل»، وغيرهم كثير.
صعدت الدراسات الثقافية للإسلام وتنميطه عبر قراءة طبعاته المختلفة، مع صعود خطر الإرهاب عالميا منذ تسعينات القرن الماضي، وخلال العقد الأول من هذا القرن، تمييزا وتنويعا ووعيا بالاختلافات الثقافية والمعرفية والوطنية، ومحاولات «النمذجة» المتعددة له.
وبرزت في هذا الخصوص عربيا مع «مدرسة الإسلاميات التطبيقية» في الجامعة التونسية، بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي، التي أصدرت عددا من الكتب المهمة في هذا الصدد مثل «الإسلام الآسيوي» لآمال قرامي، و«إسلام الخوارج» لناجية الوريمي بوعجيلة، و«إسلام المجددين» لمحمد حمزة، و«الإسلام الحركي» لعبد الرحيم بوهاها، و«الإسلام الكردي» للتهامي العبدولي، و«إسلام الفلاسفة» لمنجي لسود، وغيرها من الدراسات المهمة.
كذلك برزت أفريقيا مع ما كتبه المفكر الكيني الراحل عن «الخبرة الإسلامية في أفريقيا» سنة 2008، والمفكر الجنوب الأفريقي فريد إسحاق في كتابه «أن تكون مسلما» سنة 1999، كما ساهم في نشر هذا التصنيف عدد من المختصين الأوروبيين في الشأن الإسلامي، مثل طارق رمضان وكتابه «أن تكون مسلما أوروبيا» سنة 1999، وأوليفيه روا في كتابه «نحو إسلام أوروبي»، الذي صدر في نهاية التسعينات، وبالفرنسية أيضا.
الدراسات المذكورة آنفا كلها دراسات عن أنماط التدين أو السلوك البشري الديني، وليس عن الدين، تختلف تمثلاته باختلافات الأفراد والجماعات والثقافات لا شك.
وسنكتفي هنا بقراءة السمات المتشابهة والفارقة بين كل من «الإسلام الآسيوي» و«الإسلام الأفريقي»، وكيف تتأثر وتختلف الحركات المتشددة والمتطرفة في كل منهما عن الآخر، وفي العلاقة بالمركز الشرق الأوسطي والنموذج المهيمن في تصوراته.
أولا: التشابهات بين الإسلام الآسيوي والأفريقي:
ضبطا للاصطلاح، ينحصر مفهوم «الإسلام الآسيوي» على التمثل الإسلامي لدى المجتمعات المسلمة في جنوب شرق آسيا غالبا، وأنماط التعايش داخل حضاراتها وجماعاتها الكبيرة CIVILIZATION SINIC حسب تعبير هانتينغتون، التي تمثل الكونفوشيوسية والبوذية والهندوسية أطرها الحاكمة والغالبة تاريخيا وعصريا، والمتأثر بما يُسمى «القيم الآسيوية»، التي تُعلي قيمة العالم ومكانة الروح المصالحة بين الجماعة والفرد في إطار هذه القيم. في المقابل، ينحصر «الإسلام الأفريقي» في تمثل الإسلام وأنماط تدينه لدى الجاليات والمجتمعات المسلمة في غير الشمال الأفريقي، المنسوب لمنطقة الشرق الأوسط والإسلام العربي، وإن كان يتميز في المناطق الأكثر تحديثا، التي يمثل فيها أقلية وخاصة جنوب أفريقيا بحالة أكثر مرونة ومدنية من تلك المناطق التي يمثل غالبيتها ويجسد طموحها.
يتشابه كلا الإسلامين، الآسيوي والأفريقي، أولا في «نمط التلاقي» بين هذه المناطق والإسلام، كونه لم يكن فتوحا حربية، ولكن كان دعوة وفتوحا روحية بالأساس، عبر دعوات الدعاة والتجار والتأثيرات الاجتماعية والسلوكية للمسلمين، سواء من اليمن والجزيرة في الحالة الأولى، أو من الشمال الأفريقي في الحالة الثانية. ويمثل «التصوف» نقطة تلاق ثانية بين هذين الإسلامين، لكنه بينما كان أضعف وجاء متأثرا بالتصوف المشرقي، ومعتمدا على تراثه وأدبياته، تميز في الخبرة والتجربة الآسيوية وتبلور بشكل مستقبل واضح هناك.
أما التشابه الثالث، فهو أن كليهما اصطدم مع «تسربات وتشظيات ظاهرة الجهادية المعولمة»، وظهور حركات محافظة إصلاحية أو مجموعات متطرفة مؤمنة وداعية لإقامة الدولة الإسلامية ومرتبطة بـ«الجهادية المعولمة» وقيادتها، كـ«القاعدة» و«داعش». لكنها ظلت في الحالة الآسيوية أقل تأثيرا وأكثر محدودية في مجتمعاتها، بينما تضخمت وتصاعد تأثيرها في الحالة الإسلامية الأفريقية، شأن تنظيم «بوكو حرام» و«حركة شباب المجاهدين» وفروع «القاعدة» في الساحل والقرن الأفريقي، لاختلاف الخبرة والتاريخ وتبلور الهوية الدينية بين كليهما.
ثانيا: السمات الفارقة بين الإسلام الآسيوي والأفريقي:
يتميز الإسلام الآسيوي بأنه بعد من أبعاد الهوية، وليس بُعدها الأول أو الوحيد كما هي الحال في منطقة الشرق الأوسط، الذي يضم العالم العربي وجواره التركي والإيراني؛ حيث يعد فاعلا اجتماعيا وسياسيا في حضارات كبيرة وقديمة مستقرة، وليس فاعلا وحيدا أو متغلبا محتملا.
ولعل مما ساعد في ذلك أن الفتوحات الإسلامية لآسيا تأخرت عن مثيلتها في الجزيرة أو العراق وإيران وشمال أفريقيا. ثم إنها واجهت في الجانب الآسيوي نظما وثقافات وتراثات مكينة لم تستطع الفتوحات الإسلامية إزاحتها كليا شأن الكونفوشيوسية والهندوسية. ولقد أبهرت هذه النظم والثقافات والتراثات العلماء والرحالة المسلمين في بدايتها وكان تحولها في الغالب دعويا وسلميا، ومن ثم، أثرت طبيعة هذا التلاقي السمح في طبيعة التدين والتحول فيما بعد.
أما فيما يخص الإسلام الأفريقي، فالإسلام يُعد بُعدا أوليا أو رئيسا لدى المسلمين في القرن الأفريقي، وذابت فيه سريعا هويات كثير من القبائل والمناطق التي اعتنقته، لاسيما أنه قابل هويّات هشة وثقافات أسطورية غير مدونة، وقبائل منعزلة عن التاريخ. وبالتالي، نجح الإسلام في تحضيرها وأسس لها دولا، فعرفت مفهوم «الدولة» عن طريقه في وقت متأخر، كما هي الحال في نيجيريا أو مالي أو حتى السودان؛ إذ لا يتجاوز عدة قرون.
ومن هنا كانت فرضية إدماج الإسلام في المجتمع والجماعة والدولة، وليس إخضاع الجماعة والدولة له، سمة بارزة من سمات الإسلام الآسيوي، وهو ما يعبر عنه الخبرة الإسلامية الإندونيسية والماليزية والأقليات في الهند وغيرها بالخصوص. وفي المقابل، العكس صحيح في الحالة الأفريقية كما يعبر عنه «بوكو حرام أو «القاعدة في مالي» أو «حركة الشباب» في الصومال، وغيرها.
وفي حين تأخر تبلور الإسلام الأفريقي، وظل أكثر تأثرا بالإنتاج الشرق الأوسطي، العربي بالخصوص، تميز الإسلام الآسيوي بالتبلور الثقافي والاجتماعي، فامتلك تراثا هائلا من المؤلفات، ولا عجب، فأغلب المحدثين والفقهاء المسلمين الأقدمين ينتمون لهذه المنطقة من العالم، من البخاري والماتريدي، ولاحقا ولي الله الدهلوي حتى الآن. وكان اهتمام الهنود بعلوم الحديث والفقه معروفا بالخصوص، ومحل ثناء الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة «المنار»، ودعوة المصريين لمثل هذا الجهد في وقت مبكر، وصنعوا مدارسهم العرفانية والروحية والعلمية الخاصة، من المولوية حتى الديوبندية وغيرها، بل صنعوا رموزهم المنتمية للمكان المنفصلة عن المركز بعكس ما عليه الإسلام الأفريقي.
وبرز معبرا عن هذا النموذج مفكرون مسلمون كبار داخل الهند شأن أبي الكلام أزاد، الذي كان رفيقا للمهاتما غاندي ولال نهرو في الكفاح الاستقلال، كما كان أحد زعماء حزب المؤتمر الهندي وأحد مفسري القرآن وفقهائه، وشبلي النعماني وغيرهما، ممن لم يروا تعارضا في الإسلام بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، والسير أحمد خان، أحد مؤسسي جامعة عليغره الإسلامية وغيرهم.
كذلك كانت غنية تجربة الإسلام التاريخية في إندونيسيا؛ حيث التقى بتاريخ طويل من التعايش السلمي الذي شمل البروتستنات والكاثوليك والهندوس والبوذيين. وهو ما جعل عديدا من الباحثين يعلق أهمية كبيرة للتعددية الدينية بوصفها عمودا من أعمدة الديمقراطية (في السياق الإندونيسي). ولذلك فإن تطور الإسلام في إندونيسيا يختلف بشكل ملحوظ عن باقي البلدان المسلمة أو الإسلامية. ومنذ العام 1945 تعد البانتشاسيلا Pancasila الأساس الفلسفي الرسمي للدولة الإندونيسية، وهي كلمة سنسكريتية - هندية قديمة - تعني «المبادئ الخمسة»، وهي على الترتيب:
1- الإيمان بإله واحد أوحد.
2- إنسانية عادلة ومتحضرة.
3- وحدة إندونيسيا.
4- الديمقراطية التي ترشدها الحكمة الجُوَّانية.
5- العدالة الاجتماعية لكل الشعب الإندونيسي.
وفي فترة الرئيس سوهارتو انتشر الفكر الليبرالي المؤمن بالتصالح بين الإسلام والقيم الآسيوية، وبرز مفكرون شأن نوري خالص بجوار أطروحاته عن ذلك معهد «فرامادينا» بهدف نشر قيم الإسلام العالمية التي لا تتعارض مع المحلية. وبهذا حاول نور خالص دمج الثقافة الإسلامية بالثقافة المحلية؛ كي لا يحدث تنافر بينهما. وهذه الفكرة تعتمد على أن تعاليم الرسالة المحمدية المنصوص عليها في القرآن والسنة، تدعو إلى القيم الحضارية لا لنبذها، والتخلي عنها. ونشط تيار الإسلام الليبرالي في البلاد الذي كان يعد من أبرز ممثليه الرئيس الأسبق لإندونيسيا عبد الرحمن وحيد الذي ألف كتابا بعنوان «وهم الدولة الإسلامية»، كما نشط تيار الإسلاميين الجمهوريين المتأثر بتجربة اليسار الإسلامي في مصر، في تركيزه على غائية بُعد العدالة الاجتماعية، ومفكرون معرفيون شأن السيد نقيب العطاس من أصحاب النقد المعرفي للتراثين الغربي والإسلامي على السواء.
إن هذا الفهم السياقي يفسر لنا كذلك تجربة «الإسلام الحضاري» في التجربة الماليزية، وما عرف من توجه الرئيس مهاتير (محضير) محمد ورفقائه، رغم تأثره الشديد بمقولات الهوية والعداء للعولمة والغرب، بما سمى «برقرطة الإسلام» Bureaucratization of Islam، أي دمج الإسلام في الجهاز البيروقراطي للدولة، كما قامت حكومة مهاتير محمد في عام 1988 باتخاذ مجموعة من الإجراءات في هذا الصدد، شملت إنشاء «مؤسسة الدعوة»، لتكون مسؤولة عن تنسيق أنشطة الدعوة داخل ماليزيا، و«أسلمة» شكلية لمؤسسات الإعلام كإلزام مقدمات النشرات بوضع غطاء للرأس، والدعوة المستمرة لذلك.
بيد أن مهاتير محمد، الذي تولى الحكم سنة 1981، لم يستطع الذهاب في تلك السياسة إلى حد إقامة دولة إسلامية، أو تطبيق الشريعة، باستثناء إعلان الحكومة في مايو (آيار) 1992 استعدادها لتطبيق الشريعة الإسلامية بشكل تدريجي، وذلك ردا على إعلان الحزب الإسلامي خطته لتطبيق الشريعة في ولاية كيلانتان، بعد نجاحه في السيطرة على مقاعد الولاية في انتخابات 1990. كذلك، لم يستطع التمادي والتوسع في سياسة «أسلمة» السياسات الحكومية، مراعاة لأوضاع غير المسلمين الذين يشكلون حوالي نصف سكان ماليزيا، كما يذكر محمد فايز في دراسة له. ولقد وصفت السياسات الحكومية حينها بأنها عملية «أسلمة الأجهزة الحكومية» أو «برقرطة للإسلام» على نحو أدى إلى إثارة التساؤلات حول طبيعة النظام السياسي الماليزي وحزب أومنو الذي رفع شعار «الإسلام الحضاري». ومن ثم، التمايز بينه وبين الحزب الإسلامي، الذي يهدف إلى تطبيق الشريعة، وإن رفع شعار «الإسلام للجميع»، والمؤسس منذ أربعينات القرن الماضي. وكان يعد المعارضة الرئيسية في البلاد، رغم ما يطرحه من أطروحات تقدمية في مجال المساواة الإنسانية طمأنة للأعراق الأخرى، وفي الاقتصاد والمرأة تتفوق على ما يطرحه الإسلام السياسي في الشرق الأوسط. ولوحظ في النموذج الآسيوي بعموم محدودية تأثير حركات الإسلام السياسي والمتطرف، مثل الخلايا التابعة لـ«داعش» في إندونيسيا، أو جماعة (أبو بكر) باعشير الهادفة لتأسيس دولة في جنوب شرق آسيا، ولقد بايعت «داعش» عام 2014، وكذلك «جماعة المجاهدين الماليزيين». فكل منها لا يتعدى عدد أعضائه بضع مئات، وما زال طموح الدولة أو الإمارة الدينية بعيدا عن أجندته وطموحه على العكس من حركات متطرفة في أفريقيا شأن «بوكو حرام» أو «حركة شباب المجاهدين».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟