التشابهات والاختلافات والأصوليات بين الإسلامين الآسيوي والأفريقي

وسط تنوّع ممارسات متشدّديهما

مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)
مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)
TT

التشابهات والاختلافات والأصوليات بين الإسلامين الآسيوي والأفريقي

مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)
مجموعة من حركة طالبان الباكستانية مع زعيمها الملا فضل الله في مكان قرب قرب الحدود الافغانية (إ.ب.أ)

لا يعني وصف «الآسيوي» أو «الأفريقي» أو «الأوروبي» للإسلام إلا تأثير البيئات والقراءات فيه، وهو ينصب هنا على التاريخي المتغير وليس الإسلام النصي والثابت. وإن كان وعي فقهائنا ومتكلمينا ومؤرخي الأفكار في تراثنا، قد سبقوا للوعي بهذه الاختلافات داخل الوحدة منذ وقت مبكر، ويكفي مثالا على ذلك ما في جاء في «مقالات الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري (المتوفى سنة 324 هجرية)، وكتبه عبد القاهر البغدادي (توفي سنة 429 هجرية) في «الفرق بين الفرق»، وأبو محمد بن حزم (توفي سنة 456هجرية) في «الفصل»، وأبو الفتح الشهرستاني (المتوفى سنة 548 هجرية) في «الملل والنحل»، وغيرهم كثير.
صعدت الدراسات الثقافية للإسلام وتنميطه عبر قراءة طبعاته المختلفة، مع صعود خطر الإرهاب عالميا منذ تسعينات القرن الماضي، وخلال العقد الأول من هذا القرن، تمييزا وتنويعا ووعيا بالاختلافات الثقافية والمعرفية والوطنية، ومحاولات «النمذجة» المتعددة له.
وبرزت في هذا الخصوص عربيا مع «مدرسة الإسلاميات التطبيقية» في الجامعة التونسية، بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي، التي أصدرت عددا من الكتب المهمة في هذا الصدد مثل «الإسلام الآسيوي» لآمال قرامي، و«إسلام الخوارج» لناجية الوريمي بوعجيلة، و«إسلام المجددين» لمحمد حمزة، و«الإسلام الحركي» لعبد الرحيم بوهاها، و«الإسلام الكردي» للتهامي العبدولي، و«إسلام الفلاسفة» لمنجي لسود، وغيرها من الدراسات المهمة.
كذلك برزت أفريقيا مع ما كتبه المفكر الكيني الراحل عن «الخبرة الإسلامية في أفريقيا» سنة 2008، والمفكر الجنوب الأفريقي فريد إسحاق في كتابه «أن تكون مسلما» سنة 1999، كما ساهم في نشر هذا التصنيف عدد من المختصين الأوروبيين في الشأن الإسلامي، مثل طارق رمضان وكتابه «أن تكون مسلما أوروبيا» سنة 1999، وأوليفيه روا في كتابه «نحو إسلام أوروبي»، الذي صدر في نهاية التسعينات، وبالفرنسية أيضا.
الدراسات المذكورة آنفا كلها دراسات عن أنماط التدين أو السلوك البشري الديني، وليس عن الدين، تختلف تمثلاته باختلافات الأفراد والجماعات والثقافات لا شك.
وسنكتفي هنا بقراءة السمات المتشابهة والفارقة بين كل من «الإسلام الآسيوي» و«الإسلام الأفريقي»، وكيف تتأثر وتختلف الحركات المتشددة والمتطرفة في كل منهما عن الآخر، وفي العلاقة بالمركز الشرق الأوسطي والنموذج المهيمن في تصوراته.
أولا: التشابهات بين الإسلام الآسيوي والأفريقي:
ضبطا للاصطلاح، ينحصر مفهوم «الإسلام الآسيوي» على التمثل الإسلامي لدى المجتمعات المسلمة في جنوب شرق آسيا غالبا، وأنماط التعايش داخل حضاراتها وجماعاتها الكبيرة CIVILIZATION SINIC حسب تعبير هانتينغتون، التي تمثل الكونفوشيوسية والبوذية والهندوسية أطرها الحاكمة والغالبة تاريخيا وعصريا، والمتأثر بما يُسمى «القيم الآسيوية»، التي تُعلي قيمة العالم ومكانة الروح المصالحة بين الجماعة والفرد في إطار هذه القيم. في المقابل، ينحصر «الإسلام الأفريقي» في تمثل الإسلام وأنماط تدينه لدى الجاليات والمجتمعات المسلمة في غير الشمال الأفريقي، المنسوب لمنطقة الشرق الأوسط والإسلام العربي، وإن كان يتميز في المناطق الأكثر تحديثا، التي يمثل فيها أقلية وخاصة جنوب أفريقيا بحالة أكثر مرونة ومدنية من تلك المناطق التي يمثل غالبيتها ويجسد طموحها.
يتشابه كلا الإسلامين، الآسيوي والأفريقي، أولا في «نمط التلاقي» بين هذه المناطق والإسلام، كونه لم يكن فتوحا حربية، ولكن كان دعوة وفتوحا روحية بالأساس، عبر دعوات الدعاة والتجار والتأثيرات الاجتماعية والسلوكية للمسلمين، سواء من اليمن والجزيرة في الحالة الأولى، أو من الشمال الأفريقي في الحالة الثانية. ويمثل «التصوف» نقطة تلاق ثانية بين هذين الإسلامين، لكنه بينما كان أضعف وجاء متأثرا بالتصوف المشرقي، ومعتمدا على تراثه وأدبياته، تميز في الخبرة والتجربة الآسيوية وتبلور بشكل مستقبل واضح هناك.
أما التشابه الثالث، فهو أن كليهما اصطدم مع «تسربات وتشظيات ظاهرة الجهادية المعولمة»، وظهور حركات محافظة إصلاحية أو مجموعات متطرفة مؤمنة وداعية لإقامة الدولة الإسلامية ومرتبطة بـ«الجهادية المعولمة» وقيادتها، كـ«القاعدة» و«داعش». لكنها ظلت في الحالة الآسيوية أقل تأثيرا وأكثر محدودية في مجتمعاتها، بينما تضخمت وتصاعد تأثيرها في الحالة الإسلامية الأفريقية، شأن تنظيم «بوكو حرام» و«حركة شباب المجاهدين» وفروع «القاعدة» في الساحل والقرن الأفريقي، لاختلاف الخبرة والتاريخ وتبلور الهوية الدينية بين كليهما.
ثانيا: السمات الفارقة بين الإسلام الآسيوي والأفريقي:
يتميز الإسلام الآسيوي بأنه بعد من أبعاد الهوية، وليس بُعدها الأول أو الوحيد كما هي الحال في منطقة الشرق الأوسط، الذي يضم العالم العربي وجواره التركي والإيراني؛ حيث يعد فاعلا اجتماعيا وسياسيا في حضارات كبيرة وقديمة مستقرة، وليس فاعلا وحيدا أو متغلبا محتملا.
ولعل مما ساعد في ذلك أن الفتوحات الإسلامية لآسيا تأخرت عن مثيلتها في الجزيرة أو العراق وإيران وشمال أفريقيا. ثم إنها واجهت في الجانب الآسيوي نظما وثقافات وتراثات مكينة لم تستطع الفتوحات الإسلامية إزاحتها كليا شأن الكونفوشيوسية والهندوسية. ولقد أبهرت هذه النظم والثقافات والتراثات العلماء والرحالة المسلمين في بدايتها وكان تحولها في الغالب دعويا وسلميا، ومن ثم، أثرت طبيعة هذا التلاقي السمح في طبيعة التدين والتحول فيما بعد.
أما فيما يخص الإسلام الأفريقي، فالإسلام يُعد بُعدا أوليا أو رئيسا لدى المسلمين في القرن الأفريقي، وذابت فيه سريعا هويات كثير من القبائل والمناطق التي اعتنقته، لاسيما أنه قابل هويّات هشة وثقافات أسطورية غير مدونة، وقبائل منعزلة عن التاريخ. وبالتالي، نجح الإسلام في تحضيرها وأسس لها دولا، فعرفت مفهوم «الدولة» عن طريقه في وقت متأخر، كما هي الحال في نيجيريا أو مالي أو حتى السودان؛ إذ لا يتجاوز عدة قرون.
ومن هنا كانت فرضية إدماج الإسلام في المجتمع والجماعة والدولة، وليس إخضاع الجماعة والدولة له، سمة بارزة من سمات الإسلام الآسيوي، وهو ما يعبر عنه الخبرة الإسلامية الإندونيسية والماليزية والأقليات في الهند وغيرها بالخصوص. وفي المقابل، العكس صحيح في الحالة الأفريقية كما يعبر عنه «بوكو حرام أو «القاعدة في مالي» أو «حركة الشباب» في الصومال، وغيرها.
وفي حين تأخر تبلور الإسلام الأفريقي، وظل أكثر تأثرا بالإنتاج الشرق الأوسطي، العربي بالخصوص، تميز الإسلام الآسيوي بالتبلور الثقافي والاجتماعي، فامتلك تراثا هائلا من المؤلفات، ولا عجب، فأغلب المحدثين والفقهاء المسلمين الأقدمين ينتمون لهذه المنطقة من العالم، من البخاري والماتريدي، ولاحقا ولي الله الدهلوي حتى الآن. وكان اهتمام الهنود بعلوم الحديث والفقه معروفا بالخصوص، ومحل ثناء الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة «المنار»، ودعوة المصريين لمثل هذا الجهد في وقت مبكر، وصنعوا مدارسهم العرفانية والروحية والعلمية الخاصة، من المولوية حتى الديوبندية وغيرها، بل صنعوا رموزهم المنتمية للمكان المنفصلة عن المركز بعكس ما عليه الإسلام الأفريقي.
وبرز معبرا عن هذا النموذج مفكرون مسلمون كبار داخل الهند شأن أبي الكلام أزاد، الذي كان رفيقا للمهاتما غاندي ولال نهرو في الكفاح الاستقلال، كما كان أحد زعماء حزب المؤتمر الهندي وأحد مفسري القرآن وفقهائه، وشبلي النعماني وغيرهما، ممن لم يروا تعارضا في الإسلام بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، والسير أحمد خان، أحد مؤسسي جامعة عليغره الإسلامية وغيرهم.
كذلك كانت غنية تجربة الإسلام التاريخية في إندونيسيا؛ حيث التقى بتاريخ طويل من التعايش السلمي الذي شمل البروتستنات والكاثوليك والهندوس والبوذيين. وهو ما جعل عديدا من الباحثين يعلق أهمية كبيرة للتعددية الدينية بوصفها عمودا من أعمدة الديمقراطية (في السياق الإندونيسي). ولذلك فإن تطور الإسلام في إندونيسيا يختلف بشكل ملحوظ عن باقي البلدان المسلمة أو الإسلامية. ومنذ العام 1945 تعد البانتشاسيلا Pancasila الأساس الفلسفي الرسمي للدولة الإندونيسية، وهي كلمة سنسكريتية - هندية قديمة - تعني «المبادئ الخمسة»، وهي على الترتيب:
1- الإيمان بإله واحد أوحد.
2- إنسانية عادلة ومتحضرة.
3- وحدة إندونيسيا.
4- الديمقراطية التي ترشدها الحكمة الجُوَّانية.
5- العدالة الاجتماعية لكل الشعب الإندونيسي.
وفي فترة الرئيس سوهارتو انتشر الفكر الليبرالي المؤمن بالتصالح بين الإسلام والقيم الآسيوية، وبرز مفكرون شأن نوري خالص بجوار أطروحاته عن ذلك معهد «فرامادينا» بهدف نشر قيم الإسلام العالمية التي لا تتعارض مع المحلية. وبهذا حاول نور خالص دمج الثقافة الإسلامية بالثقافة المحلية؛ كي لا يحدث تنافر بينهما. وهذه الفكرة تعتمد على أن تعاليم الرسالة المحمدية المنصوص عليها في القرآن والسنة، تدعو إلى القيم الحضارية لا لنبذها، والتخلي عنها. ونشط تيار الإسلام الليبرالي في البلاد الذي كان يعد من أبرز ممثليه الرئيس الأسبق لإندونيسيا عبد الرحمن وحيد الذي ألف كتابا بعنوان «وهم الدولة الإسلامية»، كما نشط تيار الإسلاميين الجمهوريين المتأثر بتجربة اليسار الإسلامي في مصر، في تركيزه على غائية بُعد العدالة الاجتماعية، ومفكرون معرفيون شأن السيد نقيب العطاس من أصحاب النقد المعرفي للتراثين الغربي والإسلامي على السواء.
إن هذا الفهم السياقي يفسر لنا كذلك تجربة «الإسلام الحضاري» في التجربة الماليزية، وما عرف من توجه الرئيس مهاتير (محضير) محمد ورفقائه، رغم تأثره الشديد بمقولات الهوية والعداء للعولمة والغرب، بما سمى «برقرطة الإسلام» Bureaucratization of Islam، أي دمج الإسلام في الجهاز البيروقراطي للدولة، كما قامت حكومة مهاتير محمد في عام 1988 باتخاذ مجموعة من الإجراءات في هذا الصدد، شملت إنشاء «مؤسسة الدعوة»، لتكون مسؤولة عن تنسيق أنشطة الدعوة داخل ماليزيا، و«أسلمة» شكلية لمؤسسات الإعلام كإلزام مقدمات النشرات بوضع غطاء للرأس، والدعوة المستمرة لذلك.
بيد أن مهاتير محمد، الذي تولى الحكم سنة 1981، لم يستطع الذهاب في تلك السياسة إلى حد إقامة دولة إسلامية، أو تطبيق الشريعة، باستثناء إعلان الحكومة في مايو (آيار) 1992 استعدادها لتطبيق الشريعة الإسلامية بشكل تدريجي، وذلك ردا على إعلان الحزب الإسلامي خطته لتطبيق الشريعة في ولاية كيلانتان، بعد نجاحه في السيطرة على مقاعد الولاية في انتخابات 1990. كذلك، لم يستطع التمادي والتوسع في سياسة «أسلمة» السياسات الحكومية، مراعاة لأوضاع غير المسلمين الذين يشكلون حوالي نصف سكان ماليزيا، كما يذكر محمد فايز في دراسة له. ولقد وصفت السياسات الحكومية حينها بأنها عملية «أسلمة الأجهزة الحكومية» أو «برقرطة للإسلام» على نحو أدى إلى إثارة التساؤلات حول طبيعة النظام السياسي الماليزي وحزب أومنو الذي رفع شعار «الإسلام الحضاري». ومن ثم، التمايز بينه وبين الحزب الإسلامي، الذي يهدف إلى تطبيق الشريعة، وإن رفع شعار «الإسلام للجميع»، والمؤسس منذ أربعينات القرن الماضي. وكان يعد المعارضة الرئيسية في البلاد، رغم ما يطرحه من أطروحات تقدمية في مجال المساواة الإنسانية طمأنة للأعراق الأخرى، وفي الاقتصاد والمرأة تتفوق على ما يطرحه الإسلام السياسي في الشرق الأوسط. ولوحظ في النموذج الآسيوي بعموم محدودية تأثير حركات الإسلام السياسي والمتطرف، مثل الخلايا التابعة لـ«داعش» في إندونيسيا، أو جماعة (أبو بكر) باعشير الهادفة لتأسيس دولة في جنوب شرق آسيا، ولقد بايعت «داعش» عام 2014، وكذلك «جماعة المجاهدين الماليزيين». فكل منها لا يتعدى عدد أعضائه بضع مئات، وما زال طموح الدولة أو الإمارة الدينية بعيدا عن أجندته وطموحه على العكس من حركات متطرفة في أفريقيا شأن «بوكو حرام» أو «حركة شباب المجاهدين».



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».