صدور «التاريخ الفلسفي» بعد 15 قرنًا من تأليفه

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

صدور «التاريخ الفلسفي» بعد 15 قرنًا من تأليفه

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

بعد أكثر من خمسة عشر قرنًا على تأليفه من قبل الفيلسوف الدمشقي داماسكيوس بعنوان «حياة إيزيدور» أو «التاريخ الفلسفي» كما يفضل أن يسميه بعض الباحثين، فقد صدر مؤخرًا عن دار التكوين للتوزيع والنشر بدمشق مترجما للعربية من قبل عادل الديري ومراجعة تيسير خلف مع تعليق على حواشيه من قبل خلف مع الباحثة الإنجليزية بوليمنيا أثاناسيادي في النسخة الإنجليزية من الكتاب، والكتاب حسب الدار الناشرة له مرّ خلال الخمسة عشر قرنًا الماضية برحلة طويلة من النسخ والاجتزاء والابتسار، كادت أن تضعه في جملة المصادر المفقودة لولا اللاهوتي اليوناني فوتيوس من أبناء القرن التاسع الميلادي الذي حفظ معظم أجزائه من الضياع، رغم عبثه بترتيب الفقرات واجتزائه منها. الكتاب الذي يقع في 175صفحة من القطع الوسط للفيلسوف الدمشقي داماسكيوس تلميذ الفيلسوف اليوناني إيزيدور هو كما يقول الباحث تيسير خلف في تقديمه للكتاب أنه يعتبر بحق واحدًا من أنفس المصادر القديمة عن الأفكار والعادات والمعتقدات والطقوس التي كانت سائدة في الشرق القديم (بلاد الشام ومصر) على وجه الخصوص خلال القرن الخامس الميلادي، وقد وضعه صاحبه جريًا على عادة الفلاسفة الأفلاطونيين المحدثين الذين كانوا يكرمون معلميهم بوضع كتب تتحدث عن سيرهم ولكن فيلسوفنا الدمشقي، بالإضافة إلى ذلك وجد نفسه يضع كتابًا عن غالبية رجال عصره وليس عن معلمه إيزيدور فقط، فكان المصدر الوحيد عن الكثيرين والذين لولاه لضاع ذكرهم إلى الأبد!.. ومن مزايا هذا الكتاب الكبرى أنه أول من ذكر قصة الفيلسوفة وعالمة الرياضيات هيباتا الإسكندرانية التي ذهبت ضحية التعصب الديني، ولولا فيلسوفنا الدمشقي لما سمع أحد عنها شيئا.
الكتاب يضم تسعة فصول وهي: مصر والهلنتية - إيزيدور - الإسكندرية سيرة وتاريخ - أثينا في سبعينات القرن الخامس ميلادي - الإسكندرية في سبعينات القرن الخامس ميلادي - السلسة الذهبية - الإسكندرية في ثمانينات القرن الخامس الميلادي - سوريا في ثمانينات القرن الخامس الميلادي - أثينا في أواخر القرن. إضافة لأبواب أخرى ومنها شهادة كتبها فوتيوس وكشاف الأعلام والأماكن ومراجع مع مقدمة للمترجم عن الفيلسوف الدمشقي وحياته وكتبه، حيث يخبرنا المترجم أن الفيلسوف داماسكيوس الدمشقي ولد في دمشق واكتسب اسمه منها. درس الخطابة في مدينته قبل أن ينتقل وهو في عمر العشرين مع أخيه الأصغر جوليان إلى الإسكندرية ليستكملا دراستهما على يد ثيون السكندري. وذلك في بداية ثمانينات القرن الخامس للميلاد مما يضع تاريخ ميلاده نحو عام 458م، ويرى الباحثون أن (داماسكيوس) قد حمل في طبعه وحياته كثيرا من طباع مدينته الغنية والمعقدة في آن واحد، فقد كانت دمشق سبيكة انصهرت فيها ثقافة الآراميين ثم الأنباط والهلنستيين، وشهدت النهضة والازدهار قبل اليونانيين بعصور. ويؤكد الباحثون أن داماسكيوس لم يكن ضيفًا عابرًا على الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، فتبحّر في أعماقها وفروعها وأثبت جدية وتفوقًا على أقرانه ومعاصريه بشهادة كثيرين، وتدرج في مستوى معرفته وإسهامه في نشر المعرفة حتى بلغ المنصب الذي شغله معلماه مارينوس وإيزيدور، وهو كرسي أفلاطون في إدارة الأكاديمية الفلسفية الأفلاطونية في أثينا. وقد عُرِفَ من مؤلفاته غير كتاب حياة إيزيدور الكثير ومنها: كتاب «مسائل وحلول المبادئ الأولى» وهو كتاب يتعمق في طبيعة روح الإنسان والخالق، و«دراسات في كتاب بأرمينيديز لأفلاطون»، و«دراسات في كتاب فايدو لأفلاطون» الذي ينسب خطأ إلى أوليمبيودوروس الإسكندري و«دراسات في كتاب فيلبوس لأفلاطون» و«دراسات في كتاب تيمايوس لأفلاطون»، وهو مفقود، و«دراسات في كتاب دي كويلو لأرسطو».
في فصل الكتاب «مصر والهلينة» يقول داماسكيوس: «لا أحد من الجهل بمكان إلى درجة أنه لا يدري من مصادر عدة شفهية ومكتوبة بأن المصريين هم، تقريبًا، أقدم عرق سمعنا به.. حيث يستفيض المؤلف في الشرح عن عبادات وعادات المصريين المجتمعية والحياتية وفلسفتهم، حيث يؤكد أن المصريين كانوا السباقين بين البشر في مجال فلسفة الأشياء. ومن المؤكد بأن الفيثاغورسيين نقلوا هذه الأمور لليونانيين من المصريين». وفي فصل «الإسكندرية في ثمانينات القرن الخامس ميلادي» يتحدث داماسكيوس عن علاقة إيزيدور بعالمة الرياضيات هيباتا وكيف كانا مختلفين كثيرا ليس فقط من جهة الاختلاف بين الرجل والمرأة بشكل عام، بل اختلفا كما يختلف الفيلسوف الحقيقي عن عالم الرياضيات!



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.