سرقات البنوك حلال في السينما.. حرام في الواقع

دوافع إنسانية وأخرى محض ترفيهية تصورها الأفلام

بوني وكلايد ارفعوا أيديكما - آل باتشينو في «حرارة»
بوني وكلايد ارفعوا أيديكما - آل باتشينو في «حرارة»
TT

سرقات البنوك حلال في السينما.. حرام في الواقع

بوني وكلايد ارفعوا أيديكما - آل باتشينو في «حرارة»
بوني وكلايد ارفعوا أيديكما - آل باتشينو في «حرارة»

في السادس من هذا الشهر دخل رجل أبيض البشرة إلى أحد مصارف مدينة فينكس، بولاية أريزونا، وتوجه إلى شبّاكين وطلب المال الذي بحوزة الموظّفين اللذين استقبلاه. كانت الساعة الرابعة وخمس دقائق بعد ظهر يوم الأربعاء وكل شيء كان هادئًا. لا أحد أحس بالخطر قبل حدوثه.
لم يشهر السارق مسدسًا، بل أوحى بوجوده في جيب سترته ونال ما تمنّى وهرب بالغنيمة ولا يزال مطلوبًا من البوليس الفيدرالي. في مدى الأيام السبعة الماضية، وقعت ثماني سرقات مصارف في الولايات المتحدة (ثلاث منها في أريزونا) والكاميرات المثبّتة تكشف عن بضعة وجوه غير مستترة، لكن معظم اللصوص قبعوا تحت أغطية رأس وأحدهم لف نفسه بثياب ثقيلة فوقها سترة عمال البلديات الصفراء. بينما وضع آخر (أسود البشرة) ضمادات جراحية فوق نصف وجهه ولف عنقه بالياقة التي تستخدم إذا ما كان هناك كسر في العنق.
على موقع البوليس الفيدرالي أمثلة أخرى، وتبعًا لما هو منشور هناك نحو 22 سرقة لمصرف في الشهر الماضي تم القبض على أربعة مما قاموا بها في حين البحث جار عن الباقين. إذن سرقة المصارف لا تزال فعلاً رائجًا، والنكتة تقول إن القاضي سأل المتهم: «لماذا قمت بفعل سرقة البنك»؟ أجاب المتهم ببساطة: «لأن المال فيه». الحاجة إلى نوع من البحبوحة المادية تبقى الدافع الأول. معظم لصوص المصارف لجأوا إلى الفعلة لتأمين حاجات حياتية. الكثير منهم يعيشون تحت خط الفقر أو بمحاذاته وتوسلوا أن سرقة المصارف - لجانب أنها تحتاج إلى قلب شجاع يتحمل المخاطرة - هي السبيل الوحيد المتاح لتحقيق عائد مادي سريع.
* مشاعر مكبوتة
معظم العمليات ما زالت فردية، ربما باستثناء أن السارق يهرع إلى سيارة يقودها شريك جاهز للانطلاق سريعًا. وهناك أخرى لا تُنشر على المواقع كونها أحبطت في لحظتها. لكن لم يسجل أن أحدًا سرق مصرفًا (في السنوات الأخيرة على الأقل) لكي يجري لصديق له عملية تحويل جنسي، كما ورد في فيلم سيدني لوميت «بعد ظهر يوم وضيع» (Dog Day Afternoon)، ولا سجل اقتحام عصابة من عدّة أفراد مصرفًا في عملية معقدة كما في «أوشن 11»، أو حفر نفق تحت الأرض كما نص فيلم «عملية المصرف» (The Bank Job) لروجر دونالدسون، ولم يسجل إطلاق نار سقط عنه ضحايا على نحو ما رأيناه في فيلم سام بكنباه «الفرار»، ما يعني أن السينما دائمًا ما كانت أكثر ترفيهًا وتنوّعًا مما في الواقع حتى في مثل هذه الحالات التي تحمل كل الخطر في الواقع وكل الترفيه على الشاشة.
بداية، ينضوي فعل السرقة من البنك على قدر عال من إحياء مشاعر مكبوتة لدى قسم كبير من المشاهدين. طبعًا الغالبية العظمى منهم هي تلك التي تنتمي إلى طبقات ما تحت الثراء، لأن الثري، إذا ما كان شريرًا، لديه طرق أخرى لرفع مستوى ثروته غير المخاطرة في عمليات كهذه. أما الباقون، في معظمهم الكاسح، فهم عاجزون عن أي فعل كهذا. لا أحد خرج من فيلم بيتر ياتس «الجوهرة الساخنة» (The Hot Rock) سنة (1972)، أو من فيلم جان - بيير ملفيل «النفس الثاني» (1966)، أو من فيلم ويليام وايلر «كيف تسرق مليونًا» (1966)، أو من أي فيلم حول سرقة مصارف (نحو 150 عملاً بارزًا) ليدخل المصرف مطبّقًا ما شاهده في الواقع.
في الوقت ذاته، هو حلم دعابة يمر بالخيال ونحن نشاهد «ريفيفي» لجول داسين (1955)، أو «بوني وكلايد» لآرثر بن (1967) أو «دولارات» لرتشارد بروكس (1971) أو من الأفلام الأخرى.
الفيلم الروائي الطويل الأول في التاريخ كان حول عصابة سرقة وهو «قصة عصابة ند كيلي» تم إخراجه سنة 1903 من قِبل سينمائي مبكر اسمه تشارلز تَيت حول أحداث فعلية. ما تبقى من الفيلم اليوم 31 دقيقة يشي بسينمائي رغب في نشر الحكاية معتمدًا على مفارقاتها الحقيقية. لم يكن هناك داعيًا لعملية درامية معقّدة. اكتفى المخرج بتتبع القصّة. ليس هناك من مونتاج متواز، بل نقلت الكاميرا الأحداث كما تتابعت من المشهد الأول للأخير (وصوّرتها على هذا النحو). لكن ما سنجده هنا هو تأييد واضح لموقف ند كَلي (لاحقًا موضوع عدّة أفلام ناطقة) من القانون. عبر الكتابات على الشاشة يدرك المشاهد موضع القلب من الموضوع. تؤكد الكلمات «غباء البوليس» وأفعاله. الصورة ذاتها تبقى محايدة في هذا الشأن لكنها تشترك في الدقائق الأخيرة في هذا الموقف عندما نقرأ بكلمات مختارة أن البوليس قرر حرق الفندق الذي أوى إليه ند كلي وعصابته رغم علمه بوجود نزلاء أبرياء ليجبروا العصابة على الخروج منه. هذا على الرغم من أن العصابة كانت تقاتل رجال البوليس من على شرفات الفندق وليس من داخله.
في العام نفسه كان هناك ذلك الفيلم القصير (11 دقيقة) المعنون «سرقة القطار الكبيرة»: فيلم أميركي من إدوين س. بورتر المنقول عن أحداث حقيقية وقعت في الغرب الأميركي، وشكلت حوادث سرقة المصارف أكثر من نصف مواضيع أفلام الوسترن بعد ذلك وإلى اليوم.
* شفرة هوليوود
لكن من دون الدخول في الرصد التاريخي (ولو أنه متاح) فإن موضوع سرقة المصارف بقي نشطًا على الشاشات منذ ذلك الحين، ولو أنه شهد نقلة مهمّة في المعالجة الكلية لأفلام السرقة (والجريمة عمومًا) ما بين حقبة وأخرى.
تبعًا لشفرة إنتاج هوليودية تم الأخذ بها من عام 1934 إلى منتصف الخمسينات، وسُميت بـ«شفرة هايز»، كان على الأفلام أن تنصاع لضرورة تقديم مفادات مقبولة أخلاقيًا. في منشور حمل اسم «شفرة إنتاج» شرح كيف أن على الأفلام ألا تمجّد الخارجين على القانون ولا النساء الساقطات (مع تحديد للمعني بالفئتين المذكورتين) ولا استخدام كلمات نابية أو مشاهد عري أو تناول مخدرات (عكس ما هو منتشر على نحو كبير في سينما اليوم). كذلك على أهمية احترام العلم الأميركي وعدم إهانته. وقبل هذه الفقرة وردت واحدة تمنع استخدام كلمات مشينة بحق الرموز الدينية ومنع كلمات مثل Hell وDamn من أي حوار أو تعليق.
لكن إلى جانب هذه الغايات النبيلة، عكس حال مجتمع محافظ عندما نص كذلك على عدم إظهار علاقات حب بين السود والبيض ولا تقديم مشاهد عن الرق الأبيض (الأسود مسموح!) ولو أنه في فقرة أساسية أبرز ضرورة عدم التعرض لأي جنس بشري أو لأي «أُمّة» (ولو أن هذا لم يمنع من تعرض أمم مختلفة - بينها العربية - لأفلام تشوّهها).
حيال ذلك، وعلى نحو تلقائي، منعت هوليود تمجيد أبطال الفيلم إذا كانوا مجرمين، كما أبدت أفلام من العشرينات كما ورد في فيلم «عدو الشعب» (The Public Enemy) لويليام ولمان وبطولة جيمس كاغني (1931)، و«قيصر الصغير» لمرفن ليروي وبطولة إدوارد ج. روبنسون (1931).
تفعيل هذه النصوص كان ملزمًا، لذلك فإن كل الأفلام التي تحدّثت عن عمليات سرقة في تلك الفترة، ومن بينها «هاي سييرا» لراوول وولش (1941) و«لارسيني» للويد باكون (1942) وما تلاها، مثل «على طريق ملتو» لرتشارد كواين (1954) التزم بها. الأبطال هم مجرمون بلا ريب، لكنهم أقل شرًّا من أعوانهم ولو أنهم جميعًا ما ينتهون إما أحياء في السجون أو إلى الموت قتلاً أو إعدامًا.
على ذلك طالعتنا بعض الأفلام بتوليفات على هذا الوضع، مثل «كريس كروس» لروبرت سيودماك (1944) و - على الأخص - «الغابة الإسفلتية» لجون هيوستون (1950). في هذا الأخير يخرج اللص المحترف إرفن رايدنشنايدر (سام جافي) من السجن وأول ما يفكر به القيام بسرقة جواهر من خزينة محكمة. يجمع حوله المهارات المطلوبة. أحد هؤلاء معاون أول اسمه ديكس (سترلينغ هايدي) على شفا فقر مزمن. بالنسبة لديكس فإن حلمه ليس المال بحد ذاته، بل شراء مزرعة لتربية الجياد ويتوسل أن تساعده حصّته من المسروقات على هذا الفعل. ومع أنه في نهاية الفيلم، فإن جميع اللصوص إما يقتلون أو يدخلون السجن، إلا أن أحلام ديكس تبقى وردية والشخصية تنتمي، في الواقع، إلى تلك البطولات التي لا يمكن إلا التعاطف معها حين متابعتها.
هذا التعاطف يمتد ليشمل فيلمًا آخر من بطولة هايدن هو «القتل» للمخرج سيدني كوبريك. حققه هذا بعد انهيار الشفرة وتحرر هوليود من رقابتها سنة 1954 واحتوى ليس على شخصية واحدة تثير التعاطف بل على كل الشخصيات الماثلة التي تشترك في سرقة مكاتب سباق الخيل. هناك المحتاج لإجراء عملية لأمّه، والمغلوب على أمره حيال سطوة زوجته، والرجل (هايدن) الذي ينوي، كما في الفيلم السابق، بدء حياة جديدة. كل ذلك يتبخّر في الهواء.
بطبيعة الحال، شمل هذان الفيلمان، على الأخص، تعاطفًا مع «المحتاج»، لكن الفيلم الكبير الأول الذي مزج هذا التعاطف ببعد سياسي ورد سنة 1967 تحت عنوان «بوني وكلايد».
هذا الثنائي عاش فعليًا ونشط في الوسط الأميركي خلال العشرينات والثلاثينات. لم يسرق الناس العاديين بل اقتحم المصارف وسرق منها ثم وزّع بعض ما سرقه على عابري سبيل هزّهم الوضع الاقتصادي المتأزم في تلك السنوات («سنوات اليأس» كما تم تعريفها). في أحد المشاهد الدالّة يلتقي كلايد بورو (كما مثله وورن بايتي) وبوني باركر (لعبتها فاي داناواي) بمزارع خسر أرضه وبيته عندما وضع «البنك» يده على ممتلكاته لعدم سداد الأقساط. يعير كلايد سلاحه للرجل المعدم ليطلق النار على اليافطة التي وضعها البنك على منزل ذلك الرجل. يفعل ذلك شافيًا لغليله ثم ينادي على معاونه الأسود ويطلب منه فعل الشيء ذاته.
لكن إذ نجح هذا الفيلم نجاحًا كبيرًا (مستخدمًا كل ما نصت الشفرة على عدم استخدامه) توالت أفلام أكثر عن عمليات أكثر ولو أن معظمها عمد للترفيه وحده. في ذلك الإطار يدخل فيلم «علاقة توماس كراون» لنورمان جويسون، و«المهمة الإيطالية» لبيتر كولينسون، و«أشرطة أندرسون» لسيدني لوميت، و«دولارات» لرتشارد بروس، و«الجوهرة الساخنة» لبيتر ياتس وكلها - وسواها - ما بين 1968 و1972.
تحيلنا هذه الأفلام إلى معالجات مختلفة.
في «الجوهرة الساخنة» و«قضية توماس كراون» و«أشرطة أندرسون» اهتمام أساسي بالكيفية المعقدة لسرقة الخزائن أو النفائس. ترتيب تفصيلي للكيفية التي سيقتحم فيها اللصوص المكان، أو - كما في حالة «الجوهرة الساخنة» - كيف سيستخدم لص واحد (روبرت ردفورد) الحيلة لدخول خزائن الفندق بشخصية مزوّرة ليقتنص الجوهرة الثمينة القابعة في إحدى تلك الخزائن المحروسة جيدًا.
كاميرات المراقبة تلعب الدور الأول في «أشرطة أندرسون» وسيارات الهروب الصغيرة (ميني كوبر) في «المهمة الإيطالية». في «دولارات» (بطولة وورن بايتي) ينضوي جل الموضوع تحت جناح كيف ستحاول العصابة قتل ما انتدبته لسرقة أحد المصارف وكيف سيحاول، وصديقته غولدي هون، النفاذ منها.
الأفضل في هذا الاتجاه هو «الفرار» لسام بكنباه (1972) و«المنظّمة» لجون فلين (1973). في الأول يتم إخراج دوك ماكوي (ستيف ماكوين) من السجن بأمر خاص من مديره (بن جونسون) لكي ينفّذ له عملية سرقة مصرف، لكنه يحيطه بمجموعة من الأشرار أقواهم شأنًا قاتل محترف. بعد السرقة ينقلب دوك على الخطّة ويحتفظ وصديقته (آلي ماكغرو) بالغنيمة (بعد محاولة فاشلة لقتله). في الفصل ما قبل الأخير مواجهة كبرى بين رجال العصابة ودوك قبل التوجه مع صديقته إلى الحدود المكسيكية حيث الحياة أفضل.
«المنظّمة» حول لصين (روبرت دوفال وجون دون بايكر) يسرقان مال العصابة وهذا ما يطلق العنان لرئيسها (روبرت رايان) للنيل منهما في أحداث تكشف عن أن السارقين هما أقل شرًّا من باقي العصابة.
* معارك نارية
في الجوار نفسه (سنة 1973) لدينا «تشارلي فاريك» لدون سيغال، حيث يخرج وولتر ماثاو بالغنيمة الكبرى مع شريكه أندرو روبنسون (المجرم الأول في فيلم آخر لدون سيغال هو «ديرتي هاري») وفي أعقابهما جون دون بايكر، منتقلاً من اللص الطيب إلى القاتل المحترف. هو أيضًا يريد استعادة المال للعصابة التي كانت تغسله في أحد المصارف عندما قاما بسرقته.
هذا كله قبل أن يعود سيدني لوميت لموضوع السرقة في «بعد ظهر يوم وضيع» (1975). هنا تختلف «الأجندة» فالباعث على محاولة السرقة هو أن صوني (آل باتشينو) لديه مهمّة إنسانية (لم تخطر على بال أحد) وهي أن صديقه (جون غازال) يريد إجراء عملية جراحية للتحوّل إلى أنثى. لا يملكان المال. لكن المصرف يملكه. على الرغم من أن الفيلم مأخوذ عن تحقيق صحافي لحدث حقيقي، إلا أن بؤرة المخرج بقيت مفتعلة وتقريب الدافع للجمهور على أساس أنه دافع نبيل جاء متكلّفًا وخاليًا من طرح اجتماعي أو سياسي ربما كان في البال البعيد.
سرقات المصارف ليست سهلة ولو بدا بعضها كذلك. كلما ازداد عدد أفرادها المشتركين فيها أصبحت أصعب، وكلما ارتفعت مقدار الغنيمة فتجاوزت ما في صندوق الموظف المباشر (كما الحال في أمثلة الواقع التي بدأنا بها هذا التحقيق) زادت الخطورة. والفيلم الأمثل لذلك ما زال «حرارة» لمايكل كاين بعد 20 سنة على إنتاجه.
تلك المعارك النارية التي صاحبت العملية وتلتها بين العصابة (بقيادة آل باتشينو) ورجال البوليس من أفضل ما تم تنفيذه كـ«ميزانسين» على الشاشة بين كل المشاهد المشابهة، وهي بالعشرات. إنها من نجاح الإدارة التنفيذية ونجاح التوليف لدرجة أنها تبدو كما لو كانت قتالاً فعليًا جرى بين مسلحين ينتمون إلى ميليشيات تتقاتل في حرب أهلية ما.
ثلاثة من أفلام السرقات في السبعينات تم إعادة إنتاجها في السنوات الأخيرة، وهي «الفرار» (أخرجه روجر دونالدسون سنة 1994)، و«قضية توماس كراون» (جون ماكتيرنن، 1999)، و«العملية الإيطالية» (غراي ف. غاري، 2003). لكن عدد الأفلام التي تعاملت مع السرقات بشكل عام (أكثر من 350 فيلمًا) أو تلك التي تخصصت في مواضيع سرقة المصارف (نحو نصفها) ما زال يتردد موحيًا للغالبية من المشاهدين طراوة الحلم واستحالة الواقع.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)