الصحافة اللبنانية بين محاولات التدجين.. والترهيب

اغتيالات وعمليات خطف.. ومهاجمة مقرات الصحف ووسائل الإعلام

الصحافة اللبنانية بين محاولات التدجين.. والترهيب
TT

الصحافة اللبنانية بين محاولات التدجين.. والترهيب

الصحافة اللبنانية بين محاولات التدجين.. والترهيب

لطالما كانت الصحافة اللبنانية رائدة في العالم العربي، مستفيدة من المناخ التعددي القائم في البلاد، والانقسامات السياسية التي خلقت أرضية خصبة للآراء المختلفة، بالإضافة إلى النهضة العلمية التي كان اللبنانيون من روادها. لكن الصحافة اللبنانية دفعت غاليا، من أرواح صحافييها، ومن معاناتهم، ثمنا لمحاولات التدجين التي تناوبت الكثير من القوى – والدول – على القيام بها، ثم أتت الأزمات الاقتصادية لتضيق الخناق على هذه الصحافة التي باتت في وضع لا تحسد عليه.

لا يعتبر الاعتداء الأخير على مكاتب «الشرق الأوسط» الأول من نوعه، فتاريخ الصحافة اللبنانية مجبول بالدم، كما لا يوجد ما يدعو إلى التفاؤل بأنه الاعتداء الأخير، فالصحافة اللبنانية تعيش هاجس «التدجين» الدائم، سواء بالضغط السياسي أو الاقتصادي أو الأمني.
ويرى عميد كلية الإعلام في الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا جورج فرحة، أن الاعتداءات المتكررة على وسائل الإعلام: «هي مؤشر على غياب الدولة»، مشددًا على أن الأمور «يجب أن تعالج من قبل الدولة والقانون، وليس عبر الاعتداءات والترهيب»، مشيرًا إلى ضرورة أن يكون هناك حماية لوسائل الإعلام من الاعتداءات.
وقال فرحة لـ«الشرق الأوسط»: «إذا كان هناك من يعتبر نفسه متضررًا، فإن عليه أن يلجأ إلى القضاء والقانون الذي يفصل بين الأمور»، مشددًا على «أنني ضد كل الاعتداءات من كل الجهات على مختلف الوسائل الإعلامية». وآسف لأن الشأن السياسي في لبنان «يطغى على الإعلام»، قائلاً بأن الانتهاكات التي تعرضت لها وسائل الإعلام في لبنان «لا تحمل مؤشرات جيدة على مستوى احترام الديمقراطية وحرية الرأي في لبنان».
وترجع الباحثة في مجال الإعلام وأخلاقيات المهنة الدكتورة ماجدة أبو فاضل الاعتداءات على وسائل الإعلام، إلى «التدني في الأخلاقيات عموما»، موضحة أن «أي اعتداء أو عنف لا يحل المشاكل».
وإذ شددت على أن «معالجة الأمور تتم بتروٍ وعقلانية وبالحوار، وهي الثقافة المفقودة اليوم كون العنف يولد عنفا مضادا»، قالت: «لسوء الحظ، المنطق في لبنان ليس واردًا». وتؤكد أن الاعتداء على الإعلام «هو نتيجة سلسلة متكاملة لم تأت من فراغ. فإقصاء الرأي الآخر، يعني أن هناك مشكلة بنيوية. المنطق يقول: إن الاختلاف لا يعني أنه على المختلفين أن يلجأوا إلى العنف أو التهجم أو الاعتداء جسديا».
ولا ترى أبو فاضل أن القضية محصورة بتفكك الدولة وغياب دورها فحسب، إذ ترى أن هذا السبب «غير كاف». وتقول: «لننظر داخل المنزل كيف تتعاطى الناس مع بعضهم ويربون أولادهم، ولننظر إلى المدارس كيف تنشئ الأطفال»، مؤكدة أن الأمر «نتيجة تراكمات وتشعبات وتحتاج إلى دراسة». وتضيف أبو فاضل: «المؤسف أننا نلجأ إلى العنف والتراشق الكلامي والسبابي والقذف والقدح والذم، في وقت يتضح أن المنطق غائب. وأتأسف لهذا المشهد المؤلم الذي يظهر أننا أشخاص غير ناضجين».
إذا كانت صحيفة «الوقائع» المصرية، التي أصدرها الخديو محمد علي باشا في القاهرة سنة 1828، من أولى المطبوعات التي شهدها العالم العربي، لكنها كانت صحيفة رسمية، لـذا اعتبرت «حديقة الأخبار» التي أصدرها خليـل الخـوري فـي بيروت مطـلع يناير (كانون الثاني) 1858 أم الصحف العـربية وأول دوريـة سياسية غير رسمية تصدر على الأرض العربية.
وينقل موقع وزارة الإعلام اللبنانية عن الكاتبة ليلى حمدون في استعراضها الصحف العربية التي صدرت في ذلك العهد في العالم: نجد أن أغلبها صدر عن لبنانيين أو كان للبنانيين فضل في إصدارها، كالكونت رشيد الدحداح الذي أصدر جريدة «برجيس باريس» عام 1858، وأحمد فارس الشدياق الذي أصدر «الجوائب» في إسطنبول عام 1860. أما ثاني جريدة صدرت في لبنان، فهي «نفير سوريا»، التي أسسها المعلّم بطرس البستاني العام 1860 في بيروت، وكانت تدعو إلى الوحدة الوطنية إثر مذابح 1860 الطائفية.
وبدءا من العام 1870. بدأت طفرة لبنانية بارزة في إصدار الصحف، فصدر في ذلك العام وحده سبع جرائد ومجلات، أهمها: «البشير»، التي أنشأها الآباء اليسوعيون، و«الجنة»، أصدرها سليم البستاني، وكانت أسبوعية تجارية أدبية، وقد اشتهرت بجلب الأخبار البرقية على حسابها الخاص. أما «الجنان» التي أصدرها المعلم بطرس البستاني عام 1870، فقد كانت تصدر مرتين في الشهر، وكان شعارها «حب الوطن من الإيمان». في نفس العام، أنشأ القس لويس صابونجي «النحلة»، وكانت أسبوعية تتناول مختلف المواضيع ما عدا الدين والسياسة.
وكانت الصحف اللبنانية تتميز بطابع نقدي – سياسي حيث ظهرت مجموعة من الصحف «النقدية» التي تناولت حتى السلطان العثماني نفسه قبل أن يقيّد بعدها السلطان عبد الحميد حريّة الكتابة دافعًا ببعض الصحافيين إلى ترك لبنان إلى مصر وأوروبا وتأسيس صحف هناك. صدرت صحف سياسية كثيرة في هذه الفترة بدءًا من «الجنينة» التي أصدرها سليم البستاني. وعام 1877 صدرت «لسان الحال» لخليل سركيس وفيها ظهر أول إعلان مصوّر. وعام 1876 عرفت الصحافة أول دورية علمية متخصصة هي «المقتطف» ليعقوب صروف وفارس نمر قبل أن ينضم إليهما شاهين مكاريوس، وقد عنيت هذه الصحيفة بالمقالة العلمية والمناقشات الفكرية. ولكن موقف السلطة السلبي من مواضيعها وأصحابها حدا بالأخيرين إلى الانتقال بدورهم إلى مصر العام 1882.
وعام 1891. صدرت أول صحيفة سياسية في جبل لبنان وهي «لبنان» التي أصدرها إبراهيم الأسود واعتمدها المتصرف واصا باشا، فصارت شبه رسمية. وفي العام نفسه، أصدر خليل بدوي صحيفة «الأحوال». وبعد ثلاث سنوات جعلها يومية وكانت حينها أول صحيفة يومية في السلطنة. وفي عام 1908، تأسست صحيفة «البرق» للشاعر بشارة الخوري وانطلقت منها شرارة النضال الوطني والدعوة إلى التحرر من الاحتلالات، فطارده العثمانيون فتخفى عنهم واستمر بالكتابة باسم الأخطل الصغير.
وأواخر أيام الحكم العثماني، ازداد إصدار الصحف من لبنان، ولكنه ما لبث أن خف خلال الحرب العالمية الأولى لندرة الورق. ومع مجيء جمال باشا إلى ولاية سوريا ولبنان (1915 – 1916)، كانت فترة قمع نفذت خلالها إعدامات بحق الكثير من الصحافيين، علما بأن شهداء لبنان الذين تحتفل البلاد بهم في السادس من مايو (أيار) من كل عام بعد أن علقهم جمال باشا على المشانق في وسط بيروت، كان من بينهم الكثير من الصحافيين أمثال: فيليب وفريد الخازن، أحمد طبارة، بترو باولي، جرجي حداد، عمر حمد، عبد الغني العريسي، عارف الشهابي، سعيد عقل، محمد محمصاني وعبد الكريم الخليل.
ومنذ العام 1931، كثرت المؤتمرات والاضطرابات، ونشأت تكتلات سياسية وطائفية. لذلك صدرت صحف حزبية ملتزمة ما لبثت أن مثلت التيارات كافة. ففي العام 1933 صدرت صحيفة «Le Jour» بالفرنسية متحدثة باسم الكتلة الدستورية، وقد رأس تحريرها ميشال شيحا ثم شارل حلو قبل أن يصبح رئيسًا للجمهورية.
وكانت صحيفة «L’Orient» قد صدرت عام 1923 تحت إشراف جبرائيل خباز وجورج نقاش وكانت تساند إميل اده. وأصدر الحزب الشيوعي عام 1937 «صوت الشعب» وأصدر حزب الكتائب عام 1939 «العمل» وأصدر حزب الوحدة الوطنية عام 1940 «الطلائع».
وعندما اعتقلت سلطات الانتداب رجال الاستقلال في قلعة راشيا، صدرت صحيفتان إحداهما تحمل شعار علامة الاستفهام والأخرى شعار علامتي استفهام لتعبئة الشعب ضد الانتداب. أما في فترة الخمسينات كانت فترة القومية العربية. وخلالها صدرت دوريات حزبية ودوريات سياسية كثيرة من بينها «السفير»، فيما كانت فترة الثمانينات فترة ظهور دوريات جديدة حزبية – عسكرية، كصحيفة «أمل» وصحيفة «العهد» الناطقة بلسان ما يسمى «حزب الله» وغيرها.
وقد تعرضت الصحافة اللبنانية خلال فترات مختلفة لعمليات قمع وترهيب، كانت أبرزها في البداية مع السلطة اللبنانية التي ضغطت على الصحف اللبنانية عبر الترهيب والترغيب، فتعرض الكثير من الصحافيين للسجن، إذ كان الراحل غسان تويني نزيلا دائما للسجون، فيما كانت الإغراءات المالية تنهال على آخرين لضمان الولاء. ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية ازداد طمع الخارج بالصحافة اللبنانية، تمويلا وترهيبا. وكان للنظام السوري وقفات مطولة مع الصحافة التي كانت مكاتبها في بيروت أول ما احتلها الجيش السوري لدى دخوله لبنان، فيما كانت أصابع الاتهام التي توجهت إلى هذا النظام عن عمليات الاغتيال التي طاولت صحافيين لبنانيين، تضرب أرقاما قياسية.
اغتيالات.. واختطاف
أول الاغتيالات التي طاولت صحافيين لبنانيين، كانت من نصيب الصحافي نسيب المتنبي، الذي قتل في الثامن من مايو 1958 بخمس رصاصات، وكان اغتياله شرارة مباشرة في التمرد المسلح ضد عهد الرئيس كميل شمعون الذي كان المتنبي من أبرز مناوئيه. إذ عمّت المظاهرات والإضرابات أرجاء البلاد. واندلعت في طرابلس معارك مع الجيش وقوى الأمن الداخلي.
وفي 16 مايو 1966. اغتيل مؤسس صحيفة «الحياة» كامل مروة في مكتبه في دار «الحياة» في بيروت برصاصتين أطلقتا من مسدس كاتم للصوتً. وتردد أن الاغتيال كان بناء لأوامر صادرة من عبد الحميد السراج، وبإشراف السفير المصري لدى لبنان عبد الحميد غالب.
وفي 25 فبراير (شباط) 1980، اختُطف الصحافي اللبناني سليم اللوزي عند حاجز للقوات السورية في منطقة طريق المطار أثناء توجهه إلى مطار بيروت الدولي في طريقه إلى لندن بعد أن أمضى خمسة أيام في بيروت، أقام فيها مراسم دفن والدته. وفي الرابع من مارس (آذار) 1980، وجد راعي غنم جثّة اللوزي في منطقة عرمون.. وقد أذيبت يده اليمنى بمادة «الأسيد»، كرسالة تهديد لكل الصحافيين وقيّدت الجريمة ضد مجهول آنذاك.
وقد وصف نقيب الصحافة رياض طه اغتيال سليم اللوزي بأنّها «كارثة». وقال طه: «لا أعتقد أنّه سيبقى هناك صحافة في لبنان». ولم يطل الأمر إلا 4 أشهر على اغتيال اللوزي، حتى اغتيل رياض طه في 23 يوليو (تموز) 1980، حيث لاحق مسلحون سيارته بينما كان متوجها للقاء الرئيس سليم الحص، حينها، واعترضوه مقابل فندق الكارلتون في الروشة وفتحوا عليه النيران بأسلحتهم الرشاشة.
وفي 4 يوليو 1974. اختطف المدير المسؤول في جريدة «النهار» الصحافي ميشال أبو جودة على أيدي مجموعة فلسطينية تنتمي إلى منظمة «الصاعقة» المتحالفة مع النظام السوري. واعتبر وليد عون (ابن شقيقة أبو جودة ومرافقه الدائم) أن خاله ميشال أبو جودة كان الضحية الأولى للنظام السوري، وكانت أول عملية خطف يشهدها لبنان. وبعد أيام على اختطافه، وبعد تدخلات لعدد من الشخصيات اللبنانية والرؤساء العرب، أطلق سراح أبو جودة حيث عولج من آثار التعذيب.
وتعرّض عدد من الصحافيين اللبنانيين للخطف، ومحاولات الاغتيال، كمحاولة اغتيال ناشر صحيفة «السفير» طلال سلمان في 13 يوليو 1984، الذي تعرّض لإطلاق نار أمام منزله في منطقة رأس بيروت.
وبعد الانسحاب السوري من لبنان، عادت موجة جديدة من الاغتيالات لتضرب لبنان، وكان للصحافيين أيضا نصيبهم منها، فقد اغتيل الصحافي سمير قصير بعبوة ناسفة انفجرت في سيارته لدى محاولته إدارة محركها أمام منزله في الأشرفية صباح 2 يونيو (حزيران) 2005. ونجت الإعلامية اللبنانية مي شدياق من محاولة لاغتيالها، بعبوة ناسفة وضعت في سيارتها. وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه فُجّرت سيارة مفخخة بموكب النائب والصحافي اللبناني جبران تويني، رئيس مجلس إدارة صحيفة «النهار» على طريق المكلس شرق بيروت.
وفي العام 2008، تعرضت صحيفة «المستقبل» وتلفزيون «المستقبل» للتخريب على أيدي مقاتلين من الحزب السوري القومي الاجتماعي خلال عملية اجتياح العاصمة التي قامت بها جماعات ما يسمى «حزب الله» وحلفائها بها.
وبدوره تعرض تلفزيون «الجديد» لمحاولة إحراق من قبل عدد من الأشخاص، على خلفية مقابلة أجريت مع الشيخ أحمد الأسير.
وقالت صحيفة «المستقبل» بأن خطة مجموعة الملثّمين الخمسة التي هاجمت مبنى قناة «الجديد» في وطي المصيطبة كانت إحراق المبنى، ومن ثم الهرب وإصدار بيان باسم جهة إسلامية وهمية تتبنّى العملية «تضامنًا مع الرئيس سعد الحريري»، قبل أن تقوم بإحراق مبنى «إخبارية المستقبل» في القنطاري، وتصوير الخطوة على أنها رد فعل على إحراق «الجديد».
ولأنّ الخطة لم تنجح بسبب خطأ ارتكبه وسام علاء الدين وأدّى إلى اعتقاله، حاولت محطة «المنار» التابعة لما يسمى «حزب الله» في نشرتها الإخبارية أمس تعويم جزء من الخطة من خلال إعداد تقرير من منزل علاء الدين في زقاق البلاط تضمن مقابلات مع أفراد عائلته حيث بدت من خلفهم صورة للرئيس الشهيد رفيق الحريري، في محاولة للإيحاء بأنّ المعتدين على قناة «الجديد» يدورون في فلك «تيار المستقبل».
وكان وسام علاء الدين اعتقل بينما، كان يحمل قنبلة «مولوتوف» متجهًا إلى داخل مبنى «الجديد» لإحراق المدخل، إلا أن أحد رفاقه الخمسة أشعل بنطاله خطأ، فعاد وسام أدراجه هربًا، وبدلاً من العودة إلى السيارة التي كانت تقلّهم هرع في اتجاه موقع كان يتواجد فيه شبان من الحزب التقدمي الاشتراكي الذين سارعوا إلى توقيفه وتسليمه إلى دورية تابعة للاستقصاء.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.