ليبيا.. معضلة اسمها الغويل

«حكومة الإنقاذ» في طرابلس تواجه «حكومة التوافق»

ليبيا.. معضلة اسمها الغويل
TT

ليبيا.. معضلة اسمها الغويل

ليبيا.. معضلة اسمها الغويل

تعكس قرارات منسوبة إلى خليفة الغويل، رئيس حكومة الإنقاذ الليبية، حالة ارتباك في المسار السياسي الذي تمر به البلاد، خصوصًا بعد وصول المجلس الرئاسي لـ«حكومة التوافق الوطني» برئاسة فايز السراج، إلى العاصمة أواخر الشهر الماضي. وللعلم، حكومة الغويل تباشر أعمالها من العاصمة طرابلس منذ صيف 2014، وهي غير معترف بها دوليًا، لكنها تعتمد في شرعيتها على «المؤتمر الوطني العام» المنتهية ولايته. وتحميها عدة ميليشيات.
الغويل من مدينة مصراتة، بيد أن عددًا كبيرًا من قادة هذه المدينة أصبحوا يقفون مع السراج. وحين اعتزم «المجلس الرئاسي»، المدعوم من أطراف دولية، دخول طرابلس، أغلقت جماعة الغويل مطار امعيتيقة الجوي في المدينة، لكن السراج تمكن من الدخول عبر البحر آتيًا من تونس. وهنا زاد الغويل من تحذيراته ودعا «رئيس المجلس الرئاسي» ومن معه إلى مغادرة العاصمة، والعودة من حيث أتوا. لكن بعد ذلك، أي يوم 5 أبريل (نيسان) الحالي، صدر بيان موقَّع عليه من حكومة الغويل تقول فيه إنها قرّرت التخلي عن السلطة.

لقد اعتقد البعض أن خليفة الغويل، رئيس ما يعرف بـ«حكومة الإنقاذ» الليبية، كان يقصد ببيان إعلان تخليه و«حكومته» عن السلطة تسليم السلطة لغريمه السياسي فايز السراج. إلا أنه كانت هناك ملاحظتان على البيان الصادر من حكومته. الملاحظة الأولى أنه لم يكن ممهورًا بإمضاء الغويل كما هو معتاد. الثانية أن البيان لم يتضمن أي كلام صريح عن تسليم السلطة للسرّاج، لكنه قال: «نُخْلِي مسؤوليتنا، ونبرأ أمام الله تعالى أولا، ثم أمام أبناء شعبنا الكريم، من أي تطورات قد تحدث مستقبلا».
هذه لغة فسَّرها البعض هنا على أنها تشير إلى وجود خلافات ما، تجري في الخفاء. لكن الغويل قطع طريق التكهنات، وظهر في الواجهة مجددًا، بقوله إنه لا علاقة له ببيان التخلي عن السلطة المنسوب لحكومته، وإنه مستمر في عمله.
بعض القادة المحبَطين في العاصمة يتداولون مثلا يقول إنه حين تتعرض للهزيمة عليك أن تتفحص، أولا، المحيطين بك. ومع ذلك توجد مخاوف من تحركات غير محسوبة من جانب زعماء أُخذوا على حين غرة.
* من هو الغويل؟
تبدو شخصية الغويل، أمام متغيرات سريعة مرت على طرابلس خلال الأيام القليلة الماضية، شخصية «رجل حالم»، كما يصفه أحد أنصاره.. قائد لم يتوقع أن يكون كثير من مساعديه المقربين منه، يعملون، في الخفاء، مع خصومه. مثلا كانت توجد مؤشرات لدى قائد لواء الصمود، أحد الأولية التي تعتمد عليها حكومة الغويل، بأن زعماء لميليشيات تابعة للواء، تعمل بطريقة مريبة، وقد تنحاز للسراج. حين جاء أعضاء المجلس الرئاسي كانت هذه الميليشيا تطلق النار ابتهاجا.
ويقول أحد مساعدي الغويل المخلصين إنه حين أعلن رفضه دخول السراج لطرابلس، كان يعتقد أن غالبية القوات ما زالت بين يديه، ميليشيات موالية له تسيطر على مطار امعيتيقة وتسيطر على الشوارع وعلى البحر.. استمر على هذه الثقة أكثر من ثلاثة أيام، رغم الاضطراب المفاجئ في مواقع الميليشيات.
حتى قادة في ميليشيات مصراتة ممن تربوا تحت رعايته، رفعوا فوهات البنادق ضد حكومته، وسارعوا بمبايعة خصمه السراج. لكن كان لدى الغويل أوراق جديدة يمكن بها الضغط والتأثير في قواعد اللعبة. وهذا ما ظهر فيما بعد.
في الساعات الأولى من تحرك السراج ناحية العاصمة، ظهرت سيارات الـ«جي إم سي» السوداء في شارع السكة المهم في طرابلس، وفيها عناصر من قوات أجنبية مجهزة.. «ماذا يفعلون؟ لا أحد يعرف بدقة!». هكذا يفيد مصدر في لجنة المراقبة العسكرية.
ساد اعتقاد بأن القوات الدولية أرسلت رجالها للقبض على الشخصيات التي ترفض الاتفاق السياسي وتعرقل عمل مجلس السراج السياسي. خلال ذلك كانت الغيوم تَحُول دون رؤية واضحة لما يجري على الأرض. كانت هناك أيضًا عناصر من شركات أمن غربية تتواصل مع قادة ميليشيات في أزقة طرابلس.
هذا يعني أن كل من كان يضع خطة معينة بشأن تمركزات القوة ينبغي أن يعيد حساباته سريعًا. كان بعض وزراء الغويل يجدون صعوبة في المرور من الطرق نفسها التي كانوا يعبرون منها طيلة الشهور الماضية إلى مقار الوزارات. أصبحت مغلقة. لمدة نحو أربعة أيام استمر رجل «حكومة الإنقاذ» في إلقاء الخطب كقائد واثق في أتباعه.
تكرّر الأمر حتى بعد دخول رئيس المجلس الرئاسي إلى القاعدة البحرية على شواطئ العاصمة. وبينما قام بتهديد السراج ودعاه لمغادرة المدينة فورا، كان عدة قادة، ممن يعتمد عليهم الغويل، يهيئون الأجواء للمجلس الرئاسي نفسه. ويغيرون الولاء، وكأن الأمور أُعدَّت سلفا ليوم استقبال حكومة التوافق.
* سيرة شخصية
الغويل مقرّب من جماعة الإخوان. وهو أحد أبناء مدينة مصراتة الثرية التي تبعد عن طرابلس شرقًا بنحو مائتي كيلومتر. إنها المدينة نفسها التي تقع على البحر المتوسط وينتمي إليها الكثير من قادة الميليشيات والكتائب، وكثرة من زعماء السلطة غير المعترف بها دوليًا (حكومة الإنقاذ والمؤتمر الوطني العام)، بالإضافة إلى ضباط كُثُر على رأس جهاز الاستخبارات.
تخرَّج الغويل في كلية الهندسة في مدينة بنغازي عام 1986. وانخرط منذ وقت مبكر في العمل في القطاع الخاص، وحق نجاحات رغم هبوب عاصفة العقوبات الدولية التي ضربت نظام معمر القذافي في مطلع التسعينات واستمرت لمدة عشر سنوات.
ومع بداية الانتفاضة الشعبية المسلّحة التي دعمها حلف شمال الأطلسي (الناتو) للتخلص من القذافي، في 2011، لم يبخل الغويل على «الثوار» وعلى «الثورة»، وقدّم ما يستطيع من دعم للإطاحة بالنظام القديم. ومن ثم اختير ليكون من بين القيادات الرسمية في مجلس إدارة مدينته، مصراتة.
وهنا يقول أحد قيادات هذه المدينة إن الغويل كان من بين الشخصيات التي شعرت بالظلم بسبب خلوّ الحكومات التي جاءت بعد القذافي من أي تمثيل قوي وحقيقي لمصراتة.. معتبرًا أن «معظم الحكام الجدد كانوا من الشرق». والحقيقة أن أكثر رجال مصراتة المعنيين هنا هم من الموالين لجماعة الإخوان و«الجماعة الليبية المقاتلة»، أو المتعاطفين معهما. وكان معظمهم يدير الأمور من وراء ستار.. يحتفظ بعلاقات جيدة مع ممثلين دوليين من الأمم المتحدة ومن عدة سفارات غربية. لا يفضل كثير منهم الظهور في الواجهة، بمن فيهم الغويل.
بدأ التفكير الجدّي في إنهاء حكم الميليشيات ونزع السلاح من أيدي الكتائب غير النظامية، على يد رئيس الحكومة الأسبق الدكتور علي زيدان منذ أواخر عام 2013. من هنا بدأت ليبيا تنقسم على نفسها. وقتها رأي الغويل أن البلاد أصبحت في مفترق طرق حقيقي، خصوصا في الأيام الأخيرة من حكومة زيدان.. أي في الربع الأول من عام 2014.
وبمرور الشهور تغيرت الحكومة، وجاء عبد الله الثني على رأس «حكومة مؤقتة»، ليتولى مقاليد السلطة التنفيذية. ظهرت ضغوط على المؤتمر الوطني (البرلمان السابق) برئاسة ابن مدينة زوارة، نوري أبو سهمين، لكي يسلم السلطة للبرلمان الجديد برئاسة عقيلة صالح، ابن مدينة البيضاء.
حدث هذا بينما كانت غالبية القوة التي تتحكم بطرابلس تتكون من كتائب وميليشيات الزنتان.. هذه القوة كانت تميل إلى برلمان صالح، وحكومة الثني وتكره ميليشيات مصراتة. وبعدها، حصل صالح والثني على دعم قوي من الجيش الوطني الذي جمع شتاته الفريق أول خليفة حفتر. وكل هذا التكتل الذي انتقل معظمه للعمل من المناطق الشرقية من البلاد بدأ يتعامل مع فريق طرابلس برمته على أنه «زمرة مؤيدة للمتطرفين».
* المواجهة.. والمتواجهون
هنا شمر الغويل عن ساعديه من جديد، مع كثير من قادة مصراتة، وبدأوا خطة للعمل على «توحيد البلاد» و«حماية ثورة 17 فبراير من خصومها ومن الراغبين في الانقلاب عليها». بهذا وجد قادة مصراتة أنفسهم في تحالف قوي وواسع مع خصوم الجيش.. أي مع باقي الميليشيات المتطرفة في العاصمة وفي عدة مدن أخرى، منها درنة وبنغازي وسبها.
من هذا الخليط تشكلت قوات «فجر ليبيا». خاضت القوات معركة مطار طرابلس الدولي الشهيرة التي أدت لإحراقه بما فيه من طائرات. وجرى إنهاض المؤتمر الوطني المنتهية ولايته، وتشكيل حكومة أطلق عليها «حكومة الإنقاذ»، ترأسها في أول الأمر عمر الحاسي، القريب من جماعة الإخوان. وبدأت الحرب تنتقل من العاصمة لتمسك بأطراف الثوب من الجنوب ومن الشرق.
وكان الغويل يراقب وينتظر ما ستسفر عنه التطورات، بينما الجدل يدور في مصراتة عن جدوى التحالف مع المتطرفين والدخول في اقتتال مع زعماء الشرق، بدلاً من البحث عن حلول سياسية معهم. لكن هذا الصوت كان بعيدا، وغير واضح تحت دوي المدافع.
اعتمد مجلس حرب طرابلس، أي «قوات فجر ليبيا» والمتحالفين معها، على «مجالس ثوار المدن» في قتال الجيش والشرطة والبرلمان. كل مجلس ثوار كان يضم خليطًا من جماعة الإخوان ومن «الجماعة الليبية المقاتلة» ومن تنظيم أنصار الشريعة المصنف عالميًا تنظيمًا إرهابيًا. حين أعلن تنظيم أنصار الشريعة موالاة «داعش»، ظهرت مشكلة، وهي أن خطب الحاسي، بشأن الاستمرار في دعم «مجالس ثوار المدن» لم تعد تصلح، من مسؤول حكومي، أمام المجتمع الدولي.
* إلى القمة
وبدأ البحث عن رجل يخلف الحاسي. وقع الاختيار على الغويل الذي سبق ترشيحه، في صيف 2014، ليكون نائبا أول لوزير الدفاع في حكومة الإنقاذ. وجاء الغويل ليقود الحكومة غير المعترف بها دوليا، وبدأ في استخدام الوسائل السياسية لإصلاح ما يمكن إصلاحه، في ظل ظروف صعبة وتقاطعات متشابكة مع قادة ميليشيات. وبدلاً من الخطب الحربية، بدأ في ترديد كلام يصلح للتعاطي معه، مثل قوله إنه مع الحوار السياسي ومع المصالحة. ومع ذلك بدا أنه يعرف كيف يدافع عن تحالف طرابلس محليًا ودوليًا. وبدا أيضًا أنه يجيد، بلغته السلسة، تجميع الأنصار لكسب النقاط على حساب برلمان طبرق وحكومة الثاني وحفتر.
على الصعيد الدولي، تمكن منذ بداية 2015 من عقد لقاءات مع أطراف معتبرة وأرسل رسلاً إلى تونس والقاهرة وإلى بلدان أخرى للبحث عن مخرج، لكن تهور المتشددين في العاصمة، وعدم قدرتهم على إخفاء التحالف مع المتهمين بالإرهاب، ومع «داعش» أيضًا، كان يتسبب في كثير من الأحيان في إعادة طرح السؤال عن علاقة حكومة الإنقاذ والمؤتمر الوطني بالمتطرفين عمومًا.
رغم لغة الغويل الأقل تشددا من خطب أعضاء في المؤتمر الوطني وفي الميليشيات، فإنه يبدو أنه كان من الصعب عليه وعلى المجموعة التي معه أن تنخرط، إلى النهاية، في حوار الصخيرات الذي يسعى لجمع الأفرقاء الليبيين.. «ماذا عن الثوار؟»، كان هذا من الأسئلة التي طرحها الغويل على المشاركين في التفاوض.
«وماذا عن دماء الشهداء؟».. هذا سؤال آخر. اتخذ الغويل موقفًا رافضًا للسرّاج، خصوصًا بعدما زار هذا الأخير برلمان طبرق، والفريق أول حفتر، وبعد أن نُقل عنه أنه أثنى على عمليات الجيش الوطني في شرق البلاد. «هذا يعني أن السراج ضد مجلس ثوار بنغازي وضد ثورة فبراير».
هكذا اقتنع كل من الغويل وأبو سهمين والمفتي الليبي المقيم في العاصمة، الصادق الغرياني، وعدد من قادة الميليشيات الأخرى.
طوال الشهرين الماضيين ظل الغويل يعمل من أجل السباحة إلى شط الأمان، بينما كان تيار المياه يجذبه إلى الجانب المعاكس.
الصفقات ظلت تُعقد في الخفاء. في الليل تتحرك السيارات بأمراء الحرب للقاء مندوبي حكومات أجنبية ووكلاء استخبارات غربية. كانت المؤشرات تقول إن هناك أشياء غير طبيعية تجري في العاصمة.
وتلقى الغويل عرضا بالرضوخ لحكومة السرّاج مقابل عدم إدراج اسمه في قوائم العقوبات الدولية، لكنه رفض الموافقة، بينما كان زملاء له، من «الإخوان» و«الجماعة الليبية المقاتلة»، يدرسون هذا العرض مع قادة آخرين بعيدًا عنه. ومع ذلك، بدا أن الغويل لم يتنبه لكل هذه التطورات لعدة أيام.. أو أنه كان يؤجل اتخاذ موقف. ظل في المقابل يعمل كأن الدفة ما زالت بين يديه. يقول أحد مساعديه: «كانت لديه ثقة كبيرة في المحيطين به. لم يتصور أن العيب يمكن أن يأتي من أقرب المقربين له».
قبل دخول السرّاج إلى طرابلس بأسبوع، تحدث الغويل مع أحد كبار القيادات التي يعتمد عليها في طرابلس، عن مشكلة انقطاع التيار الكهربائي عن العاصمة. الظلام وعدم وجود كهرباء يعني عدم وجود حياة. هذا أمر كان يزيد من الضغط على السكان ويدفعهم لمناهضة حكومة الغويل.
يكشف أحد مساعديه عن أن الغويل كان يناقش الأمر مع القيادي المشار إليه، على أساس أن مشكلة انقطاع الكهرباء مشكلة إدارية عادية تتعلق بتأخير مصرف ليبيا المركزي صرف المستحقات المخصّصة لشركة الكهرباء، بينما تبين فيما بعد أنها كانت خطة من خطط التمهيد للضغط على العاصمة من أجل القبول بدخول السرّاج. ويضيف أن «خطة خنق طرابلس» ظهر أنها شملت كذلك إفراغ المصارف من العملة الأجنبية ومن الرواتب، وإغلاق مخازن السلع التموينية وعرقلة عمل المراكز الطبية وسحب بطاقات شحن خطوط الهواتف الجوالة من منافذ البيع، وغيرها من إجراءات أصابت عموم سكان العاصمة بالإرهاق والغضب.
في خضم هذه الفوضى كان الغويل يحاول تهدئة أوضاع المدينة والتفكير في كيفية التصرف، إلى أن فوجئ، مثل كثيرين، بدخول السراج من البحر. الارتباك أصاب قادة في المؤتمر الوطني وفي الميليشيات، وانعكس على وزراء في حكومة الغويل، ونتج عن ذلك المزيد من التضارب في البيانات وفي الولاءات أيضًا.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.